تجليات في قاهرة المعز

علي الهلالي
علي الهلالي

تأسرني هذه المدينة الضاربة في عمق التاريخ، حالة الحب التي تعلنها على القادمين إليها، توقعني في دائرة العشق فأجد نفسي وقد بادلتها الحب، ومنحتها كل ما أوتيت من إحساس لأنك إن شربت من مائها فستعود إليها لا محالة..

هذه هي القاهرة رغم الضجيج الناجم عن ما يفوق الملايين العشر، من الذين يجوبون ثناياها، يبعثون الحياة فيها، وتمنحهم دفئها وعراقتها، غير أصحاب المحال وصبيانهم والمقاهي وعمال الدليفري والتكاسي، فإن ذلك الصخب لا يمنع الأذن ، من أن تسمع ماترويه ، لا سيما في ضواحيها القديمة، فإذا ما قادتك خطواتك إلى حواشي سور الازبكية، أو دخلت في زحام ميدان العتبة، فإنك ستشعر بأن الزمن قد توقف، وبأنك لم تعد قادرا على معرفة التوقيت الحقيقي للحظة التي أنت فيها الآن ..

في القاهرة ليس ثمة غرباء، لانها قادرة على احتواء الجميع، ويلتقي فيها الكل، وفي صحن الإمام الحسين يتوقف الزمن.. كيف لا وهنا مقام سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا يقف الناس لاستنشاق تاريخ التاريخ، ويتوه الإنسان في نفسه.

كان لا بد لي أن أقف في هذه الباحة، لألتقط بعضا مني تبعثر هنا، منذ آخر رحلة قادتني إلى قاهرة المعز، قبل أحد عشر عاما.. فلله در أرض الكنانة، التي لا غريب فيها.

ملايين تفوق المئة، تتقابل وتتماهى في الشوارع والأزقة والمدن والقرى.. ملامح مختلفة ومشارب متعددة، لكن القلب واحد، والنوايا تظهر على وجوه العابرين، لتجعلها أكثر نصاعة.. الكل يبتسم.. الكل يضحك.. الكل يحيي الكل. 

حين سألني الشاب الذي يعمل على عصر الفواكه، في محل العصير، الذي كان يغص عن آخره، بما لذ وطاب من الثمار، ماذا أريد ان اشرب؟ 

منحته ابتسامة باهتة هي كل ما بقي بإمكاني رسمه على ملامحي واجبته: هات أي شي حلو، فارتفعت ضحكته عالية، ليرد قائلا في مداعبة لطيفة: يا بيه مصر كلها حلوة، أنت حابب تشرب إيه؟ 

وهنا أضاءت ابتسامته ما كان في ثنايا نفسي من عتمة، بعد أن كادت الغربة أن تعصف بي ..

وعاد بي الزمن الى ايام كنت تلميذا اعبر شوارع المدينة القديمة في طرابلس وانا في طريقي الى المدرسة .. تذكرت العم حسنين والخالة جمالات وعبرحيم ابن الجيران الذي كنا ننتظر اوبته من مصر في عطلة الصيف كي نحصل منه على مجلات نقرأها في الوقت الذي كان فيه بعض الشباب يوصون اخيه الاكبر جابر خصيصا للحصول على اشرطة عبد الحليم وام كلثوم التي كانت بمثابة رسائل حب وحملة مشاعل غرام لذاك الجيل ..

لم يكن اي من سكان شارعنا في مدينتي القديمة بعمق طرابلس لايعرف جيراننا القادمين من ارض الكنانة لانهم كانوا معنا في كل تفاصيل حياتنا .. كان منهم معلم المدرسة في الحي والدكتورة التي تعالجنا في المستوصف اضافة الى عامل البناء الذي كان له دور في بناء وصيانة البيوت في شتاءاتنا غزيرة المطر..

كنا ولازلنا وسنكون واحدا وحتى من جاء لهذا الوطن غازيا ومستعمرا عرف عمق العلاقة بين بلدين هما قلب واحد فلم يجد الا ان يستعين بالاسلاك الشائكة التي حاول من خلالها ان يقسم جسدا واحدا لكن انى له ذلك والوريد والشريان يغذيان القلب ..
ذهب الاستعمار الى غير رجعة.. واكلت رمال الصحراء الاسلاك الشائكة التي لم تنجح حتى في ان تفصل حبة رمل عن اخرى  وعاد الجسد واحدا.

علي الهلالي
رئيس تحرير صحيفة الجماهيرية سابقا