فى معرض ناثان دوس الجديد.. «البرونز» يحاور «الجرانيت»

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

كتب: رشيد غمرى

"الإرادة، لا شيء آخر" هو عنوان المعرض الجديد للفنان ناثان دوس، الذى شهدته قاعة الزمالك مؤخرا. وقدم خلاله عددا من المنحوتات مزج فى تنفيذها بين الأحجار والبرونز، فى تجربة للتطعيم بين الخامات، جسَّد فيها الحجر على الأغلب تحديات الطبيعة والواقع، بينما شكَّل المعدن عنصر الإرادة، وقدرتها على صنع المعجزات.

 

لفت ناثان دوس الانتباه قبل أكثر من عقد ونصف عقد بأعماله من الجرانيت والبازلت، والتى أظهرت براعته، وميله لاستلهام التاريخ المصرى الممتد، والذى عايش تجلياته فى فن النحت خلال سنوات نشأته بمحافظة المنيا. وسرعان ما انتقل إلى البرونز، الذى منحه فرصة للتحليق فى آفاق أكثر حداثة.

 

وفى معرضه الأخير قدم مزجا مدهشا بين الخامتين، حيث تداخل المعدن مع الحجر، فيما يعرف بالتطعيم، وهى عملية أكثر تعقيدا، تمنح قدرات تعبيرية كبيرة، وتحتاج إلى تمكن وخبرة.   

يميل الفنان إلى أن تعبِّر أعماله عن أفكار محددة، تحمل رسائل فكرية. وهو ما يتضح من عناوين معارضه، وأعماله، والتى يمكن بتأملها استخلاص فكرتها الأساسية فى كلمات. وهو أمر غير محبذ فى الفن، إذ يعرض المنتج الإبداعى للخطابية، ويمكن أن يهبط به إلى ما دون لغة الفن الراقى.

 

لكن براعة «دوس» وموهبته، تجعل «الفكرة العنوان» تتضافر، وتتماهى مع فكرة إبداعية وممارسة جمالية عميقة، ما يجعلنا أمام عدة مستويات للتلقى، تتراوح بين التمثيل الحرفى للفكرة، وبين معنى باطنى، وقيم جمالية تعتمد لغة الفن وليس الخطاب. وفى معرضه الأخير تجلت الجمالية عبر طلاقة التكوين، وابتكاريته، وفى الحلول الذكية لتزاوج الخامات، وتنوع طرق تشكيل المعدن، وأيضا فى العلاقات المحسوبة بين طاقة المواد المتداخلة بخواصها المختلفة، وكذلك استغلال المظهر السطحى للأحجار بألوانها الطبيعية لخلق تأثير إضافى لأثر الكتلة، كما فى تماثيل عارضات الأزياء البرونزيات بفساتينهن الرخامية. وكلها حلول إبداعية، يختلط فيها الفكر بحساسية فنية عالية.

 

والأفكار التى ينطلق منها دوس متنوعة، ما بين خلاصات فلسفية، وموضوعات أسطورية، أو حتى أفكار شائعة، وأحيانا رؤى خاصة من استقرائه للطبيعة والواقع. ما يجعلها تتراوح بين البساطة والعمق. لكن ذلك لا يرتبط ببساطة المعالجة أو تعقيدها. وعلى سبيل المثال قدم عملين متجاورين يثيران المقارنة بين النحلة والعنكبوت. فكرة بسيطة، لكن جرى تنفيذها من خلال بناء مركب، ظهرت فيه العنكبوت وسط ضحاياها المعلقة، والنحلة فوق وحداتها الهندسية الأنيقة التى تنز العسل.

 

إقرأ أيضاً | ترجع للعصر البطلمي.. كشف أسرار السفينة الغارقة

البحر حاضر فى أعمال المعرض، وهو دائما كتلة حجرية، سطحها من البرونز. وفى أحد الأعمال، يخترق كتلته بتجويف، ويضع داخله سمكة من البرونز، معلقة بخيط الصياد فى الأعلى، ليتجلى حضور الحجر كخامة، بالقدر نفسه الذى يتجلى كبحر، إذ نجد أنفسنا دون أن ندرى نفكر فى الأمر كاستخراج للرزق من الحجر. ولو نفذ العمل كله بالبرونز، وبالتكوين نفسه، لما عبر على هذا النحو البليغ.

 

وفى عمل آخر، يعتلى راكب الشراع كتلة البحر الحجرية، بشراع من البرونز منحه الفنان شفافية عبر معالجته فى خطوط. وفى عمل ثالث يكابد السباح فوق سطحه، ويبدو أغلبه غارقا فى الحجر، بينما هو والموج وقطرات الماء المتساقطة كلها من المعدن، فى حوار بديع بين الخامتين، يبدو وكأنه صدى للحوار الأساسى بين الكتلة والفراغ، والذى يصل عنده إلى زحزحة جوهر كل منهما، ليتداخل مع الآخر، ويكتسب بعض سماته. ففى بعض أعماله من البرونز تبدو الكتلة أحيانا، وكأنها مجرد لمسات فى الفراغ، فى حين يبدو الفراغ داخلها، وكأنه كتلة ضمنية، وهو ما يمنح العالم هشاشة وشفافية.

 

ويتجلى ذلك فى عمل يمثل أسطورة سيزيف، لكنه يجعل الإنسان داخل الصخرة، وليس حاملا لها. ولكى يحقق ذلك جعل أحد نصفيها فى هيئة شبكة من البرونز، ليظهر الإنسان داخلها، دون أن نعرف إن كان قد وجد نفسه بداخلها أم أنه من يحبس نفسه فيها بسبب أفكاره.