صور ومشاهد لا تُنسى من رمضان

صور لا تُنسى
صور لا تُنسى

لا يمكن الحديث عن رمضان، دون استحضار تمثلات الوعى واللاوعى الثقافى الحضارى بالمعنى العام، والثقافى الدينى بوجه خاص، إذ أن الإسلام وهو يقوم روحياً وتثقيفياً، على الأركان الخمسة، فإن رمضان، يحتل موقع امتياز فى الحياة اليومية للفرد المسلم، كما فى مجتمعه، وبالنظر إلى أن بعض هذه الأركان الدينية، يمكن أن يتم عفواً، على نحو آلى أو أقرب ما يكون إلى ذلك، بالنسبة للناشئ فى بيئة مسلمة، كالشهادتين والصلاة، أو على نحو اختيارى، كالحج مرة واحدة فى العمر، لمن استطاع إليه سبيلاً، فإن صيام رمضان يتميز بالجهد الإرادى الروحى المادى الفردى، بامتناع مطلق عن المباح، طيلة النهار كامل، لمدة شهر متصل، وهو مما يؤهل رمضان، لملامسة أعماق الكينونة البشرية، بتفعيل آليات وعى ولاوعى ثقافى، يشمل كافة مجالات الحياة.  

رمضان الثقافى الدينى
وإذا كانت قدسية هذا الشهر، تمنح من مرجعيته القرآنية، باعتباره شهر أول النزول، فإن هذه القدسية، سرعان ما تمس جوار رمضان من الشهور سابقاً ولاحقاً: رجب وشعبان من جهة، وذوالقعدة وذو الحجة من جهة ثانية. وإذا كان الأخيران من الأشهر الحرم، بما تمثله هذه الأشهر من جنوح إلى السلم والأمان وقعود عن العدوانية والاحتراب، مع الركون إلى المقاصد التعبدية، فإن الصيام فى كل من رجب وشعبان، له مراتبه وفضائله الخاصة، إذ أن رجب الخير، يقترن اسمه بالإجلال والتعظيم، بما يتضمنه من معجزة الإسراء والمعراج، كما يقترن شهر شعبان بتحويل القبلة إلى بيت الله الحرام، علاوة على ملامح دينية أخرى. 

ومن الطبيعى أن هذه الأبعاد الروحية المادية التعبدية الرمضانية، بكافة إشعاعاتها، من شأنها بطبيعة الحال، أن تنعكس فى الحياة المجتمعية فى مجرياتها اليومية ومعالمها الحضارية، فرمضان سرعان ما يسرى على الألسن، ويشيع اسماً علماً مميزاً للأفراد، بجانب أسماء محمد وموسى وعيسى وغيرها من أعلام الأنبياء والرسل، كما تجرى على الألسن الكثير من مأثورات القول ومُثله، من قبيل قولهم عن فلان «لا يعجبه العجب ولا الصيام فى رجب»، بما يتضمنه ذلك من فضيلة الصوم الرجبية، لبعدها الزمنى النسبى عن رمضان، وبالتالى قلة من يمارسها.  

ويمكن القول بصفة عامة، من حيث البعد التربوى الروحى، لما يفرضه رمضان فردياً ومجتمعياً، إنه يستجيب للحاجة البشرية الأساسية، المتعلقة بملء الفراغ الروحى المرعب للإنسان فى فرديته، والذى يتطلب الإغناء، بما يمنحه للذات من طمأنينة وأمان، جراء كونها عبر ذلك، تلتزم بأداء مقابل لهبة الحياة والكون، بما فيها من خارق معجز، ومن ممتع منعم، وأعز مقابل يؤدى به فى هذا التوجه، هو الحرمان الذاتى الإرادى من الاستجابة للرغبات، ممثلاً ذلك فى آليات التعبد والتقرب للخالق، مهما اختلفت فى شأنه بعض التصورات الدينية، من توحيدية سماوية، أو بوذية أو زرادشتية، أو غيرها من مختلف الديانات، فهى بكل ما فيها، توحدها الدلالة على الحاجة البشرية إلى الاعتقاد، لملء الفراغ الروحى، بما فى ذلك الاّعتقاد نفسه، إذا جاز التعبير، بما قد يحيل إليه من إيمان مطلق أو أقرب ما يكون إلى ذلك، فى العقل أو فى المادة والقوانين الكونية، أو غير ذلك، مما من وظيفته، بثُّ الطمأنينة الذاتية فى الفرد، كما فى المجتمع ككل. 

فى التقاليد الرمضانية

إن عمق الحياة الروحية التعبدية فى رمضان، سرعان ما تتفاعل مع متطلبات الحياة المجتمعية فى جوانبها المادية الصرفة، فضلاً عن حياة المساجد والتلاوة القرآنية، لتتجسد فى مظاهر اقتصادية وتعاملات مالية، وذلك بما يرتبط بها من احتفاءات ذات طابع استهلاكى غير عادى، لمختلف الملبوسات والمأكولات والمشروبات، لا تستثنى منها فئة أو طبقة فى المجتمع المسلم، أو ذى الغالبية المسلمة، فكل يخرج فى شهر رمضان بالجديد الفائض من عاداته الاستهلاكية، وهذا مظهر محرك قوى للفاعلية الاقتصادية، وعامل فى خلق ظروف الشغل، بل إن الأمر ليمتد إلى خلق مهن موسمية تختص برمضان، يأتى فى طليعتها مهنة «النفّار» أو «المسحراتى» على اختلاف التسميات، ويجب أن نتصور أهمية ذلك فى عصور، لم تكن فيها المنبهات الآلية ولا التواصلية، على نحو ما نحن عليه اليوم، حتى إننا اليوم فى ظروف عدم الحاجة إلى المنبه البشرى لميقات السحور، نجده يطوف بنفيره الموقظ لمن هو إيقاظ أصلاً، أو فى غير حاجة إليه، وهو يطوف الأزقة والشوارع، ممتطياً دراجة هوائية، أو أية وسيلة عصرية مشابهة.

 

بيد أن أهم مظهر اجتماعى لحلول رمضان، يتمثل فى تمتين أواصر المودة بين الأسر والمعارف والأصدقاء، متمثلة فى السهرات الجماعية وتبادل الزيارات، بما يخالط ذلك من منعكسات رمضانية على النشء والتنشئة، نقتصر بالإشارة إلى معلمين منها:-

 

أولاً: فى صيام الصغار، ويقصد به الإقبال الطوعى أو التوجيهى أحياناً، للصغار على الصوم، ونذكر كم كنا نكابد ونجاهد، كى نتحمل ونحن صغار، متطلبات الصوم طول النهار -ولو ببعض الغش أحياناً- كى نُعَدّ من ذوى العزم مثل الكبار، أى بالتالى تحقيق إثبات الذات، ويدخل فى ذلك التبارى بين الصغار فى مقاومة النوم إلى إبان السحور، بما فيه من طرائف ومغامرات طفولية.

ثانياً: وتسجل الذاكرة، ما لا يزال مستمراً إلى اليوم بين بعض الفئات المجتمعية، من احتفائية خاصة، شبيهة بالعُرسية، إزاء أول يوم صيام للفتاة اليافعة، فيما قبل بلوغها سن التكليف، إذ يُعمَد إلى إعداد عُرس، بما له  من متطلبات تزيين وتمشيط وارتداء لبس وقلائد للفتاة، كما لو كان ليلة زفتها، مع التطبيل والغناء ومختلف ما هو معهود فى الأفراح، ولعل ما يتوج هذه الاعتبارات بخصوص الفتاة، أن يُقال فى شأنها إذا وصلت البلوغ الشرعى، إنها قد صامت، بمعنى أنها بلغت سن الفريضة، كما أن حالات من «زيجات» معينة، يُقال فيها عن العروس، إنها زُفّت ولمّا تصم، كناية عن الزواج المبكر حتى قبل البلوغ، ولنقل زواج القاصر.

فى الفكر والتجربة الإبداعية

لا جدال فى انعكاس مفهوم وأبعاد رمضان فى الفكر والأدب العربيين، باعتبار ذلك مندرجاً فى ظاهرة التفاعل الطبيعية، بين العوامل المعنوية والمادية المكونة للشخصية البشرية الفردية والجمعية، وباعتبار الفكر والأدب على عموم دلالاتهما، من مكونات الثقافة والحضارة الإنسانية، ومن ثم يمكن القول بتعذر تتبع الانعكاسات الرمضانية، فى الفكر والأدب، فلسفة وتشريعاً، جنساً أدبياً وأسلوباً تعبيرياً، شعراً أو سرداً بمختلف ما فى ذلك من تنوعات فرعية.

لذلك أختار أقصر الطرق وأيسرها فى التناول، كمثال عن تمثلات الوعى واللاوعى الرمضانى، فى التجليات الأدبية الإبداعية، فأقف على بعض الملامح من تجربتى الخاصة فى الكتابة، لأجد بهذه المناسبة، أن باكورة إنتاجى جاءت تحت وسم «سيدْنا قدر» وهى مجموعة قصصية، كان من المخطط لها أن تنشر على يد د. عبد العظيم أنيس، وهو إذ ذاك رئيس إدارة الكتاب العربى بالقاهرة، وذلك بمناسبة انعقاد مؤتمر الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب بالقاهرة سنة 1968، لكن صاحب دار المصراتى إذ ذاك، وهو د. على مصطفى المصراتى، «اختطفها» منا، بدعوى التمهيد لمؤتمر أدباء المغرب العربى، الذى سينعقد بطرابلس فى السنة الموالية 1969، ليتم ذلك بشهور معدودة قبل نهاية نظام الملكية فى ليبيا، حيث سيتأمم بعد ذلك الشأن الثقافى أيضاً، بما فيه دور النشر الخاصة.

وأذكر بهذه المناسبة، أن الناشر وهو صديق متفهم، حاورنى إذ ذاك فى العنوان، مقترحاً تغييره، اعتباراً لما قد يتحمله من إيحاءات عن حق أو باطل، لكننى رفضت للأسباب نفسها، ليبقى الأمر كما هو.

 

وتستلهم قصة «سيدْنا قْدر» التى تسمى بها المجموعة، ثقافة ليلة القدر، كما تترسب فى وعى ولاوعى صبية خادمة فى بيت ميسور، وهى «قرعاء» أى محرومة من نعمة الشعر، زينة وفخر كل فتاة، لتستغل فرصة الليلة الرمضانية، فتصعد إلى السطوح متحينة فرصة نزول «سيدْنا قْدر» من السماء، فى ساعة غير محددة، ما بين العشاء والفجر، ليلبى رغبات المحتاجين المترجين، لذلك تبيت الصغيرة ساهرة منتظرة، سابحة فى أحلامها وأمنياتها المتمثلة فى طلب أوحد: أن تزهو بشعر عرائسى منسدل على الكيان، وهو ما يتحقق لها فعلاً، بحيث تتحسس دفء الشعر على كتفيها مداعبة حريريته بيديها، إلى أن تنتفض مستيقظة، على دفء من حرارة ضحى، مع قوة صوت ناهر.

 

من الواضح أن ثقافة الأمل والرجاء فى الغد، مرتبطة بداعى الحرمان، مع تمثل صورة الملاك المنقذ، الذى قد تعجز أن تنتجه ظروف مجتمعية محددة، أو هى عاجزة دونه بالمطلق، ليأتى تبعاً لذلك من السماء، أى ثمرة شروط أخرى مرجوة وغير محددة، وهى إن كانت مرتبطة بصورة «سِيدْنا قْدر» الرمضانية، إلا أنها تمثل بصور أخرى، فى ديانات وإيديولوجيات مختلفة، معبرة عن عمق وتوق إنسانى مشترك.

 

وكما تحضر ثقافة رمضان فى القصة القصيرة، تحضر فى الرواية أيضاً، عن وعى لاواع، أو لاوع واع، كما هو الحال فى «رفقة السلاح... والقمر» وهى الرواية الفائزة بالجائزة الأولى لمجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1975، والتى تستلهم أجواء أكتوبر الرمضانية سنة 1973، وتعرض أنماطاً من شخصيات ومواقف، ما بين سمات أقصى الروحية، إلى أبعد صور المادية والموضوعية، منصهرة فى وحدة جوهرية، من أمل وطموح، فى تحقيق الحرية والتضحية فى سبيل الكرامة الإنسانية، كما تتجسد فى واقع الإنسان الفلسطينى، فرداً ومجتمعاً.

 

لا أريد أن أذهب إلى ما هو أبعد وأشمل فى هذا السياق، وأكتفى بما يتسع له المجال، وما دفعتنى إلى ملامسته المناسبة، وكذا القرب من واقعى الخاص، فى بعض تجليات تجربتى الإبداعية، وإلا فالنماذج كثيرة ومتنوعة، لا تقف عند ما هو أدبى، بل تشمل ما هو فنى إبداعى على العموم، من غنائى تشكيلى سينمائى وغير ذلك من المجالات الإبداعية، وحسبنا القول، إن رمضان يمثل بيئة ثقافية نوعية متجذرة فى ثقافتنا العامة،لا يقلل من فعلها وتفاعلها تحولات هامة تكنولوجية رقمية على وجه الخصوص، تابعة للتحولات المجتمعية والعالمية، بقدر ما يؤدى ذلك إلى تجددها وتلوين تجلياتها.
المغرب 

اقرأ ايضا | الاستغناء عن الطبلة وإفلات القطة