عبد الهادي عباس يكتب: القارئ الذي سجَّل القرآن للإذاعة بأوامر رئاسية!

الشيخ محمود علي البنا
الشيخ محمود علي البنا

فرح المصريون بصوته يتهادى رقراقًا سلسًا عبر أثير إذاعة القرآن الكريم قبل أذان مغرب خامس يوم من رمضان فاطمأنوا وهدأت نفوسهم بعدما استشعروا طلاوة الذكر الحكيم؛ يهدأ صوت مولانا ويشتد، يرتفع وينخفض، يتلو عدة آياتٍ بنفسٍ واحدٍ تجويدًا في سُورة النازعات: "إن في ذلك لعبرة لمن يخشى، أأنتم أشد خلقًا أم السماء بناها، رفع سمكها فسوَّاها"، يستعرضُ الآيات بقراءات مختلفة، ببديع المقامات، ولا يكاد المستمع يشرد من طلاوة الوجد القرآني الذي يملك النفس ويعلو بها من ضيق الأرض إلى رحابة السماوات العلا، فيصبح الإنسان كأنه ملاك من الملائكة له أجنحة تخفق به في فضاء الله الأزلي.. التسجيل المُذاع مشهورٌ جدًّا ويُحبه المصريون من أهل الأذن الواعية، الذين إذا قُرئ القرآن استمعوا إليه وأنصتوا، وإذا لم يُقرأ أمامهم مُصادفة بحثوا هم عنه وشنفوا آذانهم بأئمة تلاوته وتسجيلاتهم النادرة.

أنتظر بصبرٍ فارغ للمرور من أمام مسجده الزاهر بقرية شبراباص، مركز شبين الكوم، عندما أسافر إلى قريتي، تشغلني رؤية المسجد وقراءة الفاتحة على روحه منذ أن أركب الميكروباص من محطة "عبود".. إنه ابن محافظة المنوفية التي تتيه به وتفتخر أن تربتها أنجبت ذلك الصوت الملائكي الرحيب، صوت الشيخ محمود علي البنا (17 ديسمبر 1926- 20 يوليو 1985) أحد أعلام المدرسة القرآنية المصرية البارزين، والذي حفظ القرآن الكريم في كُتاب القرية على يد الشيخ موسى المنطاش، وأتم حفظه وهو في الحادية عشرة، ثم انتقل إلى مدينة طنطا لدراسة العلوم الشرعية بالجامع الأحمدي، وتلقى القراءات فيها على يد الشيخ إبراهيم سلام.. تم اختيار الشيخ البنا قارئا لمسجد عين الحياة في ختام الأربعينيات، ثم لمسجد الإمام الرفاعي في الخمسينيات، وانتقل للقراءة بالجامع الأحمدي في طنطا عام 1959، وظل به حتى عام 1980 حيث تولى القراءة بمسجد مولانا الإمام الحسين حتى وفاته.

ربما لا يعرف الكثيرون أن الشيخ البنا كان مُحبا جدًّا للرئيس جمال عبد الناصر، وأن الزعيم قد بادله حبا بحب، وبحسب ما جاء في كتاب ابنته الصحفية الكبيرة آمال البنا، فإن الرئيس أمر الإذاعة بتسجيل المصحف المرتل مع الشيخ البنا، بل وأهداه طبقًا من الفضة الخالصة هدية تذكارية موقعًا عليه من الرئيس تعبيرًا عن هذا الود المُتبادل، كما ظل الشيخ يُحيي ذكرى وفاة الزعيم متطوعًا حتى وفاته؛ وفي عصر الرئيس السادات، الذي كان مُحبا للقرآن الكريم عارفًا بأحكامه، ولأن الشيخ البنا والرئيس ابنا محافظة واحدة؛ فقد عمل القارئ الكبير لخدمة قراء القرآن ففكر وسعى مع زملائه من كبار دولة التلاوة في تأسيس نقابة للقراء تحفظ حقوقهم وتدافع عن كيانهم، وذهب بنفسه لمقابلة الرئيس السادات في استراحته بالقناطر الخيرية، ولم يخرج من عنده إلا بعد موافقة الرئيس على فكرة إنشاء النقابة، ونال البنا تشجيع الرئيس على الفكرة وتأييده لها.

سعى الشيخ أيضًا عند أصدقائه بمجلس الشعب ليوافقوا على القانون فور إقراره، وكذلك فعل باقي القراء الذين كانوا يشعرون جميعًا بهذا الجهد الكبير للشيخ البنا، وأرادوا مكافأته باختياره نقيبًا لكنه رفض، فتم اختيار صديقه الشيخ عبد الباسط عبد الصمد ليكون أول نقيب لدولة التلاوة المصرية. 

حظي رؤساء وملوك العديد من الدول العربية بصداقة الشيخ البنا، ومنهم الرئيس العراقي الأسبق الذي كان يستضيفه في القصر الرئاسي، ونال الكثير من الأوسمة والجوائز، من الرئيسين عبد الناصر والسادات، وبعد وفاته منح الرئيس مبارك اسمه وسام الامتياز من الدرجة الأولى في العلوم والفنون عام 1990؛ غير أن جائزته الحقيقية كانت المحبة الباقية للمسلمين في كل بقاع الأرض والاستئناس بصوته الرخيم، وقراءاته المحفوظة في قلوب المستمعين.   

ترك الشيخ للإذاعة ثروة هائلة من التسجيلات، إلى جانب المصحف المرتل الذي سجله عام 1967، والمصحف المجود، والمصاحف المُرتلة التي سجَّلها لإذاعات السعودية والإمارات، كما زار الشيخ البنا العديد من دول العالم، وقرأ القرآن في الحرمين الشريفين والحرم القدسي والمسجد الأموي ومعظم الدول العربية وزار العديد من دول أوربا ومن ضمنها ألمانيا عام 1978م.