رمضان بعيون الأدباء.. سيد الشهور

رمضان بعيون الأدباء
رمضان بعيون الأدباء

حسن حافظ

شكل شهر رمضان ظاهرة دينية واجتماعية شديدة التميز والخصوصية فى وجدان المصريين، لذا كان من الطبيعى ألا تمر هذه التجربة من أمام مبدعى الرواية إلا ويلتقطوا منها الجواهر الاجتماعية والتفاصيل شديدة الخصوبة، فجاءت شهادات الروائيين فى أعمالهم أقرب ما تكون إلى عملية التوثيق لما شاهدوه وخبروه من تفاصيل رمضانية عاشوها فى أيام الصبا وتغذوا عليها فى أيام الكبر، فجاء ما كتبوه ينبض بالحياة فى الحارة المصرية ومعبرا عن أجواء رمضانية باتت علامة على تقاليد شهر الصيام فى مصر، باعتباره سيد الشهور.

الفرحة باستقبال شهر رمضان، والاحتفاء بالتفاصيل الدينية والاجتماعية المصاحبة له، كانت ركنا من أركان الرواية المصرية، فالجميع يدرك أن رمضان فى مصر شيء آخر، يمتزج الشهر الفضيل بجينات المصريين الحضارية لصنع حالة من البهجة شديدة الخصوصية، وهى الحالة التى تحدث عنها العديد من الأدباء طوال القرن العشرين، وكل واحد منهم تناول زاوية كاشفة عن التعاطى مع دخول الشهر الكريم، بداية من طه حسين الذى تحدث عن لحظة الإفطار، مرورا بيحيى حقى ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس الذين تناولوا الشهر وتفاصيله فى أعمالهم الروائية، وليس انتهاءً بجمال الغيطانى الذى تحدث عن تفاصيل التفاصيل فى متتاليات رمضانية.

 

الأديب الكبير يحيى حقى، عاش فى حى السيدة زينب العريق، وقد كتب عن تجربته فى الحى الشعبى فى رواية (قنديل أم هاشم)، وكان طبيعيا أن يتعرض لتفاصيل الحياة فى الحى الذى تلعب فيه السيدة زينب والتقاليد الدينية الدور الأبرز فى كل تفاصيل البشر، لذا تحدث يحيى حقى عن علاقة أهالى السيدة بشهر رمضان فى كتابيه (كناسة الدكان) و(من فيض الكريم)، وهما بمثابة مذكرات وذكريات حقى عن فترة حياته فى حى السيدة وغيرها من محطات الحياة، ويقول فى (كناسة الدكان) ليصف الساعات الأولى فى الصيام: "من فضائل رمضان أنه يتيح لعدد كبير من الصائمين أن يتذوقوا بعد السحور متعة فترة تفوتهم هم وأغلب الناس بقية العام لأنهم من حزب نوم الضحى، فيهم من يسهر اضطرارًا لأنه من الكادحين، وفيهم من يسهر دلعًا لأنه من عشاق الليل أعداء الشمس. إنها شقشقة الفجر، يا له من جمال، أعجب كيف يغفل كثير من الناس عنها".

 

ويعترف يحيى حقى بحبه لشهر رمضان لأنه "إلى جانب فضائله الجمة، هو الذى سينفرد بانتزاع الأسرة من التشتت، ويلم فى البيت شملها على مائدة الإفطار"، وفى كتابه (من فيض الكريم)، يصف اللحظات التى تسبق مدفع الإفطار قائلًا: "قبيل ضرب المدفع تخلو الشوارع من الناس، أقل هواء له صرير الريح، وأشد الأصوات خفوتًا يُسمع من قريب، حتى لتحاذر أن تطأ الأرض إلا بخفة يرضى عنها أبو العلاء المعري، نداء حازم خفى يتردد فى الجو، كأنما فى يده سوط: بيتك بيتك.. هيا هيا. فى البيوت بهجة وفى الشوارع رهبة، حتى لو كان معك رفيق فأنت تحس بأنك وحيد، لا شيء يخيف مثل منظر مدينة كبيرة مهجورة، ولكن هذه الرهبة فى الشوارع تزيد من تلألؤ البهجة فى البيوت".

 

كما يقدم حقى شهادة تاريخية مهمة عن الاحتفاء بليلة رؤية هلال شهر رمضان، فى زمن لم يكن الأهالى يعرفون الرؤية إلا من خلال القاضى الشرعى فى زمن لم يكن الراديو ظهر بعد، وإذا ثبتت الرؤية الشرعية، يندفع الصبية فى الشوارع يقولون: "صيام صيام... بذا حكم قاضى الإسلام"، ويصف يحيى حقى موكب إعلان الرؤية الشرعية، منذ لحظة انطلاق الموكب، وفى مقدمته ضارب الطبلة المغلفة بجلد النمر فوق حصانه وخلفه فريق كبير من المشاة، يعقبهم موكب أرباب المهن الشعبية، ويمر الموكب على كل مسجد فى القاهرة لتضاء مئذنته، وما إن تنتهى جولة الموكب حتى تكون مآذن القاهرة الألف قد أضيئت معلنة للجميع بدء ليالى شهر رمضان المعظم.

 

أما نجيب محفوظ فقدم رؤيته لشهر رمضان فى روايته (خان الخليلي) التى تعد أكثر أعماله ذكرا لتفاصيل شهر الصيام واحتفال المصريين به، وهو ما يتكرر فى أعمال له أخرى مثل (الثلاثية) و(المرايا)، بينما قدم الروائى إحسان عبد القدوس، روايته الشهيرة (فى بيتنا رجل) فى أجواء شهر رمضان بالكامل، فالأحداث تنطلق من حول مائدة إفطار رمضان لندخل فى أجواء الرواية الرمضانية وهى رواية وطنية من طراز رفيع، استغل فيها عبد القدوس رمزية رمضان الدينية والترابط الأسرى فيه، لكى يكون رسالة رمزية لتوحد المجتمع المصرى على هدف واحد وهو محاربة الاحتلال البريطانى وطرده من البلاد.

بدوره قدم يوسف إدريس قصة بعنوان (رمضان) فى مجموعته القصصية (جمهورية فرحات)، التى يحكى فيها تفاصيل تتعلق بعالم الأطفال ونظرتهم لشهر رمضان، عبر الفتى فتحى بطل القصة، الذى يريد أن يصوم ويدخل عالم الكبار، إذ "كان يهمه أن يصوم ليستطيع أن يتناول السحور فلا يتناوله إلا الصائمون. وكان السحور عند فتحى تعادل لذائذه كل القصص التى قرأها والأفلام التى شاهدها ومرأى الأسود والقرود فى حديقة الحيوان"، وتبدأ رحلة الفتى فتحى لكى يلتحق بعالم الكبار، واعتمد على الكثير من الحيل حتى ينجح فى الحصول على شرف الجلوس بجوار والديه لتناول السحور، لكن المفاجأة أن هالة البحث تنتهى بمتعة قليلة، ما يجعل فتحى يبحث عن مهرب من مسئولية الصوم، فشرب الماء خلسة، انتهت بانكشاف أمره وتوبيخه، وكان يظن أن انكشاف سره سيؤدى إلى إصدار حكم من والده بعدم أهليته للصيام، لكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن، فقد حصل فتحى على علقة محترمة، وأرغمه والده على الصوم بالقوة، وراقبت الأسرة التنفيذ بدقة. 

 

أما الأديب الراحل جمال الغيطانى فقد عاش فى حى الجمالية العريق، وامتزجت خلايا جسده بتفاصيل الحياة فى الحى الأكثر أصلا وشهرة فى القاهرة القديمة، لذا كتب مجموعة من المقالات تحت عنوان (متتالية رمضانية) تحدث فيها عن علاقته وتجربته بالشهر الكريم، فيقول: "بالنسبة لى يعد شهر رمضان من العلامات الفارقة، البارزة، منذ أن وعيت به، وبدلالاته، وبما يرتبط به من مباهج، لذلك بقدر ابتهاجى بقدوم العيد، وما يعنيه ذلك من فرح، وانتظار ملاس جديدة، وانطلاق، بقدر ما يكون شجنى لفراق رمضان، مازال لشهر رمضان التأثير والقدرة رغم تبدل الأحوال. فى طفولتي، والرحلة ماتزال بعد فى بدايتها، كنت أنتظر قدوم أول أيامه كما أنتظر حلول ضيف عزيز، طيب الإقامة، يصحب معه كل جميل، تصورته بمخيلتى شيخًا مهيبًا، كل ما يمت إليه أبيض.. ربما أكون فى طفولتى المبكرة رأيت شيخًا مهيبًا، جليلًا، جميلًا، مطمئنًا، مهدئًا، اسمه الشيخ رمضان، ومن ملامحه تكوّن تصورى هذا".

ويتحدث الغيطانى عن التفاصيل الصغيرة التى تصنع حالة الارتباط بالشهر الكريم، فيقول عن الكنافة: "ترتبط عندى الكنافة بشهر رمضان، بل إنها من معالمه، ربما يمضى عام كامل لا أتذوقها ولا أقربها، لكن إذا حل الشهر الكريم لا بد من تذوقها مهما التزمت بأنظمة غذائية صارمة خشية زيادة الوزن... وطوال شهور السنة لا نلحظ تسوية الكنافة رغم وجودها داخل المحلات أو خارجها، عدا شهر رمضان الذى يتعاظم فيه الطلب على ذلك النوع من الحلوى تحديدا، التى ترتبط به ارتباطًا وثيقًا"، ويضيف: "مرجعيتى فى تذوقها ما كانت تعده أمي، كانت ماهرة فى إعدادها، ولها طريقة فريدة، ولحسن الحظ انتقلت طريقتها إلى شقيقتي... بعد أن تعلمتها منها، هذا المذاق يرجع إلى زمن طفولتي، من أقدم أنواع الطعام التى تحتفظ بها ذاكرتى مع الأنواع الأخرى، التى تحدد معالم ذاكرتى المذاقية، فالطعام ذاكرة".

 

وتعددت الكتب التى تناولت عادات رمضان بشكل أدبى بين الأدب الساخر والرصد الاجتماعى، يأتى فى مقدمتها كتب أحمد بهجت (صائمون والله أعلم)، و(مذكرات صائم)، التى يستعرض فيها بأسلوبه البديع مواقف يتعرض لها الصائمون يوميا، بينما يستعرض الكاتب مصطفى عبد الرحمن فى كتابه (رمضانيات)، تاريخ تفاعل المسلمين مع رمضان عبر رحلة تاريخية فى التراث حتى العصر الحديث، وهو ما يستكمله ياسر قطامش فى كتابه (وحوى يا وحوي)، الذى يقدم فيه عدة صور للاحتفال برمضان فى القرن التاسع عشر، أما عن الثقافة الشعبية حول رمضان فتجدها فى كتاب (رسالة فى بركة رمضان الجمعية)، لعبد الحميد حواس الذى يركز على فلسفة المصريين فى الاحتفاء بشهر رمضان.