الأدباء يستعيدون أيام الصبا: استراحة الشجن والحنين

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

فى إحدى ليالى شهر رمضان الماضى، تفاجأت بأن رأيت زينة رمضان الملونة، معلقة فى غرفة أحد الزملاء باستراحة جامعة المنيا، وتساءلتُ فى نفسى: لماذا يعلق زينة رمضان -التى مكانها الشوارع وواجهات البيوت- فى غرفة مغلقة لا يدخلها إلا هو؟.

إن تلك الزينة إذن داخله، فى قلبه وذاكرته، مثلما هى فى قلوبنا وذاكراتنا نحن أبناء القرى والأرياف فى مصر جميعها، رأى هذا الزميل أن يخرج شيئاً منها أمام عينيه ليؤكد معناها، ولو أمامه وحده فى مكان لا يراه سواه!.

نحن هنا فى استراحة جامعة المنيا (التى يفصلها عن القاهرة شمالاً ثلاث ساعات بالقطار، وعن أسوان جنوباً تسع ساعات) مغتربون كلنا، بيننا زملاء من أسوان والأقصر وقنا وسوهاج وأسيوط والوادى الجديد، ومن محافظات الدلتا والقاهرة وغيرها، كلنا نحمل فى دواخلنا «رمضان» مختلفًا عن رمضان الذى نمضيه بين جدران الاستراحة، وقاعات المحاضرات.

أول رمضان أمضيه فى المنيا مغترباً، كان فى شهر أكتوبر 2006، حيث التحقت بالجامعة طالباً، جئت إليها وعمرى سبعة عشر عاماً، وتخرجتُ فيها عام 2010 وعُينتُ معيداً ثم مدرساً مساعداً، ثم مدرساً بعد حصولى على الدكتوراه فى 2020، تتابعت علىَّ هنا رمضانات كثيرة، ورمضان بعيداً عن الأهل والقرية عصيب، منزوع الطعم، الصيام والقيام عبادات محضة، مجردة من أجوائها التى تجعل لها رائحة وطعماً وملمساً وذكرى.

يتوجب علىَّ فى «رمضان الاغتراب» هذا، قرب أذان العصر أن أتصل بأحد المطاعم لأحجز وجبة الإفطار، فلو تأخرت قليلاً لرفض المطعم الطلب، لأن الأكل يُعد بعدد معين لا يتجاوزه، وهذا عرف المطاعم ها هنا فى الشهر الفضيل، ولا يكون أمامى هنالك إن تأخرت سوى أن أشترى المعلبات التى تأباها المعدة فى شهر اعتادت فيه على تناول الطعام ساخناً شهياً.

أعود بذاكرتى لرمضانات هانئة، أمضيتها قبل دخولى الجامعة فى بيتنا بالأقصر، لا أنشغل فيها بالإفطار، فقط أجده معدّاً جاهزاً، حيث تمضى أمى اليوم كله فى المطبخ لتعده، بينما نحن نشاهد التلفاز من بعد الظهر حتى بعد صلاة العصر، أما هى فيسليها الراديو فى المطبخ، أترك التلفاز أحياناً وأسترق السمع لمسلسلات الراديو، وأغانيه، وبرامجه المسلية.

 

وبعد صلاة العصر، نتجمع فى الشارع، نحن الأطفال، وقد كنا اجتمعنا قبل بدء رمضان بأيام، لتعليق الزينة، كان يكفى أن يدفع كل بيت خمسين جنيها (أو أقل) لنجمع مبلغاً كبيراً نشترى به الزينة والمصابيح، ونمضى يومين فى تعليقها، ويتحول شارعنا إلى مكان كرنفالى، مليء بالألوان والإضاءة، ويسارع محمود سمير جارنا الذى يكبرنا قليلاً، بتعليق فانوسه المعدنى الكبير بين بيتنا وبيته، ويوصل له سماعة متصلة براديو، تجعل الفانوس المعلق فى منتصف الشارع، بمثابة محطة إذاعة يستمع لها الشارع كله.


فى رمضان قبيل المغرب تجد كلاً منا، نحن الأطفال، ممسكاً مدفعه فى يده، والمدفع كان مسمارًا كبيرًا رأسه بقطر اثنين سنتيمتر أو تزيد، نثقب رأسه وجذعه عند الحداد بحفرة أسطوانية عميقة، ونلحم نهاية المسمار بسيخ حديدى ليكون يداً للمدفع، بحيث يكون المسمار والسيخ فى شكل حرف (L). المسمار المثقوب فى جزئها الصغير، والسيخ هو جزؤها الكبير، بعد الانتهاء من إعداد المدفع عند الحداد قبل رمضان بأسبوع، ومع أول أيام رمضان، بعد صلاة العصر، نأتى بعلب الكبريت، نفرك البارود وننزعه من أعواد الكبريت، ونجمعه، ثم نضعه فى الثقب الذى فى رأس المسمار (المدفع)، ونضع فوق البارود مسماراً بحجم الثقب، وعند أذان المغرب، يضرب كل منا مدفعه فى حجر أمام بيته، يضغط المسمار على البارود بقوة الضربة، فينفجر البارود ويحدث صوتاً مرتفعاً، نتبارى أينا صوت مدفعه أكبر، وتستدل النساء فى البيوت على أذان المغرب بصوت المدافع، فمن لم يبلغه صوت الأذان بلغته فرقعة المدفع، وكانت بهجتنا بهذا الأمر كبيرة جداً.

فى إحدى سنوات التسعينيات، حيث كنت فى الصف الابتدائى، أردت أن يكون لى فانوس كبير أعلقه أمام بيتنا، مثل فانوس محمود سمير جارنا، لكن الفوانيس المعدنية مرتفعة السعر، وأنا مصروفى ليس كبيراً، ولن يمكنَّنى من هذا، أحضرت سلكاً من الألمونيوم، سميكا مُضفَّراً، كان يُستعمل فى توصيل الكهرباء للشوارع والبيوت وتقف عليه العصافير فى الأعالى، وأخذت أتأمل شكل الفانوس وعدد أضلاع.

وأقيس مثلها، وأعد مثلها، دون معونة من أحد، وصنعتُ فانوساً كبيراً، قوياً، ظل معى سنوات، وكانت فرحة أسرتى والجيران به كبيرة، كونه وفر ثمن الفانوس المعدنى، ولم تقل جودته بكثير عنه، واستعضتُ عن الزجاج الملون الذى فى الفوانيس المعدنية، بالسيلوفان الملوّن (أوراق ملونة شفافة من البلاستيك تشبه مادتها أكياس البلاستيك) جعلت كل جانب من جوانب الفانوس بلون، وساعدنى أبى يرحمه الله تعالى فى توصيل مصباح كهربائى للفانوس فى داخله، لينير الفانوس وتنعكس ألوان السيلوفان منه وحوله، وكم كان انعكاس الألوان على الأرض مبهجاً، وكنا نجتمع أسفله وندور، ونحن نقفز من لون إلى آخر فى دائرة واسعة كبيرة من الألوان المتداخلة الممتعة!.

قبل صلاة العشاء بقليل، نبدأ الاستعداد لها، وتبدأ صيحات الاستعجال، العشاء سيفوتنا، أركض خلف أبى لإدراك صلاة العشاء والتراويح من أولها، كنا نصليها فى مسجدنا القريب من بيتنا ثمانى ركعات، بعد كل ركعتين نسلّم ونقول (زادك الله شرفًا وكرمًا يا سيدنا محمد)، صلى الله عليه وسلم، هذه الجملة تعنى (سنواصل الصلاة وسنزيد فوق ما صليناه ركعتين أخريين) كأنها تنبيه للجميع، من أدرك الصلاة من أولها ومن جاء متأخراً ولا يعرف كم صلينا وماذا بقى، ثم نستريح بعد أول أربع ركعات، ثم نعاود ركعتين، ثم قبل النهوض لآخر ركعتين نقول معاً (اللهم صلِّ على خاتم الرسل سيدنا محمد) صلى الله عليه وسلم، مما يعنى أن الركعتين المقبلتين، هما آخر ركعتين.

وسنصلى بعدهما ركعتى الشفع وركعة الوتر. بعد العودة من المسجد تبدأ السهرة، حيث نزور أو نُزَار، وفى كل زيارة يقدم المزور لزائره أطباق الحلويات، وأكواب العصير، وتتعالى الضحكات، وتتابع المسامرات، وحكاية منك على حكاية منى، والوقت ما أجمله وأبهجه، نستمر هكذا حتى قرب الثانية عشرة صباحاً، يدخل أبى إلى النوم ساعتين قبل السحور، بينما نحن ساهرون، نشاهد التلفاز، حتى الثانية صباحاً، حيث تستيقظ أمى لإعداد السحور، ونوقظ بعد إعداده أبى، لنتسحر، وننتظر صلاة الفجر نصليها، وهكذا حتى نهاية الشهر.

فى كل عام، بعد إفطار أول يوم من رمضان، أبى يرحمه الله تعالى يقول مبتسماً: «والله ووقعت يا رمضان، باقى منك عشرتين وتسيعة» ويضحك، ونضحك، ونسأله عن معنى الجملة فيقول: «كان الجدود الكبار يقولونها». معناها (متبقٍ منك يا شهر رمضان عشرتان، يعنى عشرون يوماً، وتسيعة يعنى تسعة أيام) ويبدو أن كبار السن كانوا يقولونها قديما ليُمَنُّوا أنفسهم بقرب انقضاء الشهر منذ أول يوم فيه، حتى يهونوا على أنفسهم مشقة صومه، وفى كل عام كانت تضحكنا الجملة كأننا نسمعها للمرة الأولى، وللحقيقة فقد كان ضحك أبى يضحكنا، فرحين بأنه ضاحك، أكثر من أى شىء آخر. 

فى التسعينيات وللعشرة الأولى من الألفية، كان الاستماع إلى صوت موسيقى «تتر النهاية» لبرنامج الشيخ الشعراوى، آتياً من التلفاز، معناه أن المغرب قد اقترب موعده، وتبدأ أمى بوضع الطبلية وفوقها الصينية الألومنيوم الكبيرة، ووضع السلطات، والشوربة، وبعدها الأطعمة والعصائر، كانت تلك الموسيقى شيئاً له طعم ورائحة أشهى من الطعام ذاته، وكلما استمعت إليها مصادفة، فى أى وقت، يقفز إلى قلبى رمضان الذى كان قبل عشرين عاماً أو يزيد!.

اثنا عشر عاما مضت، أمضيتُ أكثر أيام رمضان فيها بين جدران الاستراحة فى المنيا، لا يربطنى برمضان قرية الكرنك بالأقصر، فى أقاصى صعيدنا المصرى، سوى أصوات أبى وأمى وأخواتى وأبنائهن وبناتهن، تتنامى إلىَّ عبر الهاتف مساء كل ليلة من لياليه، محاولاً أن أستغرق فى أصواتهم بكل حواسى، لأدخل معها وفيها رمضان الذى أعرفه وأحبه وأريده، رمضان الذى أفقدتنيه العلبة الخرسانية التى اسمها استراحة الجامعة بالمنيا، وهى استراحة من كل شىء سوى من الشجن والحنين، لعل الأيام القادمة، يقترب مجىء شهر رمضان من أوقات لا يكون فيها دراسة ولا عمل بالجامعات، فأعود أمضيه فى الأقصر، فى الكرنك، أصنع الزينة وأعلقها بيدى، وأستعيد فانوسى الكبير، وأشعل مصباحه، أترحم على أرواح أبى وجدودى، وأقول فى أول أيام الشهر الفضيل لأطفالنا الكثر: «وقعت يا رمضان، باقى منك عشرتين وتْسيعَة»!.

اقرأ ايضا| الأدباء يستعيدون أيام الصبا: رحلة إلى «رمضان زمان»