شهيدة التضحية.. أنقذت طفليها وفارقت الحياة

كواليس مصرع صيدلانية شابة في مصعد بالشرقية

موت الصيدلانية
موت الصيدلانية

إسلام عبدالخالق

الأمومة.. تظل الكلمة الوحيدة التي تصف أنقى ما في النفس البشرية وأطيب وارحم ما فيها، تلك المشاعر التي تجعل صاحبتها تُضحي بكل ما تملك وبأي شيء لأجل أبنائها، حتى وإن كلفها الأمر حياتها فلا تتردد لحظة أن تهرول نحو الموت في سبيل ضمان الأمان لمن حملتهم في رحمها وسهرت على تعبهم، ولعل ما جرى قبل ساعات في شارع الغشام بمدينة الزقازيق خير شاهد وأبلغ مثال على طيبة وحنان واحدة من أشجع النساء وأكثرهن تضحية وفداء؛ بعدما فضلت حياة طفليها على حياتها لتُنقذ الصغيرين وتفشل في مغادرة مصعد تعطل وسقط فجأة ليسحق جسدها ويكتُبها في عداد الأموات، لكنها لا تزل وستظل حية بأفعالها الطيبة في قلوب كل من عرفها أو سمع عنها ليدعو لها بالرحمات وواسع جنان الرحمن.

على بُعد أمتار من منتصف شارع الغشام التابع لنطاق ودائرة قسم ثانٍ شرطة الزقازيق بمحافظة الشرقية، وبينما تصدح مآذن المنطقة ترفع آذان مغرب اليوم الذي يسبق شهر رمضان بثلاث ليالي، كان مشهد النهاية والفصل الأخير؛ الطبيبة الشابة بنت الثمانية والعشرين ربيعًا، التي يعرفها الجميع باسمها «ميادة علاء الزغبي»، لكن الطفلين الواقفين على بُعد بضع خطوات من جسد والدتهما وحدهما يعرفانها بـ "ماما".

قبل صراخ المشهد الأخير كانت صرخات الأم حاضرة وسط هلع طفليها الاثنين داخل مصعد واحدة من أبرز البنايات في شارع الغشام؛ بعدما ضرب عُطل مفاجئ «الأسانسير» ليتأرجح جسد الثلاثة داخله، فيما تكالبت أيدي الصغار تلوذ بجسد أمهما الواهن في أقسى لحظات الحياة، والجميع كان على شفا الموت لولا أن ربط الله على قلب الأم حين بدا المصعد قريبًا من باب أحد الطوابق، لتدفع الباب وتُخرج طفليها، إلا أن الأمر زاد رعبًا في لحظات؛ إذ هوى الأسانسير فجأة ليسحق جسد الأم التي وجدت نفسها فجأة ما بين المصعد والحائط، ليت الحياة توقفت في هذه اللحظة، لكن كيف لها أن تتوقف؛ فهذه هي سنتها، وبين هذا وذاك علا صوت انكسار الساق اليمنى ليطغى على صراخ صاحبتها داخل المصعد، وكأن طائر الموت يُحلق في المكان منتظرًا اللحظة التي تحين لكل نفسٍ.
ما اقساها لحظة مرت على هذه الأم الشجاعة.

سيرة طيبة

دقائق فصلت بين ما جرى ودار وبين حضور رجال الإنقاذ بقطاع الحماية المدنية في مديرية أمن الشرقية، وسارع الجميع يحاولون إنقاذ الأم التي كانت حالة جسدها أصعب من وصف الكلمات، ليتم انتشالها وفي دقائق تالية تنقلها عربة الإسعاف إلى مستشفى التيسير في مدينة الزقازيق، لكن هناك تبين أنها قد سلمت وديعتها إلى بارئها بعدما أنقذت طفليها وافتدتهما بنفسها لتضمن لهما الحياة فيما لم يُمهلها القدر لإنقاذ جسدها ومغادرة المصعد قبل سقوطه.

سويعات وانتشر نبأ موت الصيدلانية الشابة في أرجاء محافظة الشرقية ليُحدث حالة كبيرة من الحزن اعترت وجوه الجميع، من يعرفها ومن لا يعرفها؛ أم في مقتبل العمر ضحت بنفسها وافتدت طفليها لكنه طائر الموت يختطف الأرواح وقت دنو أجلها، رحلت وتركت سيرة طيبة يُقسم بها القاصي والداني، ويذكرها أقرب الأقربين بصورة لا تزل عالقة في الأذهان لها وطفليها وهم يبتسمون دون أن تدري أن تلك الصورة الفوتوغرافية ستكون نافذة الرحمات والدعوات التي تنهال لها في طريق حناجر وقلوب الآلاف تناجي رب السموات

أن يتقبلها من الشهداء، شهداء التضحية، بعدما راحت ورحلت فداءً لطفليها بفعل كارثة وحادث مفاجئ لم يُمهلها حتى لحظاتٍ لتودع أقرب الأقربين لها.
مشهد الوداع كان مهيبًا بحق؛ الجميع يبكي قلبه قبل أن تذرف عيناه الدموع التي لا تنقطع، الحشود تصطف أمام مسجد «عمرو بن العاص» المعروف بين الجميع باسم الجامع الكبير في قرية شلشلمون التابعة لدائرة مركز منيا القمح، والنعش يحمل جثمان المتوفاة ويسير على أكتاف المشيعين والكل يوحد الله لا راد لقضائه، قبل أن تنتهي مراسم الدفن في مقابر الأسرة على أطراف القرية، ويُقدم الجميع واجب العزاء أمام منزل العائلة هناك، وكأنهم يُعزون أنفسهم في مصابٍ جلل وألم وصل صداه وأثره لنفوس الجميع.

رحيل الصيدلانية الشابة أصاب المجتمع الطبي في محافظة الشرقية بصدمة كبيرة وصل صداها إلى أرفع القيادات؛ إذ نعاها الدكتور عصام أبو الفتوح، نقيب الصيادلة في محافظة الشرقية، واصفًا إياها بالابنة والزميلة الفاضلة المتميزة على الصعيدين الخلقي والمهني، قبل أن يؤكد على أنها واحدة من أكثر بنات جيلها خلقًا وتميزًا، وتبعه الدكتور هشام شوقي مسعود، وكيل وزارة الصحة بمحافظة الشرقية، الذي نعاها هوَّ الآخر وحرص على الحضور بنفسه إلى منزل عائلتها في قرية شلشلمون التابعة لنطاق ودائرة مركز منيا القمح، لأجل تقديم واجب العزاء في الراحلة، مؤكدًا على أنه وجميع العاملين في مديرية الشؤون الصحية بمحافظة الشرقية، وكذلك جميع أفراد والأطقم الطبية في مستشفى القنايات المركزي، من زاملوا الراحلة ومن يعرفونها بالاسم، جميعهم حزانى لا تصف مشاعر حزنهم الكلمات، داعيًا المولى عز وجل أن يرحمها ويُسكنها فسيح جناته ، وأن يُلهم أهلها وذويها الصبر والسلوان.

البلاغ

البداية كانت بتلقي اللواء مساعد وزير الداخلية، مدير أمن الشرقية، إخطارًا من اللواء مدير المباحث الجنائية في مديرية أمن الشرقية، يفيد بشأن ما تبلغ لمأمور قسم ثانٍ شرطة الزقازيق، بورود إشارة من مستشفى التيسير في مدينة الزقازيق، بوصول ميادة علاء الزغبي، 28 عامًا، صيدلانية في مستشفى القنايات المركزي، مصابة بكسر مضاعف في الساق اليمنى، وتوفيت فور وصولها المستشفى متأثرةً بإصاباتها.

بالانتقال والفحص، تبين من التحريات والمعلومات الأولية أن الصيدلانية الشابة قد لفظت أنفاسها الأخيرة إثر تعرضها لحادث سقوط أسانسير في مسكنها بناحية شارع الغشام التابع لنطاق ودائرة قسم ثانٍ شرطة الزقازيق، وبالعرض على جهات التحقيق في قسم شرطة الزقازيق صرحت بدفن جثمان المتوفاة إلى رحمة مولاها، التي شُيعت جنازتها وسط حضور مهيب وحزنٍ عارم اكتنف وجوه جميع أسرتها وأهلها وزملائها.