علاء عبد الهادي يكتب: مولاى يا مولاى.. رحلة إلى «رمضان زمان»

علاء عبد الهادي يكتب : مولاى يا مولاى
علاء عبد الهادي يكتب : مولاى يا مولاى

أعيش أسير البدايات، والغريب أنه مع تقدم العمر تكاد أن تختفى المرحلة الوسطى من الذكريات. لا يكاد يتبقى إلا تلك البدايات، البواكير. مضى العمر أو كاد ولا أزال أتذكر رمضان الكفر.. كفر مستراج، كما ينطقها أهل قريتى وليس «كفر ميت سراج» كما يجب أن تُنطق، ما إن أتذكر رمضان فى الكفر حتى تستدعى ذاكرتى صورة عم أبو اليزيد. أتذكره جيداً. أبو اليزيد المادغ كان أمهقَ قصير القامة، لا أكاد أراه إلا فى ليالى رمضان فى الكفر.

وكنت استغرب جداً إذا رأيته فى غير رمضان من غير طبلته. لا أزال طفلاً دون سن الصيام، أبكى كل ليلة لكى يوقظونى لأتناول معهم طعام السحور، ولكنهم كانوا ينسون أو يتناسون، أريد أن آكل معهم، كانت لدىَّ قناعة أنهم يخبئون أطايب الطعام إلى وقت السحور لكى يلتهموه بعيداً عنى، على ضوء لمبة جاز نمرة 10 كنت أسترق النظر باكياً أو متباكياً تحت غطاء اللحاف. كانت الحياة بسيطة لأقصى درجة، ولم يكن هناك على مائدة السحور ما يغرى بأكله.

ورغم أننا فى قرية إلا أننا لم نكن نعرف الزبادى، نعرف اللبن عندما يروب، وإذا أردنا أن نأكل «حاجة حلوة» نضع عليه عسلا أسود مُخزَّناً فى زلعة. لا نعرف غير الجبنة القريش وعندما نريد تخزينها نضعها فى الزلع لكى تتحول إلى «جبنة مِشّ».

ولا بد من وضع «دوا» معين تشتريه أمى من سوق «التلات» لكى لا يغزو الدود «المِشّ» والجبنة ويشاركنا فى طعامنا. سمعت أن هناك نوعاً آخر من الجبنة عند دكان عم سيد البراوى فى «دار الحج» فى الناحية البعيدة من قريتى، اسمها «جبنة حلومى». هكذا كانوا يسمونها.

وهى عبارة عن جبنة قابلة للفرد على رغيف العيش السوقى أما العيش الذرة الناشف فهو غير مناسب.. إذن لا شىء يغرى على السحور، ولكننى كنت أبكى كل ليلة ومرات كان قلب أمى يرق، عندما تسمع نشيجى الصامت وتخرجنى من تحت الغطاء الدافئ، وتحتضننى وتربِّت على ظهرى، حيث كان رمضان فى شهور الشتاء عندما كنت طفلاً، تلفنى أمى جيداً برداء صوف وتكلف أختى التى تكبرنى بسنوات بحملى لكى أمش وراء عمى أبو اليزيد الذى كان يجوب القرية بطبلته الكبيرة، وكان الصبية والمراهقون يتحلقون حوله يتابعونه وهو يوقد ناراً كل فترة ويمرر عليها الطبلة حتى تسخن وتحلوّ وتعلو نقرتها.

اقرأ ايضا | الكاتبة الأردنية هيا صالح: الكتابة عمل شاقّ

يدب الخلاف بين المتحلقين حول نقرة أبو اليزيد، بل يحاولون تقليدها، ويكون هناك رهان حول من يستطيع أن يكمل الجولة معه حتى النهاية، وأثناء الجولة تسمع حكايات ونوادر الصبية والمراهقين، حكايات يغلب عليها الخيال الممزوج بالأكاذيب والتهيؤات.. يقسم ابن عمى الذى يكبرنى بسنوات أنه رأى «أم كبوش» بعينيه «اللى هيكلهم الدود» فوق سطح الحاج عبد التواب. تعلو برأسها لبرهة ثم تخفيها تارة أخرى.

ويرد عليه ابن عمى الآخر معززاً روايته بأغلظ الأيمان بأنه عندما انتهى من جولته مع عم أبواليزيد المسحراتى التى وصل فيها إلى حدود دوار «المغازلة والجنادوة ودرب الشيخ» وأثناء عودته من الجولة قابله رجل لا يعرفه، وليس من سكان الكفر، يلتحف برداء للرأس، وسأله إن كان الفجر قد أذَّن أم لا، وعندما همَّ بالرد عليه وجد أنه يقف على رجل واحدة مسلوخة، عظم من دون لحم!

قرآن المغرب يصدح مساء كل أيام رمضان من راديو دكان عم الحاج سيد أحمد. الدكان قبلة أغلب رجال وشباب أهل الكفر.. يتراصون حول المصاطب المحيطة بالدكان، بعد عودتهم من الغيط، حيث يغير كل منهم ملابسه سريعاً ويلبس «هدمة» نظيفة ويعتمر الطاقية.

ويستحسن أن تكون طويلة ويذهب ليسلى صيامه عند الحج سيد أحمد حتى موعد الإفطار، ممكن تلعب دور أو «اتنين» طاولة أو دومينو، ومع اقتراب أذان المغرب يحلو الإنصات إلى تلاوة القرآن الكريم، بصوت الشيخ محمد رفعت، يهز الرجال رؤوسهم إعجاباً، وطرباً وتعلو الأصوات استحساناً.. الله.. الله، ترسخ فى وجدانى أنه لا يصح الصيام بدون الاستماع إلى القرآن الكريم بصوت قيثارة السماء الشيخ رفعت، لا مانع من الضحك واللعب.

لا رمضان من دون النقشبندى، ولا نصر الدين طوبار، ولا أتخيل  الصلاة من غير قرآن وأذان الشيخ محمد رفعت، هذه أمور تدخل عندى فى باب الفرض، تفسد روح ونكهة وقيمة رمضان فى داخلى بدونهم.

وكثيراً ما كان يتحول دور الطاولة إلى مباراة وينقسم الجلوس شيعاً، لتأييد هذا على حساب ذلك أو العكس، ولا مانع من أن يتطور الأمر كثيراً إلى خناقة، ينهيها الحج سيد أحمد بطرد الجميع وإغلاق الراديو: «قوم يا كلب يا ابن الكلب أنت وهو.. روح كمل الخناقة عند دارك»!


بمجرد انطلاق مدفع الإفطار، يهرع الرجال إلى بيوتهم، ومنهم من يتجه إلى المسجد يصلى ثم يذهب إلى بيته، كنت أعرف اقتراب حلول رمضان بهذا الرجل، الذى ينيخ جمله أمام بيت خالى على مدخل الشارع.

ويُنزل حمولته من البلح الأبريمى الناشف. كنت أستغرب كيف يأكله الناس، ولم أحب أن تقوم أمى بوضعه فى أكواب وأن تضيف عليه الماء أو حين تتوسع وتضيف الليمون.. كنت أعتبر كل هذا تعذيباً.

كان رمضان فقيراً فى قريتنا فى كل شىء، أقصى رفاهية كنا نتحصل عليها، خلاله هى زيادة عدد مرات تناول «الزفر» بذبح المزيد من الطيور، اللحمة ليست أولوية فى قريتنا ولا فى بيتنا، حتى الجزار يذبح مرة فى الأسبوع فقط.


رفاهيات الحياة شبه منعدمة، لكنها كانت أكثر بساطة وراحة، نسعد بالقليل وبأقل القليل، الرفاهية قد تكون شربة ماء باردة من زير ماء.
عندما انتقلت الأسرة إلى البندر، إلى مدينة شبين الكوم اختلف الأمر كثيراً.. دخلت على حياتى مظاهر جديدة لم أعتدها، كانت زينة رمضان تمثل قمتها، فقبيل رمضان نستعد بعمل الزينة. أهميتها تعادل أهمية شراء الكنافة والقطايف، وشراء الفول من أجل التدميس، استهوانى الأمر، رغم أنه لم يكن من اهتماماتى، لكن ثروت ابن الأستاذ عبد الله جارنا علمنى من أين أشترى أفرخ الورق القزاز الملون بألوان مبهجة.

وعلمنى كيف أقطعها، وكيف أعجن البالوظة لكى ألصق الورق. كل هذا سهل لكن الأهم هو كيف تصنع شاسيه الفانوس باتزان وكيف تربطه.. ضبط دوبارة مثلث الطائرة الورق صنع ومهارة.

وإلا ستميل الطائرة فى اتجاه زاوية دون أخرى وتهوى إلى الأرض، كذلك الذيل لا بد أن يتناسب مع جسم الطائرة.. نفس هذه الأسرار اجتهدتُ فى تعلمها عندما حاولت صناعة طائرة ورق أمتلكها وأقوم بإطلاقها، ولكن الأمر كان يحتاج إلى قليل من المال لم يتوافر لى، لم يكن الوالد يعطى أهمية لمثل تلك الألعاب «بلاش شغل عيال.. اعمل حاجة تنفعك لمستقبلك». كان الوالد يرى أن الاستعداد للعام الدراسى القادم هو أعظم استثمار للإجازة: «اسأل على أى حد أكبر منك بسنة وهات الكتب ونأنأ فيها».


التعليم وحده، ولا شىء غيره هو ما سيعطيك قيمة فى المجتمع، تبقى دكتور ولا مهندس، غير ذلك تبقى «بدون قيمة» أو كمالة عدد فى الدنيا.. قسوة وقهر، جعلانى أكره كليتين تحديداً: الطب والهندسة. 


رمضان فى شبين، غير الكفر، أكثر بهجة وملامحه الفلكلورية أكثر وضوحاً وجلاء من القرية التى كانت تنام وتغط فى نوم عميق بعد صلاة العشاء، ليبدأ يومها الجديد من صلاة الفجر أو قبله سواء لتناول السحور، أو لتناول الإفطار ثم الخروج بصحبة «البهايم» للغيط، ليست هناك رفاهية من أى شكل أو لون، أقصى رفاهية كانت الاستماع إلى ألف ليلة وليلة بصوت زوزو نبيل عبر الراديو، ولم تكن كل البيوت لديها حتى الراديو، كان هناك جهاز راديو بعينه بغطاء جلد بنى مرتبط بمن خدموا فى حرب اليمن، أو جاءهم من غزة. من امتلك هذا الجهاز كان عليه أن يتباهى به، ويتعمد أن يطوحه بيده وهو يمشى، أو يضعه بين راحتيه وهو يعتلى حماره المحمل بالسباخ أو بالعلف أو بأى شىء من الحقل.


الأمر فى شبين أكثر انفتاحاً وأكثر فلكلورية عن القرية، هنا السهر ثقافة، الأولاد والشباب يظلون فى الشوارع يلعبون حتى موعد السحور، يذهبون إلى المسجد، ثم تبدأ دورة كرة قدم حتى ترتفع الشمس عن مستوى سطح الأرض بعدة أمتار ليعود أغلبنا إلى بيوتهم ويغطوا فى نوم عميق حتى قرب صلاة المغرب، وتبدأ دورة يوم جديد. 


عرفت الطرشى، يختلف كثيرا عن «مخلل» الكفر، الذى كانوا يدسونه مع المِشّ فى زلع فوق سطح الدار، الطرشى له رائحة مختلفة، بعد صلاة العصر كنت أذهب إلى الكوبرى لأشترى من صاحب نصبة الطرشى الذى لا يظهر إلا فى رمضان، وفى طريق العودة أقف فى الدور عند حلوانى أبو باشا أشترى كنافة قطايف، عرفتها لأول مرة فى شبين، وتعلمت أمى طريقة صنعها من أم حمادة صاحبة العمارة التى سكنا فيها بعد رحيلنا عن القرية.


مع شروق يوم جديد أخترق طريقى من البر الشرقى إلى الغربى لشبين الكوم عبر الكوبرى الجديد، الذى يغلق أمام المارة ويفتح لعبور السفن الشراعية والصنادل النهرية صباحاً، كنت أُتابع من عصر اليوم السابق، كيف ترسو المراكب محملة على جنبات الريَّاح المنوفى، وكيف يقفز العمال على الشاطئ يجذبون المركب بالحبال أو بأعمدة خشبية يضربونها فى الأعماق ويدفعونها بأعلى القفص الصدرى والكتف لدفع المركب بطريقة آمنة، كل هذا فى رحلة الرسو الآمن للمركب.

ومع إشراقة الصباح، يقوم عمال الكوبرى بفتحه للمراكب وغلقه أمام السيارات والمارة، يقومون بفتحه يدوياً عبر لف التروس باستخدام مفتاح كبير يديره اثنان حتى تُفتح الفتحتان ويتعامد منتصف الكوبرى على محوره الرئيسى، منظر بديع يأخذ بالألباب، بعض من كانوا يعبرون بمراكبهم كانوا يتغنون بالأناشيد أو بالصلاة على النبى، ومناجاة الله، حتى يمن عليهم بعبور آمن من غير خسائر. 


لحظة فتح الكوبرى، أو لنقل إعادة وصله، وصل للحياة، أجد متعة فى أن أقفز مع أول لحظات إعادة التحام للكوبرى لا أنتظر حتى يكتمل التحامه، السيارات تنتظر، أما أنا فأقفز سريعاً إلى الجانب الآخر من النهر، مواصلاً رحلتى إلى محطة قطارات شبين، المحطة محاطة بسوق للخضر والفاكهة، مع أول شعاع نهار جديد يأتيه الفلاحون من القرى المجاورة لعرض بضاعتهم أو لبيعها على التجار أو بيعها بأنفسهم، هذا يركب الحمار وفوقه خيرات الغيط التى جمعها ربما هو وزوجته، التى تأتى بزوج أو أكثر من البط والحمام، لتعود مجبورة الخاطر هى وزوجها بما يجود عليهما الله.

كان صاحبنا يجد متعته فى مراقبة أحوال الناس فى الساعات الأولى من عمل السوق: كيف يتم البيع فى وكالات الخضار، والباعة، وكيف ينادون على بضائعهم، حفظت قاموسهم، لم يكن يحب الشراء من «التاجرة». كانت تتميز بسلاطة لسانها، كنت أعرفها من منديل أو غطاء للرأس تلف به عنقها، عادة ما تكون ممتلئة، وهى مكتنزة الأرداف، إذ تجلس عليها لساعات طويلة توزع النظرات والتهديدات لمن تسول له نفسه بأن يعتدى على حرمها أو منطقة نفوذها، ومن يجرؤ أن يتجاوز إما شاكياً أو معترضاً فعليه أن يدفع الفاتورة من كرامته.
تكتمل المسيرة بدخول مبنى المحطة التى بناها الإنجليز.

ولا تزال تحتفظ بطرازها المميز، والقرميد الذى يزينها، مثلها مثل كثير من المبانى التى بُنيت وقت الاحتلال الإنجليزى وبقيت إلى يومنا. أدخل المحطة منتظراً وصول قطار الصحافة، وأتابع العمال وهم يسارعون بإنزال لفَّات الصحف من القطار قبيل تحركه إلى المحطة التالية، أشترى نسختى من جريدة الأخبار «طازة» تنضح برائحة أحبار المطبعة.


أعود أدراجى إلى البيت مخترقاً الطريق العكسى، أتابع ملاح الحياة التى بدأت تدب فى الشارع مع ميلاد يوم جديد، ها هى أعداد العربات الكارو محملة بما جادت به المزارع المجاورة فى طريقها إلى السوق، كثير من العربات تقودها حمير تعرف طريقها المعتاد إلى ذلك السوق، فى الوقت التى يغط فيه صاحبها فى نوم عميق حتى يصل ويبدأ فى إفراغ حمولته.


يصل صاحبنا أخيراً إلى البيت الذى يغط كل سكانه فى نوم عميق، أعرف طريقى إلى كنبة فى غرفة الضيوف أستلقى على ظهرى أتصفح جريدة الأخبار حتى تسقط من يدى لكى أغط أنا الآخر فى نوم عميق لا أستفيق منه إلا مع أذان العصر، أستفيق على نهْر أبى لى ولأخى الأكبر: «مش نافع لكم صيام، روحوا افطروا أحسن لكم». أجرى إلى المسجد وأحرص على أن يرانى أبى عقب الصلاة، أسلم عليه وأنا أمسك المصحف وأذهب إلى أحد أعمدة المسجد أقرأ القرآن، حتى يغلبنى النوم من جديد.

مولاى يا مولاى.
لا رمضان من دون النقشبندى، ولا نصر الدين طوبار، ولا أتخيل الصلاة من غير قرآن وأذان الشيخ محمد رفعت، هذه أمور تدخل عندى فى باب الفرض، تفسد روح ونكهة وقيمة رمضان فى داخلى بدونهم.


كفانى أننى خسرت «ألف ليلة وليلة» بصوت زوزو نبيل. معها كنت ألف الكرة الأرضية مساء كل ليلة، أشن الحروب وأهادن، وأعقد المعاهدات، وأرتقى الجبال، وأغوص فى أعماق البحار، ولا أستفيق إلا مع انطلاق موسيقى كورساكوف الإبداعية معلنة انتهاء ليلة من ليالى ألف ليلة وليلة.


أنا لا أزال أعيش أسيراً لمسلسلات فؤاد المهندس الفكاهية التى كانت تبدأ عقب انطلاق مدفع الإفطار على البرنامج العام: شنبو فى المصيدة، انت اللى قتلت بابايا. أنا ابن الفوازير، فوازير ثلاثى أضواء المسرح: ساذجة وبريئة لكنها كانت تملؤنا متعة بلا حدود، كانت عبادتى وتقربى إلى الله تكتمل بالمسلسل الدينى: محمد رسول الله. الله موسيقاه تُعزف فى أضلعى بمجرد كتابة الاسم.


كنا وكان هذا رمضان، ولم يبق منه إلا مظاهر تآكلت، مظاهر بلا مضمون، كيف يتفاعل حفيدى مع بطوطة أو سمورة وهو لا يعرف عنه شيئاً، وكيف يسعد بفانوس رمضان، وهو لم يسر به يوماً فى حارة، وكيف تطرب روحه لزينة لم يصنعها بيده مع أولاد الجيران.


كان هذا رمضان، هو جزء أصيل من كيانى وروحى. لا أخجل من أن أقول إننى ما أزال أسعد بحمل الفانوس. ما زلت أتغنى بـ«وحوى يا وحوى، إياحة» فى استقبال رمضان. 
هذا تاريخى ولن أتخلى عنه.

اقرأ ايضا | أمسيات رمضانية أمام سور القاهرة