تفاصيل قديمة أحب تذكرها وأنا فى المنفى الاختيارى

تفاصيل قديمة أحب تذكرها وأنا فى المنفى الاختيارى
تفاصيل قديمة أحب تذكرها وأنا فى المنفى الاختيارى

رمضان بالنسبة لى هو رمضان المنصورة الشتوى، ممطر دائماً، والمطر يعنى طين الشوارع الذى تحاول ماما حماية البيت منه بكل الطرق. يبرد الجو ويزيد الإحساس به وبالرطوبة كلما اقتربت المغارب، وكلما زاد جوع الصائمين. نلبس ملابس البيت الكستور الدافئة، وفوقها البلوفر، وفوق كل شىء الأرواب الشتوية الطويلة إلى الأرض، ونحك أيدينا فى بعضها لندفئها.
فى طفولتنا، كانت أهمية الصيام أنه تدريب على ضبط النفس. أُعطينا اختيارات صيام الأطفال. لا سحور للأطفال لأنهم، طبعاً، يجب أن يناموا مبكراً، ولساعات كافية. ممكن أن يأكلوا سحورهم قبل النوم (سحور بابا المفضل: أرز مطبوخ بالزيت، وبيض مدألج، بمعنى أنه حُمِر فى الزيت بعد سلقه، وقمر الدين). صيام الأطفال هو: إما أن يتناول الأطفال إفطاراً مغذياً فى الصباح ، ثم يصومون بقية اليوم إلى المغرب، وساعتها يأكلون ما لذ وطاب مع الأسرة. أو أن يصوم الأطفال من الصباح عندما يستيقظون (وكنا نفضل ذلك أيام المدارس، لسبب سأذكره لاحقاً). هؤلاء الأطفال الصائمون يفطرون فى موعد الغداء، أو بعده بقليل، عندما ينضج طبيخ إفطار رمضان للأسرة. يكون عليهم أن يصوموا مرة أخرى لوقت المغرب لينتظروا مشاركة القطائف أو الكنافة وقت المغرب مع باقى الأسرة. فى رمضان الصيف، الأطفال يصومون عن الأكل والعصائر، ولكن يشربون الماء بكثرة. كان أهم شىء أن نتعلم أن صوم رمضان هو بالأحرى صوم عن الكذب، عن الغضب والقَمْص، عن الكلام الوِحِش، عن غيظ الآخرين.. إلخ. 


فى رمضان طفولتى وصباى لم يُنصِّب الناس أنفسهم رقباء للحكم على الآخرين، اللهم إلا بخفة: «يا ترى صايم واللا زى كل سنة؟!» هاهاها، يضحك الاثنان، السائل والمسئول. السؤال أصلاً لا داعى له: فالكل يعرف أنّ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِى وَأَنَا أَجْزِى بِهِ». الأطفال يمدون ألسنتهم فى المدارس ليعرفوا من الصائم ومن الذى سيقولون له: يا فاطر رمضان يا خاسر دينك، كلبتنا السوداء حتقطع مصارينك! ثم ينسون الموضوع ويبدأون اللعب معاً فى الفسحة. يتوارى المسيحيون بسندويتشاتهم، ليس لأنهم يخافون من المسلمين، ولكن لأنهم يريدون المحافظة على مشاعرنا. يصبروننا على صومنا، لأننا ساعة الإفطار سنأكل كل ما نشتهيه، أما هم فصومهم حرمانه صعب، وأيامه أطول وأكثر بكثير، فنصدقهم ونبتسم لهم فى شفقة. 


رمضان بالنسبة لى ارتبط بالراديو وأوقات تحضير وجبة الإفطار، ولم يكن تليفزيوناً أبداً، إلا ربما إذا تذكرتُ فوازير رمضان من ثلاثى أضواء المسرح. الراديو بالنسبة لأسرتى كان الأساس. خلال اليوم، ككل المصريين، هناك طقوس وعادات وتقاليد لموضوع طعام الإفطار وتحضيره. ماذا سيأكلون؟ موضوع التسوق: ما وأين ومَن ومتى؟ أحسن كنفانى يمر عليه بابا فى طريق عودته من الشغل، إذا لم يهاجمه صداع الصيام الدورى. أحسن طُرشى فى منطقة قديمة فى المنصورة لا يعرفها إلا فلان أو فلانة، وهكذا الرقاق والجلاش. قمر الدين من عند بقال يونانى معين مازال يوفّر أصنافاً مستوردة (فى هذه الحالة من سوريا). البنات يجلسن على طاولة صغيرة، فى ضوء الشبابيك الرمادى، لحشو القطائف ساعة العصر (غالباً المعسلة بحشو الجبنة الراكوتا كما يحبها بابا، أو الحادقة بحشو الجبن الأبيض المهروس مع بيضة ونعناع جاف، كما تحبها ماما مع الشوربة التى لابد أن يفتتح بها الإفطار).

يدق جرس الباب فى نفس الموعد كل يوم، فتقوم إحدانا لتسليم إفطار صائم ملفوف بعناية «فدية طعام مسكين» (جدتى التى تعدت الثمانين ما عادت تستطيع الصوم)  لفردٍ ما، لا ننظر حتى لوجهه لكى لا نحرجه. نستمع لـ «سيد مع حرمه فى رمضان»، أو موهوب وسلامة، أو نقلّب فى محطات الراديو لنستمع لفوازير ما فى صوت العرب، أو مسلسل قصير ما فى إذاعة الشرق الأوسط، التى كان لا يتحرك من عليها المؤشر فى الساعات والدقائق الكثيفة ما قبل انطلاق المدفع (الذى كنا نسمعه، بوضوح، أيامها. ربما كان ينطلق قريباً من بيتنا).

كان قرآن المغرب فى إذاعة الشرق الأوسط يبدأ متأخراً عن المحطات الأخرى، وكانت الجائزة صوت الشيخ محمد رفعت فى «كل» مغرب فى رمضان. الراديو على البوفيه قريباً من يد إحدانا ساعة الإفطار. نسمع أولاً الابتهالات، ثم أمال فهمى ونتسابق فى حل الفزورة، ثم جزءاً من مسلسل شويكار وفؤاد المهندس ونتمقلس على تفاهته، ونقلب بسرعة لنستمع لمسلسل الشرق الأوسط بنجوم سينما مشاهير من إخراج محمد علوان. 


ينام الجميع فى البيت قبل منتصف الليل، استعدادا للقيام للسحور قريباً من وقت الإمساك عن الطعام فى الفجر. أختلى أنا بالراديو لأستمع إلى حلقات معادة، أرقامها بالمئات وأحيانا بالآلاف، من ألف ليلة وليلة، من إخراج الأستاذ الكبير محمد محمود شعبان. أستمخ وأستلذ يومياً، فقط فى شهر رمضان، بصوت زوزو ماضى، صوت الغواية: بلغنى أيها الملك السعيد ذو الرأى الرشيد، أنّ.......... ثم نهبط من علياء خيالنا للأسف ونعرف أن نهاية الحلقة اقتربت عندما نسمع: «مولاى...» ونعرف أنها ستسقط فى النوم، أو هكذا ستتظاهر أمام ذلك السفاح، المسحور بفن القص. ويا للعجب، رمضان المصرى يرتبط بقصص ألف ليلة وليلة: الرغبات الخفية، ومتع الحياة من الحب والجنس والأكل والتسوق، والسفر، ومعاملة الخَلق بأنواعهم وأجناسهم، والتعرف على كل عجيب! حياة ذاخرة وغنية فى رمضان مصر. 


تغير رمضان بالنسبة لى، بتغيره ليصبح رمضاناً صيفياً مرهقاً للجسد والروح. السبعينات كانت سن المراهقة وتوابعها الملخبطة بالنسبة لى، متزامناً مع انفتاح السادات، وأزمات اقتصادية متلاحقة، فتحت الباب لهجمة وهابية على مصر.

وعلى أسرتى. كانت خالتى الوحيدة قد سافرت لمرافقة زوجها الذى بدأ يعمل فى السعودية، بفلوس لم يكن أى منهما يحلم بها. ترسل خطاباتها الطويلة الرائعة. كانت قراءة خطها فى غاية الصعوبة، تستدعى كونسلتو من ماما وكل الأولاد. تعبر عن أشواقها لحياتها فى مصر التى اكتشفت ثراءها الذى لا تُعوّضه نغنغة الفلوس هناك.

ولكن ما باليد حيلة. تحكى عن جيرانها من دول عربية مختلفة: سوريا والسودان، وفلسطين. الصداقات الدافئة لنساء محصورات فى البيوت الخراسانية فى انتظار عودة الرجال من أعمالهم. تتبادلن الخبرات الثقافية من بلادهن، المختلف والمشترك، وتتعاون فى محبة ورعاية أولادهن وبناتهن. المملكة معسكر عمل كبير، فيه وافدون (هكذا يسمى الأجراء الذين وفدوا للعمل مقابل لقمة العيش السخية، مقارنة بما يكسبونه فى بلادهم) فى مقابل أهل البلد «الوطنيين» أصحاب العمل، أو فى قول آخر: الكفلاء.

ورغم مقاومة خالتى، الضحوكة المحبة للحياة، ما كان هناك مناص من غسيل المخ، فغشيتها كآبة، تشعر بها فيمن يعودون من هناك. بابا وماما قررا الذهاب للحج فى السبعينات، بإلحاح من ماما. بعدها أصبح بابا يصلى كل الفروض، وكفى، ولا سُنن. كان قبل الحج يصلى الصبح فقط.

ويقول إنّ باقى اليوم «العبادة هى فى العمل». أما ماما فتوقفت (وهى التى كانت قارئة نهمة بالعكس من بابا الذى ما كان يقرأ إلا صفحة جريدة الأهرام الأولى، وصفحة الوفيات) توقفت عن قراءة أى شىء ماعدا القرآن والأدعية.

وبدأت تلبس ما يغطى جزءاً كبيراً من شعرها، ثم كل شعرها ورقبتها، ثم شعرها ورقبتها وأى تفاصيل حتى ما تحت صدرها، فوق ملابس فضفاضة بلون ترابى، لا شكل لها. أصبح حلم «السفر» الذى يُقتصد لتوفير المال اللازم له يعنى الرحلة إلى السعودية (وليس الحجاز كما كانت تقول جدتى) فى عُمرة يا حبذا لو كانت كل عام. حلم برحلة لمقصد وحيد، من أجل عبادة أكثر، للتسوق، لتغيير روتين حياة أخذ يضيق ويخنق سكان المحروسة رويداً رويداً، مثل سمٍ أو مرض يسرى فى جسد كان صحيحاً ذا عنفوان. 


أسكن الأن وأعمل فى مدينة صغيرة فى الولايات المتحدة الأمريكية، منذ أكثر من عشر سنوات. طبعاً أحب حياتى هنا، وإلا ما كنت بقيت كل هذه السنوات. الطبيعة جميلة، والجامعة والطلاب وموارد الثقافة أكثر من أحلامى. إلا أن ما أتى بى إلى هنا بادئ ذى بدء، وقد تعديت الخمسين عاماً، كان طارداً ومتغلباً. ما جعلنى أترك كل ما تعودت عليه وأحببته كان الرغبة فى المحافظة على نفسى التى أعرفها. أصبحت مقاومة الضغط المحيط تستنفد الطاقة، خاصة فى شهر رمضان. تجنبتُ أن أكون فى مصر فى رمضان طوال السنوات الماضية. أريد أن أحتفظ بذكريات تشبه رمضان طفولتى وصباى، وليس رمضان سنواتى الأخيرة فى مصر قبل الانتقال للحياة فى منفاى الاختيارى. كنت وقتها قد أصبحت أشعر بشكشكة إبر الكراهية، التى كنت أفخر أن قلبى يخلو منها. تأتينى أفكار عنيفة، أفزع منها وأنفضها من رأسى بصعوبة، أن أجىء ببندقية طفولة أخى «الرش» وأصوّبها على ميكرفونات مساجد وزوايا تحت السلم، المتعددة جداً، القريبة من بيتى، لأخرس أصوات أقل ما يقال عنها إنها غير مناسبة. يتنافسون على الحصول على ثواب رفع الآذان، على حساب أعصابى، وكل ما تعلمته من جمال مقامات الموسيقى وأصول التقرب إلى الله بها.

يوم رمضان مجنون، على كل المستويات: الرجال وعصبيتهم وتعصبهم، النساء وحِمل مسئولية رمضان: فى الفلوس، وفى الشارع وفى البيت، وفى المطبخ، خصوصا فى المطبخ. والأطفال والضغط عليهم من كل الاتجاهات: أهاليهم، والمدرسة، والدين، والتليفزيون. الشوارع، التى لا تنام لا فى ليل ولا فى نهار. ربما بعد أن تتحطم أعصابى يوماً بعد يوم، يهدأ الشارع ساعة الفجر، ربما يهدأ بعد المغرب بنصف ساعة، لأن ما قبل المغرب بساعتين، وإلى ما بعد الأذان تكون الطرقات مسدودة ونفاد الصبر يُفقد الجميع اتزانهم فيبدأون فى ضغط آلات التنبيه فى وصلة عشوائية تستنفد ما تبقى من حِلم الحليم. كان الحل ألا أفتح شباك شقتى فى الطابق الثامن فى وسط القاهرة إلا فى الصباح الباكر جدا، لأن ما بعد الثامنة صباحاً يهجم هواء ليس بهواء. ولكن ماذا أفعل يا ربى فى الصوت الذى يغزو أذنىّ مهما سددتهما. ماذا أفعل فى ألم حساسيتى لضغط غضب البشر الذى يتصاعد بوتيرة أكيدة، ساعة بعد ساعة ويوماً بعد يوم خلال رمضان، ويصل للذروة فى أسبوع رمضان الأخير، حيث يُدبّر الناس ما تبقى من مادياتهم التى سفحوها على موائدهم بدون وعى خلال رمضان، لشراء ملابس عيد رمضان. وكل سنة وأنتم بخير، وبعُوُدة إن شاء الله. 

اقرأ ايضا | الحياة تفرض إيقاعها