الغلاء والإسراف فى رمضان

محمد بركات
محمد بركات

 الحالة العامة من الغلاء التى يواجهها العالم كله الآن، تحتم علينا تعديل وترشيد سلوكنا الاستهلاكى المتزايد فى رمضان، وأن نعود به إلى طبيعته الروحانية، شهر للعبادة والتراحم وتخفيف المعاناة عن غير القادرين.

يستوقفنى دائما وأبدا كلما هل علينا شهر رمضان الكريم، ذلك الخلط السيئ الذى وقعنا فيه جميعا، بين روحانيات الشهر الفضيل، والإغراق فى الإسراف السفهى فى الطعام والشراب.


كما يستوقفنى أيضا، ذلك الربط الظالم والمتعسف الذى نقوم به دائما بين لياليه المباركة، التى يجب أن نضيئها بوهج المعرفة، ونحييها بنور التفكر والتعبد، وبين ما نمارسه من الاستغراق الإرادى فى دوامة التسلية، والسهر، أو الاستسلام الطوعى لموجات الدراما الكاسحة على القنوات الفضائية.


إنى أتحدث عن ذلك الخطأ الفادح الذى وقعنا فيه جميعا ، بإرادتنا للأسف، عندما ربطنا بين شهر الصوم والعبادة والتقرب إلى الله عز وجل، طلبا لراحة النفس وهدأة القلب، وصفاء الروح.. وبين تلك الممارسات البعيدة كل البعد عن روح وفلسفة الشهر الكريم وأهدافه السامية.


سلوك خاطئ


وفداحة هذا الخطأ الذى شاع واستشرى بيننا جميعا دون استثناء ودون تفرقة بين عموم القوم وخاصتهم، وعلى اختلاف أطيافهم الثقافية والفكرية وتفاوت مستوياتهم الاجتماعية، يكمن فى كونه تحول فى نظرنا جميعا للأسف، من السلوك الخاطئ والفعل المذموم، ليصبح عادة مقبولة وسلوكا محمودا، وفعلا مقبولاً ومرغوبا..


ثم تطور الأمر إلى ما هو أكثر من ذلك فداحة وأسوأ بكثير، وأصبح عرفا وسلوكا مجتمعيا معمولا به من الجميع، وملزما للكل دونما نقاش أو مراجعة،..، وإذا بنا والقادرون منا بالذات فى سباق محموم نحو الإسراف السفهى فى الطعام والشراب فى شهر رمضان،..، بالإضافة إلى التنافس على الاستغراق التام فى البحث عن وسائل للسهر والتسلية وإضاعة الوقت فيما لا يفيد ولا ينفع،..، وكأن رمضان الكريم أصبح شهرا للأكل والتخمة، والسهر والتكاسل وقلة العمل، بدلا من أن يكون شهرا للتراحم والتكافل، وفرصة ربانية لنشر المحبة والمودة بين البشر، وزيادة الترابط والتلاحم بين فئات المجتمع.


وأحسب أن الوقت قد حان الآن كى نشرع بكل الجدية وكل الإصرار، فى التخلص من ذلك الخلط المعيب والتطهر من ذلك الخطأ الفادح، وأن نعود بالشهر الكريم إلى طبيعته السمحة وروحه السامية.


ولا أبالغ فى القول إذا ما أكدت على أننا يجب أن نحسن استغلال الشهر الكريم، الذى نتنسم روحانياته الآن كى نشرع فى تعديل السلوكيات والأنماط الاستهلاكية للأسرة المصرية، التى اعتدنا عليها رغم خطئها، وأن نبدأ من الآن فى وضع نهاية سريعة وحاسمة لحالة الخلط السيئ بين رمضان والنهم فى التهام الطعام، وحالة الصرع التى تنتاب الكثيرين منا، إن لم يكن أغلبنا وتدفعنا بإرادتنا أو رغما عنا للبذخ الممقوت والمكروه فى شراء المواد الغذائية، والإسراف المفرط فى الإنفاق على هذه الأشياء، وهو للأسف ما أصبح عادة ذميمة لدى القادرين منا،..، وكذلك أيضا غير القادرين، إن وجدوا إلى ذلك سبيلا.


غلاء عالمى


وأعتقد أن الحالة العامة من الغلاء التى يواجهها العالم الآن ونواجهها معه، باعتبارنا جزءاً لا ينفصل عنه، والتى أصبحت فيها أسعار المواد الغذائية فوق كل تصور، وأعلى مما تخيله الكثيرون منا فى يوم من الأيام، تحتم علينا جميعا أن نبدأ ومن الآن فى الترشيد الواضح والجدى لموجة الإسراف السفهى، ويجب أن نضع فى اعتبارنا الوصول إلى الاقتناع الكامل بضرورة الاعتياد على أنماط مختلفة للسلوك الاستهلاكى المرشد فى كل الأسر، الغنى منها وغير الغنى، والقادر منها وغير القادر، وأن ندرك أن تلك ضرورة لابد منها.


وفى ذلك أحسب أن للمرأة المصرية دورا رائدا وضروريا، بل إن عليها كل الدور باعتبارها هى وزير الاقتصاد والمالية الحقيقى داخل كل بيت وفى كل أسرة، وأنها هى المدير الحقيقى المسئول عن تدبير احتياجات الأسرة والمحفز على الاستهلاك الرشيد بدلا من الاستهلاك البذخى.


ولعلى لا أبالغ أيضا إذ ما قلت إن حديث كل أسرة وشاغلها الأول فى كل بيت مصرى الآن، هو قضية الأسعار وارتفاعها، وزيادة الغلاء بصفة عامة وأسعار السلع الغذائية بصفة خاصة وأحسب أن من المهم أن ندرك أن بلدنا دولة نامية، وأننا نستورد للأسف أغلب ما نستهلكه من الخارج حتى الآن، وإنتاجنا من الموارد الغذائية الأساسية مثل القمح واللحوم وغيرهما لا يفى بالاحتياجات، وأن السيطرة على أسعار المواد الغذائية أصبحت صعبة فى ظل جنون الأسعار فى السوق العالمية، وهو ما يفرض علينا أن نسلك سلوكا مختلفا وهو السير فى طريقين محددين لا ثالث لهما:


أولهما هو زيادة الإنتاج على قدر ما نستطيع، وذلك بزيادة الرقعة الزراعية باستصلاح المزيد من الأراضى وإضافة ملايين الأفدنة المزروعة كل عام، حتى نستطيع الوفاء بما نحتاجه من القمح والذرة والأرز وغيرها من المنتجات الأساسية،..، وذلك بالطبع ليس سهلا ولا ميسورا دون تكلفة عالية جدا، لأسباب رئيسية يجب ألا تغيب عنا.


ويأتى فى مقدمة هذه الأسباب عدم كفاية حصة مصر من المياه اللازمة لرى هذه الأراضى لو تم استصلاحها، حيث يقدر الخبراء مساحة الأراضى التى نحتاجها للوفاء بما نستهلكه من غذاء بخمسة ملايين فدان إضافية مزروعة ومثمرة حتى نتحول إلى دولة لديها اكتفاء ذاتى من المواد الغذائية الأساسية، وخاصة الحبوب مثل القمح والذرة والفول والأرز وغيرها، بالإضافة إلى المحاصيل الزيتية والمراعى اللازمة للإنتاج الحيوانى وإنتاج اللحوم والألبان.
ولكن يجب أن ندرك أنه لو توافرت الأراضى، وهى متوافرة بالفعل فإن هناك ندرة فى المياه تقف عقبة دون زراعتها فى ظل ما نعانى منه من شح فى المياه، رغم المشروعات الضخمة التى قمنا بها ونقوم بها طوال الثمانية أعوام الماضية وحتى الآن لمعالجة مياه الصرف وتنقيتها، وأيضا لتحلية مياه البحر، وإقامة المشروعات القومية الضخمة لاستصلاح وزراعة الأراضى فى الصحراء الغربية وسيناء وغيرهما.


ترشيد الاستهلاك


أما الطريق الثانى الذى يجب أن نسلكه بالضرورة أيضا الآن وبالتوازى مع المسار الأول ومعه، فهو ترشيد الاستهلاك وتعديل أنماط وطرق سلوكنا وأسلوب تعامل الأسرة المصرية مع قضية الغذاء، بحيث نضع فى اعتبارنا الاعتدال والوسطية قبل أى شىء آخر، ونضع فى اعتبارنا أيضا أن البذخ والإسراف فعل خاطئ وسلوك غير مقبول، ونضع فى اعتبارنا كذلك أن المقدرة المالية يجب ألا تكون مبررا للإسراف وسوء التصرف وسفاهة الاستهلاك، بل يجب أن يتلازم معها حكمة الاعتدال وعقلانية التصرف وترشيد الاستهلاك.


وفى هذا الخصوص لابد أن نسعى بكل الجدية لتعزيز وعى المجتمع، والأسرة المصرية بالذات، والمرأة المصرية على وجه الخصوص، بجميع الجوانب الاقتصادية والمالية التى تتعرض لها مصر، فى ظل الارتفاع الحاد فى الأسعار العالمية، وارتفاع أسعار المواد الغذائية والبترول والغاز فى السوق العالمى، الذى أصبح بالفعل خطرا يهدد دولا وشعوبا كثيرة.


وفى قضية ترشيد الاستهلاك يجب أن ندرك أننا لو قمنا بالترشيد فى المواد الغذائية وغيرها، فإن ذلك يعنى أننا سنقلل من حاجتنا للسلع ولو بنسبة خمسة أو عشرة بالمائة فى البداية، وهذا يعنى توفيراً للسلع الموجودة فى السوق بنفس النسبة، وهو ما يؤدى بالضرورة لانخفاض الأسعار تلقائيا.


ويجب أن يكون واضحا أننا نحتاج إلى الإرادة المجتمعية القوية والتصميم الجمعى والوعى الجماعى للقيام بذلك، وهذا يحتاج إلى العمل المستمر والمتواصل فى إطار خطة واضحة ومدروسة للسير على الطريقين معا،...، طريق زيادة الإنتاج، وطريق ترشيد الاستهلاك حتى نحقق ما نريد ونصل إلى ما نهدف إليه.
وفى هذا المجال دعونا نقول بصراحة ودون تردد إن هناك ضرورات وواجبات لابد منها فى أوقات الشدة التى تتعرض لها المجتمعات والشعوب، وعلى رأس هذه الضرورات هو أن تقوم الهيئات والمؤسسات والجمعيات المدنية وكل مؤسسات المجتمع المدنى وعموم المثقفين والمفكرين ورجال وأجهزة الإعلام، بجهد كبير لتوعية المواطنين بأهمية وضرورة الاعتدال وعدم الإسراف، وخلق وعى مجتمعى شامل بهذه القضية وحتمية الترشيد، بحيث تصبح منهجا للسلوك داخل كل بيت وكل أسرة مصرية.


السمو الروحى


ولا أعرف على وجه الدقة مدى صحة المرجعية التاريخية لسيطرة هذا الخلط المتعمد وغير المتعمد على حياتنا نحن المصريين بصفة خاصة، والعرب بصفة عامة، والذى أصبح شائعا ومنتشرا وكأنه جزء من مناسك وطقوس رمضان.


والذى يرجعه البعض إلى سلاطين وولاة الدولة الفاطمية، فى حين يرجعه البعض الآخر إلى العباسيين، بينما هناك من يعود به إلى فترة المماليك والدولة العثمانية،...، ولكن كل ما يهمنا فى ذلك هو تصحيح الخطأ الذى ارتكبناه ونرتكبه فى حق الشهر الفضيل، الذى تقوم فلسفته وأهدافه على إعلاء معانى وقيم السمو الروحى، والارتقاء بالمشاعر الإنسانية والتعاطف الوجدانى مع الضعفاء والفقراء.