مصر الجميلة في ميزان المتصوف محي الدين ابن عربي

مصر في ميزان ابن عربي
مصر في ميزان ابن عربي

كتبت : د.ليلى خليفة

«للأمكنة فى القلوب اللطيفة تأثيراً، فما بالنا بمكان مثل أرض الشمس والسدرة والنيل والهرم». هكذا يقول المتصوف الأكبر محيى الدين ابن عربي، الذى أفرد فى كتابه «الفتوحات المكية» باباً عن مصر، فقد وجد فيها دليلاً قوياً على وجود الله، فهى أكثر البلاد احتضاناً لمقامات أهل البيت وأولياء الله الصالحين، ما يجعل منها برزخاً، ومن أهلها «أولو الأرحام». فابن عربى واحد من الذين على علم بأسرار ولطائف الأمكنة، إلى جانب أنه نزل مصر أكثر من مرة وأقام فيها على فترات. الأمر الذى رأينا فيه ضرورة أن نعرف تاريخ مصر وحاضرها من منظوره ورؤيته، التى لا تنفصل عن الغيبيات والروحانيات والأعاجيب. وفى هذا البستان تقدم لنا الدكتورة ليلى خليفة قراءة رصينة عن مصر عند ابن عربي، كما تقدم قراءة تقابلية فى منهاجى ابن عربى وجلال الدين الرومي، الذى ينظر إلى الاختلاف بينهما، كالاختلاف بين الجمال والجلال، والليل والنهار، والواضح والمبهم، والمشرق والمغرب.

كان يطيب للكثير من الأولياء العارفين من المغرب والمشرق البقاء فى مصر؛  لما  هو من ثمارها العرفانية، الكثير من علوم السدرة والجنة وغيرها من علوم الآخرة والغيب مما حمله النيل من أصل منشئه الجنانى

وكل له وقت وحال معين  «فحال إلى كشف ووقت إلى ستر فما كان من شام يراه ممثلاً»  فيبصره حياً إذا كان من مصر

يصف الشيخ الأكبر محمد محيى الدين بن عربى (ت 638ه) علماء الأثر والقيافة، فيقول: « يُخرجون الأثر فى الصّخور وإذا رأوا شخصاَ، يقولون هذا الشخص هو صاحب ذلك الأثر، ويكون كذلك»، ثم يستدرك قائلاً: «وبالديار المصرية منهم كثير». من يرد أرض مصر كمن يرد أرض السمسمة فى فتوحات ابن عربى المكية، أرض البرزخ والعجائب والخيال، يسميها الشيخ «العَمّة والأُميْمة». أفرد لها باباً من كتابه الفتوحات المكية، ذكر فيه من أعاجيب زمان هذه الأرض وأحوالها الكثير مما ناله بالكشف والفتح؛ رمال من ذهب.

ومدائن من نور ترتفع فى السماء، ملوك ومعماريون، وخزائن وقاسم عليها، وأسواق يمتد طرفها إلى الجنة. وصى الرسول ــــ صلى الله عليه وسلم ـــ على مصر أرض الكنانة، أنها أرض رحم ؛ فلا تُذكر إلاّ ويُدعى لها بالحفظ،  يذكر معنى اسمها صاحب اللسان، ابن منظور، فيقول: «حماها الله وصانها». من يدرس برزخ الخيال عند ابن عربي.

 

ويعرف قوته الخلاّقة كقوة رمى السهام، يعى مغزى هذه الإشارات وأهميتها. فالخيال عند الشيخ الأكبر من « جملة الأرحام»، يقول: « فمن الأرحام ما يكون خيالاً، يفتح الله فى ذلك الرحم المعانى فى أى صورة ما شاء ركبها، فيريك الإسلام فيه والقرآن سمناً وعسلاً». ويقول ابن عربى واصفاً الخيال فى الباب الأخير من مائدة فتوحاته، الباب الخمسمئة والتسعة والتسعين، بأسلوب «الأنوار الساطعة والبروق اللامعة»: «إنه عين الكمال لولاه ما فضل الإنسان على سائر الحيوان، به جال وصال وافتخر وطال».

وبه، يقول الشيخ، تحقق الأنبياء والعارفون بأعلى الدرجات، درجة الإحسان  كما جاء فى حديث الرسول صلى الله علية وسلم : «اعبد الله كأنك تراه». منه كان الخليل أواهاً، ومنه شطح ذو النون المصري، وأبو يزيد البسطامى والحلاج وابن الفارض وغيرهم من أهل التصوف والعرفان. تكمن قوته فى جمعه الأضداد، وحكمه على المحال والواجب بما شاء من المذاهب. فيه تظهر «خوارق العادات». يؤكد شيخنا أنه لا يثبت على حال، فهو دائم التقلب، وسورته من القرآن «كل يوم هو فى شأن». 


تشبه مصر بنيلها وأهراماتها وقبابها التى اندرجت فيها أسرار ماضيها، رحم الخيال بين الحقيقة ومظهرها، بين الحس والمعنى، والغيب والشهادة، والمغرب والمشرق، وبين الليل والنهار. يقول صاحب اللسان : إن معنى مصر هو الحاجز والحد بين الشيئين (البرزخ) ويتمثل بشعر أمية بن أبى الصلت، إذ يذكر حكمة الخالق، فيقول : 
وجعل الشمس مصراً لا خفاء به»   بين النهار وبين الليل قد فصلا.


وإن كانت مصر الشمس، تفصل المشرق والمغرب وتجمعهما فى الأرض، فإن الشمس عند الشيخ الأكبر تتوسط أقاليم السماوات السبع فى فلك إدريس فى السماء الرابعة، وتجمع وتفصل سماوات آدم وعيسى ويوسف من جهة، وسماوات هارون وموسى وإبراهيم ـــ عليهم السلام ــ من جهة أخرى . ولها من الأمكنة المكان العلي، «الذى عليه يدور رحى عالم الأفلاك» كما يقول شيخنا فى الفص الإدريسى من كتابه فصوص الحكم. لا تفوتنا العلاقة الحميمة التى تربط مصر الأرض بنيلها وأهراماتها وقبابها بعلوم الشمس فى السماء الإدريسية.

 لهذه السماء الكثير من أسرار العلوم الإلهية والكونية تدور فى فلك هذا الكوكب العظيم المشرق السابح، تتنزل بمقادير معينة فى أوقات مقدرة ؛ لها من العلوم، كما يذكر ابن عربي: «علم توالى الواردات وترادف التنزلات الغيبيات.

وعلم ارتقاء المغانى الروحانيات إلى أوج الانتهاءات، ومنها أيضاً «علوم الأعراف العطريات، والمعارف اللؤلؤيات، واليواقيت العاليات، وأنفاس النور الجاريات» وغيرها كثير. ومن أهم هذه العلوم الإدريسية، نجد أيضاً أسرار «حسن إيقاع السماع فى النغمات»؛ فى هذا السياق، لا يفوتنا اعتناء قرآء القرآن فى أرض مصر خاصةٍ، بالتدريب على طبقات الصوت وتحسينه، والتزام التجويد عند التلاوة، فاقت كل الأماكن؛ حتى قيل «نزل القرآن فى مكة وقرئ فى مصر». وكذلك اعتنى المداحون ومنشدو السماع التزام مقامات الشعر والموسيقى، تصاحبها عذوبة الألحان وحسن النغمات.

اقرأ أيضا | الأدب الروسي دواء وليس سمًا لهذه الأسباب!
ابن عربى  فى مصر: برزخ فى أرض البرازخ
فى سياق تأملاتنا فى أرض مصر من خلال نصوص ابن عربي، تتبلور صورة مصر، أرض الشمس والبرزخ والخيال، أرض الكنانة والرحم. أهلها «أُولو الأرحام»، يصفهم الشيخ الأكبر بأسلوب «البروق اللامعة» «بأهل الالتئام والالتحام». نزلها أكثر من مرة، وأقام فيها على فترات. زار معالمها، ولا بد أنه تنقل بين جامع ابن طولون  وجامع عمرو بن العاص، حيث كانت مواكب الخلفاء تفتتح الأعياد، وشاهد عجائب هذه الأرض الشمسية البرزخية. هو نفسه محيى الدين بن عربى،المعروف بالشيخ الأكبر، برزخ جمع علوم المغرب والمشرق، وعلوم الوهب والكسب، فهو الأندلسى الحاتمى الطائى العربى المحتد، تنقل بين الأندلس من أقصى المغرب متدبرا الامتداد المغربى إلى مصر البرزخ، من ثم إلى مشرق الأرض.

 

إلى قدسها وحرم مكتها. لم يلهه السفر عن الكتابة، فتوسع فى شرح العلوم والمعارف الإلهية والروحانية والشرعية والكونية فى مؤلفاته مبيناً الأصول والفروع منها، الظاهرة والباطنة. قيل الكثير حول مرارة تجربته المصرية، من سجنه ومحاولة قتله ونفاذه بصعوبة من حكم الإعدام وهروبه. ويتخد الكثير من المحققين فى مصر من هذه المقولات مقدمة لبعض نصوصه والتى كثيراً ما تكون منسوبة  خطأً له. جاءت هذه الأخبار فى كتاب الدراية للغبرينى المتوفى سنة ٧٠٤هـ. أما أين عربى نفسه لا يذكر شيئاً عن هذه الحوادث ولا يتحدث عنها. استبعدت كلود عداس أن تكون هذه الواقعة صحيحة واثبت عبدالعزيز المنصوب عدم صحتها .

ومهما يكن من صحة أو عدم صحة هذه الأخبار، فإن واحداً، مثل الشيخ الأكبر بمقامه ومساره ومعارفه وكشوفه،  التى منها ما أخذه فى نومة هنية «عسلية» دون تأمل، ومنها ما أخذه مجاهدةً وخلوةً وسياحةً، كان رجل الفتوحات، لا بد وأن يكون قد رأى من الأهوال الكثير. فمِثْله من يركب الصعاب ويأخذ المخاطر عن وعى ومعرفة لما ينتظره، لا عن جهل وتخمين. وحُكمه على الأشياء والناس والأماكن، يكون بمعايير تتعدى الظاهر لتتحقق بالباطن. فالوجود كله عظيم عنده، وهو الذى يقول «ما فى العالم عين إلا وهو من شعائر الله» .

فمن علوم أصحاب المقامات الغيبية والمشاهد، علمهم بأسرار ولطائف الأمكنة؛  يعلمون، كما يقول الشيخ،  أنّ للأمكنة فى القلوب اللطيفة تأثيراً، فما بالنا بمكان مثل أرض الشمس والسدرة والنيل والهرم، أرض تضم الكثير من مقامات أهل البيت وأولياء الله الصالحين. نحن أمام رجل، من الأفراد الكمل من الرجال، تحقق ظاهره بباطنه، يرى «المنعَ عينَ العطاءِ»، رجل كله عيون بها يرى المكان والزمان ولا مكان ولا زمان. ومع ذلك إن ضاقت به الدنيا بسلاطينها، فإنه يلجأ إلى مصر، يقول:  

   
فبغـداد دارى لا أرى لى موطناً  «سواها فإن عزّت جنحت إلى مصري
ولا يفوتنا أن المقصود ببغداد هنا، دار الخلافة والحكم، كانت عاصمة الخليفة العباسى آنذاك؛  فيجنح ابن عربى إلى أرض الكنانة،(أرض الروح والخيال) بديلاً عن أرض السياسة والحكم. ومن يرد مصر اليوم، كمن وردها فى زمان الشيخ الأكبر؛ لا بد وأن تستوقفه ثلاثة معالم تعطى لأرض مصر معنى البرزخ : نيلها وأهراماتها وقبابها.
هبة النيل؛ «والنيل وجدان والحرمان إفلاس».

 

فنيلها ذاك المعروف الذى نالته أرض مصر من الله، هبةً ونفحةً لأهلها، جاءهم كنفخة الّروح الأعظم يروى بيداء أرض الجسم. ويحن ابن عربي، فيقول:
إذا ذكروا جسمى حننت لشامنا  «وإن ذكروا روحى حننت لمصر
وإذا اعتبرنا النيل من حيث المعنى اللغوى فهو من النوال ضد الحرمان، يقول الشيخ الأكبر: «فالنيل وجدان والحرمان إفلاس». والنيل عند ابن عربي، كما جاء ذكره فى الخبر النبوى مع كل من الفرات وسيحون وجيحون، ورد مصر وربطها بآخرتها ووصلها بالجنة، وسيعود للجنة يوم القيامة: مَثَلُه مَثَل الرّوضة بين قبر النّبى والجنّة، ومجالس الذكر. فينبه الشيخ الأكبر لهذا الترابط مستذكراً  حديث الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ــ  فى الأنهار الأربعة، أنها جاءت من عند الله من الجنة؛ يقول الشيخ، إن مصدر هذه الأنهار هى السدرة، سدرة المنتهى، أو كما يمكن أن نسميها سدرة النور، فهى التي، يقول الشيخ: «غشاها نور الله ما غشاها»، موقعها وفقاً للترتيب الكوني، ما بين السماء السابعة ومقعر فلك الكواكب، يقول الشيخ متوافقاً مع ما جاء فى كتب التراث والتفسير : «يخرج من أصل هذه السدرة أربعة أنهار تمشى إلى الجنة، فإذا انتهت إلى الجنة أخرج الله منها على دار الجلال نهرين، النيل والفرات اللذين عندنا فى الأرض. فأما النيل، فظهر من جبل القُمر، وأما الفرات فظهر من أرزن الروم، وأثر فيهما مزاج الأرض فتغير طعمهما عما كان عليه فى الجنة، فإذا كان فى القيامة عادا الى الجنة، وكذلك سيحون وجيحون». 


فصارت دنيا مصر وأرضها أرض زراعة وفلاحة للدنيا والآخرة. وجاء مثَل «المفلحون» فى القرآن الكريم، يحمل لأهل الإشارة أسرار الحفر والقلب، والروى والطمي، قبل رمى البذور، فكنونها ثم نباتها وابتهاجها واهتزازها إلى إثمارها، كما جاء فى الآية الكريمة، قوله تعالى : «اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج»، لتكون من أسرار العلوم الأعجمية وأعراسها.  

ويلاحظ ابن عربي: «لولا اللطيف ما اهتز الكثيف» ويقول أيضاً: «لولا الأنفاس ما تحركت الحواس». والحقيقة، أن العلاقة بين اللطيف والكثيف والأخروى والدنيوي، والغيب والشهادة هى علاقة حيوية حبية إن جاز القول، لا يستغنى أحدهما عن الآخر، فالغيب يقول ابن عربى «ظرف لعالم الشهادة»، ويلاحظ قائلاً: «لولا قوة الأرواح ما تحركت الأشباح، ولولا حركة الأشباح ما وصلت إلى آمالها الأرواح».


فى سياق ما تقدم من اعتبارات عرفانية من علوم التصوف، يتضح لما كان يطيب للكثير من الأولياء العارفين من المغرب والمشرق البقاء فى مصر؛  لما  هو من ثمارها العرفانية، الكثير من علوم السدرة والجنة وغيرها من علوم الآخرة والغيب مما حمله النيل من أصل منشئه الجناني، ما هو فى الاعتبار من العلوم الوهبية، من علوم الفتوح والكشف والتجلي، بالإضافة إلى ما هو من العلوم الكسبية، التى يكتسبها الإنسان بالعمل والتعمل، مثل ما يكون للمفلحين من نتاج جهودهم «علم ما يجنى الإنسان إلا ثمرة غرسه». يؤكد ابن عربى أن كلا العلمين الكسبى والوهبي، السماوى والأرضي، وإن اختلفت، أصولهما.

 وكيفية تحصيلهما فهما من عند الله. من هذا الباب حرص أن يتناول هذه العلوم فى الباب السابع والأربعين والثلاثمئة من كتابه الفتوحات المكية تحت عنوان «فى معرفة منزل العندية الإلهية والصف الأول عند الله».  إذ يثبت ابن عربى تمايز علوم الكسب والوهب.

 

ويتحدث عن «الفرق فى الوحى بين الفوق والتحت»، فإنه يعيدهما إلى الله، فيقول: «فالعلم الكسبى نصر الله، والوهبى فتحه». ثم يلاحظ جمعهما فى الآية الكريمة «إذا جاء نصر الله والفتح» يكون للكمّل من الإناث والذكور من أهل الله. وهذا يتوافق والآية الكريمة «لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم». 


اكتملت هذه العلوم للسيدة مريم ـــ عليها السلام ــ فى البدء، كان رزقها يأتيها كما يقول ابن عربى «فى الراحات»، وهى فى المحراب. وعندما جاءها المخاض، جاءها الأمر الإلهى «وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رُطبا ًجنيّاً»، جاء بعد النداء الإلهى «ألا تحزنى قد جعل ربك تحتك سريّا». يقول عبد الرزاق القاشانى فى تفسيره الذى نسب خطأً إلى ابن عربى : «تساقط عليك» من ثمرات المعارف والحقائق.«فكلى» أى من فوقك، رطب الحقائق والمعارف الإلهية.

وعلم تجليات الصفات والمواهب والأحوال، «واشربى» من تحتك ماء العلم الطبيعى وبدائع الصنع وعلم التوكل وتجليات الأفعال والاخلاق. ولا يفوت أهل العرفان الصوفي، الإشارة إلى أن كمال هذا الحال (المريمي) الذى فيه ما فيه من التعمل، هز النخلة، أكمل من حالها الأول قوله تعالى: «كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً». فأول الطريق ترد المبشرات والرؤى الغيبية والروحانية تمهيداً لما يكون فيما بعد من السلوك والتكليف (الفلاحة والغرس) حتى تكتمل الكشوف الروحانية السماوية والأرضية والطبيعية.

وقد جاء فى بعض كتب التفسير والمعاجم، أنّ نخلة مريم، كانت فى مصر، وأن مصر، هى تلك الربوة ذات القرار المعين، التى آوى الله إليها ابن مريم وأمه، وفقاً لما جاء فى الآية الكريمة «وأويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين».


ولا يفوتنا فى سياق علوم الفوق والتحت، أن  نقرأ ما جاء من  تفسير وتأويل الآية الكريمة فى قول بنى اسرائيل لموسى «لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها»، كان فى حقيقة الأمر، طلبهم  من الله، علوم ما تنتجه الأرض أيضاً. وإن قوله تعالى: «اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم» كان استجابة ودلالاً، وليس عقاباً، كما يقول ابن عربي. وإن كانت علوم السماء فى الاعتبار أعلى وأرفع من علوم الأرض، جاء وصفها فى الآية «بالخير»، فقد جاء وصف علوم الأرض  بالأدنى،  يحمل معنى الأقل رفعة.

ولكنه أيضاً يحمل معنى الأقرب «أتستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير»، وأما الذل والمسكنة وغضب الله «وضربت عليهم الذلة والمسكنة»، فكان نتيجة الكفر والعصيان والعدوان وقتل الأنبياء، كما جاء فى الآية الكريمة «ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله وكانوا يقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون».

مصر الهرم والفرعون فى ميزان زمان العرفان 
وأما الأهرامات الفخمة، فقد بناها فراعنة مصر على ضفاف نيلها، يؤكد ابن عربى أنهم من بنى البشر. وينْظُم فى ذلك رداً على من تحيّر فيها، فعزى بناءها لغير الإنس، يقول : 
 لم يدر بانيها ولم يدر أمرها  على أن بانيها من الناس بالقطع.


يقدم ابن عربى حساباته لمعرفة تاريخ بناء الأهرامات وعمرها، فيعود إلى ما وصله من العلوم التى فقدت من علوم الحساب  وعلوم الفلك فيقول: «وقد ذكر لنا فى التاريخ المتقدم أن تاريخ أهرام مصر بنيت والنسر فى الأسد وهو اليوم عندنا فى الجدى  فاعمل حساب ذلك(مذكور فى النص) تقرب من علم تاريخ الأهرام» .

ويشرح شيخنا، سبب عجز العلماء فى كل عصر عن معرفة علم بناء الأهرامات، إلى كون العلوم تتنزل على الناس بمقادير مختلفة، تتعلق معرفة بعضها بعلوم فلك ذلك الزمان خاصة؛ فلا يلزم أن يكون لأهل كل زمان علوم كانت عند من قبلهم أو انتقلت لمن بعدهم. 


 تقف أهرامات مصر  للاعتبار، وتعبر عن أسرار «أُمة قد خلت»، تعبدت وفلحت وبنت الهرم ثم هرمت وانتقلت؛ ولكن ما برِحت آثارها تُنبئُ عن حضارة مجيدة وعن علوم  كونية وطبيعية، تحيّر العلماء فيها حتى يومنا هذا. لا تفوت ابن عربى الإشارات الإلهية فى قوله تعالى فى فرعون الذى جاء ذكره فى القرآن الكريم أربعاً وسبعين مرة:  «قولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى». فمعنى قوله تعالى يتذكر، يقول ابن عربي، يعنى أنه كان لديه علم ولكنه نسيه.

وكذلك يخشى، فالخشية من صفات العلماء، كما جاء فى الآية الكريمة : «إنما يخشى الله من عباده العلماء». وأما أمره تعالى موسى وهارون أن يقولا له قولاً ليناً، فتعنى الترجّى الإلهى بعودته عما كان عليه، وإيمانه.

والترجى من الله واقع عند ابن عربي، لا محالة، يقول: «فالذى ترجى من فرعون وقع، لأن ترجيه تعالى واقع، فآمن فرعون وتذكر وخشى». ويعتبر ابن عربى أن وقوع الترجى الإلهى  المتضمن فى  قوله تعالى «لعله»، كما جاء فى الخبر، دليل على قبوله سبحانه إيمان فرعون. ويرى الشيخ  فى شهادة فرعون عندما أدركه الغرق : «آمنت أنه لا إله إلا الذى آمنت به بنو اسرائيل« من التوحيد الثانى عشر من نفس الرحمن، «توحيد الاستغاثة والصلة». فيلاحظ شيخنا كلمة «الذي».

ويفسر قائلاً: «إنه من الأسماء الموصولة وجاء بهذا ليرفع اللّبس عن السّامعين كما فعلت السّحرة لما آمنت برب العالمين رب موسى وهارون». ولقد تمّم فرعون: «وأنا من المسلمين».  فتمام هذه الشهادة عند شيخنا، جاءت من فرعون، يقول ابن عربي: «ليُعلِم قومه برجوعه عما كان ادّعاه فيهم من أنه ربهم الأعلى».

ويعتبر الشيخ فى تصديق الله إيمان فرعون، فيقول: «إن الله صدّقه فى إيمانه بقوله: «آلآن وقد عصيت قبل«، فدل ذلك، على إخلاصه فى إيمانه، ولو لم يكن مخلصاً، لقال فيه تعالى كما قال فى الأعراب الذين قالوا: «آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ».


أما بخصوص ما ورد فى الآية الكريمة، قوله تعالى «لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل»  يعتبر ابن عربي، أن فرعون لم يكن حاله حال «المغرغر» عندماو آمن، إذ إنه كان يرى البحر يبساً فى حق المؤمنين، يقول: «فما أيقن بالموت بل غلب على ظنّه الحياة فليس منزلته من حضَرَهُ الموت، فقال إنّى تُبت». فيميز الشيخ الأكبر، ما بين إدراك فرعون غرقه مع ترجيه النجاة، وبين حال من حضره الموت فيراه لا محال.

ويوقن أنه مفارق. وعلى هذا فابن عربى  يعتبر أن الله شهد له بالإيمان وتقبله منه، ويؤكد قائلاً : «ما كان الله يشهد لأحد بالصدق إلا ويجازيه  به». ولمّا وجب على الكافر إذا أسلم ان يغتسل ويتطهر،  جاء غرق فرعون تطهيرا وغُسلا له؛ فأخذه الله، يقول شيخنا: «فى تلك الحالة نكال الآخرة والأُولى وجعل ذلك عبرة لمن يخشى». أما قوله تعالى «فاليوم ننجيك ببدنك لتكون  لمن خلفك آية»، فهى عند ابن عربى دلالة أخرى على صدق إيمان فرعون وتقبله تعالى له يقول : «فهذا إيمان موصول»،  أى أنه ليس وليد اللحظة ولا ينتهى بها.

ويلحق بتوحيد الهوية. فالعبرة عند الشيخ الإكبر، إنما هى فى الأسباب التى أُخذت بها القرون الماضية، وليس للاندثار والموت فى حد ذاته، فالموت، كما يقول : «من أسباب اللقا، فهو أسنى تحفة يتحفها المؤمن، فكيف به إذا كان عالماً ! بخٍ على بخٍ». 


لا يعرف أسرار الأمم والقرون الخالية وعلومها، إلا القلة القليلة من العارفين وهم لا يتحدثون بها. فحديث العارفين، كما هو معروف، لا يكون إلا بأمر إلهي؛ والأمر الإلهى لا يعطى ذلك؛ لأن الحال اختلف.

والزمان استدار، ورُدّ إلى أصله، كما جاء فى الحديث الشريف: « ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض»، وهذا الحديث يمثل عند ابن عربى اكتمال فلك (قمر) الدين بظهور الإسلام، فدخلت أرض مصر دار الإسلام، وصار سر الهرم فى القبة. فالقبة وإن وجدت قبل الإسلام إلا أنها، فى الإسلام أصبحت رمز التوحيد. وقد يسغ لنا أن نفهم هذا الانتقال الكونى الزماني، من الهرم إلى القبة، أخذاً باعتبار بما يمثله الهرم من علوم الولاية فى المذهب الصوفى عامة.

والأكبرى خاصة، من تدرج فى المقامات والمنازل العلمية الإيمانية والأخلاق الإلهية. فالولاية تتدرج من قاعدة الهرم تمثل الإيمان بالله، حتى الوصول إلى قمة رأس الهرم تمثل التخلق بالخلق العظيم خلق رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم، كان كما ذكرت عائشة رضى الله عنها، القرآن. ويعتبر ابن عربى قولها «كان خلقه القرآن» من البلاغة والبيان يحمل الكثير من خفايا العرفان.


 اعتنى الشيخ الأكبر بذكر مقامات أهل الله وأعدادهم فى كل زمان، مبيناً تفاصيل علوم كل منهم ووظيفته، بتفصيل هرمى ممنهج لم يسبقه إليه أحد من علماء وشيوخ التصوف، فيذكر أعداد الرجال فى كل مدرجة، حتى يصل مدارج منازل الأوتاد الأربعة، والإمامين حتى القطب، له نقطة أعلى الهرم. وإن علوم هذه «النقطة» عند ابن عربي، هى العلوم المنشودة، أخذت مجدها فى كتب التفاسير الصوفية، فلها المجد التالد، لم يتحقق بها إلا كما ذكرنا أعلاه، من أوتى جوامع الكلم قرآناً. فالنقطة لها المحيط، وكل ما فى الدائرة بين النقطة والمحيط. وهذا معنى «حتى استدار الزمان كهيئته» فى مفهوم علوم التصوف والعرفان.  


قباب  مصر عمائم أولياء الله
برزت على أرض مصر قباب أولياء الله  وانتشرت. وقد لا نعدو الصواب إذا قلنا: إن مصر هى أكثر البلاد الإسلامية قباباً وأضرحة، جاءها الأولياء من المغرب فى طريقهم للحج، وعند عودتهم بقوا فيها ودفنوا فيها. كما جاءها أولياء المشرق وآل بيت النبى مستجيرين ومستروحين، فلقوا الترحاب والإكرام من المصريين فى حياتهم وفى مماتهم .

وكما سودوهم وألبسوهم العمائم فى حياتهم، ضربوا عليهم القباب بعد مماتهم. وكما أغدقوا عليهم العطاء فى حياتهم، أعانوهم على مروءتهم بعد مماتهم، فأطعموا الطعام عنهم، وأقاموا الاحتفالات والموالد على موائد مقاماتهم. يرى المشاهد فيها خيال الآخرة وأسواق الجنة. فالدنيا عند ابن عربى تعكس ما فى الآخرة، يقول : «الدنيا عنوان الآخرة وضرب مثالاً لها». والآخرة فى مذهب ابن عربي، معنوية وحسية.


إذ كتب ابن عربى درته الفاخرة متفاخراً بمناقب شيوخ المغرب، فإنه قابله بكتاب يختص بمناقب ذى النون المصرى (ت 245ه)، مبدياً كل الحب والإعجاب لشخص هذا المصري، مكثراً من ذكره . ولا بد وأن يكون قد زار قبره ومقامه فى المقطم، فهو مذكور فى كتاب «مرشد الزوار إلى قبور الأبرار» المسمّى «بالدر المنظوم فى زيارة جبل المقطم» لموفق الدين بن عثمان، الذى عاش فى زمن ابن عربى وابن الفارض، والمتوفى 615هـ . ولقد وُفِّق موفق الدين، وهو أيضاً محب لذى النون، بجعل كتابه هذا من الأُصول لدراسة المقامات والمزارات، طلباً للاعتبار والتأمل فى الدنيا والآخرة . وقد سار على أثره كثيرون وأخذوا عنه، منهم كان ابن الزيّات فى كتابه «الكواكب السيارة فى ترتيب الزيارة».


كورت قباب مصر، وانتصبت كالعمائم فى الأرض، أو كما يحلو لبعضهم مثل موفق الدين، وابن الزيات، كواكب وشموساً أو بدوراً ونجوماً، يقول موفق الدين: «تزيد نوراً بقراءة القرآن عندها»، ويقول ابن عربى من باب الإشارة : «رعى النجوم مسامرة الحى القيوم بما يعطيه من العلوم». تلتقى هيئة القبة فوق الضريح أو المقام، بهيئة استدارة الفلك فى السماء فوق الأرض. وإن العالم بسمائه وأرضه فى مذهب ابن عربي، منظومة كونية موزونة فى ثلاثة مواطن هى الغيب والشهادة والبرزخ الوسيط بينهما. كل ما درج فى الوجود سوى الله، فإن الله خلقه محصوراً فى بعدى الزمان والمكان، بين النقطة والمحيط، وارتبط كل من الزمان والمكان بطبيعة الأفلاك وبحركاتها. العلاقة بينهم كما يؤكد الشيخ الأكبر فى كل مناسبة، ليست علاقة سببية ولكن «عندية»، أى أن أمور الخلق لا تحدث بالأسباب.

ولكن الله يخلقها عند الأسباب، وهذه من المسائل الجوهرية فى علم العرفان والفلسفة. يشرح ابن عربى هذه المسألة فى الباب الثانى عشر من فتوحاته تحت عنوان «فى معرفة دورة فلك سيدنا محمد ـصلى الله عليه وسلم ـ وهى دورة السيادة وان الزمان قد استدار كهيئته» يقول: «عند أول خلق الزمان بحركته خلق الروح المدبرة روح محمد صلى الله عليه وسلم، ثم صدرت الأرواح عند الحركات»، وينبه ابن عربى قائلاً : «فكان لها وجود فى عالم الغيب دون عالم الشهادة».

وفيما يخص روح سيدنا محمد يشير الشيخ إلى نبوته منذ ذلك الوقت، فيقول: «وأعلمه الله بنبوته، بشره بها وآدم لم يكن إلا كما قال بين الطين والتراب». كان حكم الزمان فى جريانه لبيان اختلاف حكم اسميه الباطن والظاهر. فدار أولاً دورة الاسم الباطن ؛ لذلك كان حكمه ـــ صلى الله عليه وسلم، باطناً فيما جاء من الانبياء والشرائع قبله، إلى ان جاءت دورة الاسم الظاهر بحقه، فكان ارتباط روحه بجسمه الشريف وظهوره فى عالم الشهادة.  فالرسول صلى الله عليه وسلم، هو فى حقيقة الأمر، شاهدَ كل عصر، يقول ابن عربي:


أتى بزمان السعد فى آخر المدى وكانت له فى كل عصر مواقف
انتظمت الشرائع فى شريعته، واندرجت الأمم فى أمته، ودخل الكون فى قبة العهد المحمدى الجامعة لما سلف، فجاء شرعه للناس كافة؛ وهذا معنى قول ابن عربى : لقد صار قلبى قابلاً كل صورة «فمرعىً لغزلان ودير لرهبان «وبيت لأوثان وكعبة طائف» وألواح توراة ومصحف قرآن «أدين بدين الحب أنى توجهت» ركائبه فالدين دينى وإيماني. 


تغنّى الناس بهذه الأبيات وصارت تلقى فى كل مناسبة، من كل منصة حتى من المنصات السياسية. يظن بعضهم المعنى المقصود، أن الأديان والشرائع  صارت سيان لدى ابن عربي؛ ولكن متعلق هذه المسألة عند الشيخ الأكبر، هو كمال تمام دورة الدين بالتقاء ظاهره بباطنه، فصار لهذا الدين، كما يقول: «الحكم له ظاهراً فنسخ كل شرع أبرزه الاسم الباطن».

ولا يعنى ذلك عند شيخِنا بطلان واندثار الأديان الأخرى، ولكن انتهاء مدةِ حكمِها، ويعطى مثلاً، ظهور الشمس فى السماء وانتشار نورها لا يبطل وجود الكواكب فى السماء ولكن يبطل ظهورها . فتنزُّل الشرائع وبعثُ الرسل مرتبط بالنّظام الكونى ومتوافق والزمان والمكان والحال. وما الأديانُ عند شيخِنا إلا تجلياتٌ إلهية تعكس حقائق الأسماء الإلهية، لها بدء وختام. والأمم وشرائعها كل له دورة حكم لا يتعداها. فالدين فى الأصل واحد، وهو عند الله الإسلام.

ولكن له رتبتان، واحدة عند الله،  وأخرى عند الخلق. يمثل الدين عند الله، فطرة الخلق زمن الميثاق، بالرجوع إلى الآية الكريمة، «ألست بربكم قالوا بلى»، فبلى، تعنى إسلام الخلق واعترافهم بربوبية الله وعبوديتهم. تقلب هذا الدين فى أمد الدنيا، وحياً ونزل شرعاً فى حِكم كَلِم الأنبياء، حتى اجتمع فى الدين الخاتِم، دين محمد ـــ صلى الله عليه وسلم، وقد أوتى جوامع الكلم. فصار الدين لا يقتصر على صورة معينة، ولكن على جميع الصور، إذ قضى الله كما يذكّر ابن عربى فى كل مناسبة، ألا يعبد غيرُه.

وفقاً لما جاء فى قوله تعالى «وقضى ربك ألا تعبدو إلا إياه». حينها، صار للعبد أن  يرى  ربه فى كل خلقه، فى كل صورة. فقولَ ابن عربي، صار قلبي، يعنى تأكيدَه على ما بعد الحدث، حدث دخول الإنسانية فى عهد الدين الخاتِم الجامع لحكم وكلم الأنبياء. فالأديان والشرائع، نواميس أوقاتها، تختلف باختلاف الزمان والمكان تعبر عن أحكام الأسماء الإلهية المتعددة، والدين الخاتم، متعلَّقه أحكامُ الاسم الجامع الله. 


مصر فى قبة برج الميزان 
يعنى اكتمال استدارة الزمان كهيئته، إذاً، أن يُرَد الزمان إلى أصله ويلتقى الظاهر والباطن، والأول والآخر بظهور الرسول صلى الله عليه وسلم، ونزول القرآن الكريم. يوافق  هذا الاكتمال برج الميزان، فيدخل الكون  قبة ميزان العدل. إن معنى الميزان عند ابن عربى يفيد بالضرورة معنى العدل والاعتدال، فهو، أى برج الميزان، معتدل فى نفسه لنفسه لأن طبعه الحرارة والرطوبة. وهو من حكم الآخرة، فإن حركته متصلة بالآخرة إلى دخول الجنة والنار. ومن منطلق هذه الحقائق الكونية يفسر ابن عربي، لم كانت علوم المسلمين تشمل علوم الأولين والآخرين، فهم اختصوا بعلوم لم تكن للمتقدمين . أضف إلى ذلك، يشير الشيخ منبهاً، أن الكشف فيها كان أسرع منه فى الأمم السابقة لطبيعة برج الميزان.


يجتمع إذاً، كل ما كان من حركات الأفلاك وما نجم عندها من علوم فى قبة العدل والميزان؛ فاجتماع الأضداد من الحقائق الإلهية والكونية، يلزم وجود الميزان. بالميزان تظهر حقائق الأسماء الإلهية وأحكامها فى أوقاتها ومواطنها؛ به يظهر حكم النافع والضار، والمعطى والمانع مثلاً حيث هو أهل له . والذى يزن يؤكد ابن عربى هو الموصوف بالمعطى والمانع والضار والنافع سبحانه وتعالى. فكل ما خلق الله، كان بمقادير وموازين معلومة.

وفقاً لمفهوم القدر المعلوم للمخلوق، كما جاء فى الآية الكريمة «وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم» هو سره ورزقه الذى يتنزل اليه فى كل شىء وفى كل آن. ويلاحظ شيخنا «ما من صنعة ولا مرتبة ولا حال ولا مقام إلا والوزن حاكم عليه». 


يأخذ موضوع الموازين والمقاييس فى مذهب ابن عربى أهمية كبيرة، فإقامة موازين المعانى من أهم العلوم التى يتميز بها العارف بالله. وإن الميزان يتبع حضرة الرحمن فى المواقف البرزخية والأخروية . ويعتبر ابن عربى فى خلق الرحمن الإنسان على صورة الميزان، فيقول: «خلق (الله) جسد الإنسان على صورة الميزان وجعل كفتيه يميناً وشمالاً وجعل لسانه قائمة ذاته فهو لأى جنب مال». ولما كان الكون منظومة موزونة يرتبطاً بعضها ببعض. يجد الإنسان نفسه مرتبط بالأفلاك.

وتكون قبة الميزان هى السماء وكفتاها الشمس والقمر قوله تعالى «الشمس والقمر بحسبان» ويقول شيخنا شارحاً «أى حركات الأفلاك». تتوافق رحمتى الوجوب والامتنان، الرحمن الرحيم، وتتقدمان فى مذهب ابن عربي، تمثلان كفّتا ميزان العطاء الإلهي. بذلك تتبع الأوزان والمقادير الرحمة الإلهية وقد عمت ووسعت كل شيء وكل مخلوق، تعطيه الوجود.  فظهور الخلق عند ابن عربي، مرتبط بالرحمة، من حيث هى ميزان العطاء الإلهي. فى المحصلة، إن كل مخلوق موجود مرحوم وموزون بالضرورة. وهذا يوافق ما يعتبره الشيخ كمال ميزان العدل الإلهي، قوله تعالى «أعطى كل شيء خلقه».


وأما الكمال الإنسانى الذى يقبل الزيادة من حيث هو كمال لا يخلو من النقص، فإنه عند ابن عربي، يقوم بميزانين؛ أحدهما، ميزان الشرع يحكم فى الدنيا ويرتفع حكمه فى الآخرة، والثانى ميزان الطبع وحكمه فى الآخرة والأُولى، يقول الشيخ: « يرتفع الحكم فى الآخرة ولا يرتفع الطبع فى الحافرة، للشرع منازل الأحكام وللطبع البقاء والدوام». ويتسع موضوع الموازين ويأخذ عند ابن عربى أهمية كبيرة إذ كل صغيرة، وكبيرة، ولطيفة وكثيفة لها ميزانها.

وتتنوع هذه الموازين منها المكيال  ومنها القبان وغيرها كثير؛ وللحديث شجون، نورد ما يقول ابن عربى من باب المجمل بإيجاز من كلامه : «أعلم أن الأمر محصور بين علم وعمل، والعمل قسمان حسى وقلبى، والعلم قسمان عقلى وشرعي.

وكل قسم فعلى وزن معلوم». وإن سر سعادة الإنسان، هو فى إقامة هذه الموازين فى مواطنها. فيكون الترجيح فى موطن الخير، إقامته وعدله . ويكون التخفيف فى موطن الشر بالصفح والحلم إقامته، أو يكون بالاعتدال، فتكون جزاء سيئة مثلها.

وفى موطن الصحة والعافية يكون استواؤه واعتداله، إقامته. ويعتبر العلم بالموازين والمقادير والمواطن وكيفية إقامتها بالقسط هو من أهم علوم أهل الله. ومعنى إقامة الميزان بالقسط عند ابن العربى هو عدم الطغيان والتطفيف والبغى . ويعتبر الغلو فى الدين، من باب طغيان الميزان وعدم قول الحق على الله، بنسب ما لم يقله إليه، وينصح الشيخ المريد، قائلاً «لا تغل فى الدين» معتمداً الآية الكريمة «ألا يقولوا على الله إلا الحق»، فالحق، كما ينبه: «لا يزن إلا الحق».


سحرة فرعون فى ميزان العلوم الإلهية
أولى المصريون القدامى مفهوم الميزان أهمية كبيرة، ظهرت معالمها فى كتاباتهم ورسوماتهم، فقد شغلهم موضوع الموازين لإرساء العدالة فى الآخرة، كما شعلتهم موازين الكيمياء والسحر لإرساء السعادة وإحكام السلطة فى الدنيا. فتحضرنا قصة موسى وما جرى بينه وبين سحرة فرعون بأمر من الفرعون. يميز ابن عربى بين سحر سحرة الفرعون، وبين معجزة نبى الله موسى ــ عليه السلام. فعمل السحرة يدخل تحت قدرة البشر.

وهو على قسمين: منه ما يرجع إلى قوة نفسية، ومنه ما يرجع إلى خواص أسماء، إذا تلفظ  الساحر بتلك الأسماء ظهرت الصور فى عين الرائى أو فى سمعه خيالاً، وما ثم فى نفس الأمر المحسوس شىء من صور مرئية ولا مسموعة.

وهذا هو فعل الساحر كما يؤكد ابن عربي. فالساحر يكون سلطانه على خيال الناس، ليس إلا، ويشرح شيخنا هذا السلطان المتسلط على خيال الناس فيقول: «فتخطف أبصار الناظرين فيرى صوراً فى خياله كما يرى النائم فى نومه، وما ثم فى الخارج شيئ يدركه». ويلاحظ ابن عربي، أن هذا يتوافق والآية الكريمة: «يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى». وبالتالى يستنتج، أن  الساحر بالضرورة لا يخاف من عمله، لأنه يعرف أن ليس ثمة حية فى حقيقة الأمر.

وأما فى حق موسى، فكان قوله تعالى «فإذا هى حية تسعى»، يعنى أن الأمر اختلف؛ يقول الشيخ إنّ الله أخفى العصا فى روحانية الحية البرزخية؛ فأخذ صورة العصا عن الجوهر، وأخفاه فى الصورة البرزخية للحية التى خلعها على الجوهر بدلاً من العصا. لذا كان خوف موسى، وإيمان السّحرة. ويشرح ابن عربى معنى الآية الكريمة «تلقف ما يأفكون» منبهاً إلى الخطأ الشائع الذى يقع به المفسرون، الذين يجعلون عمل موسى من نفس جنس عمل السحرة، فيعتبرون أن موسى ــ عليه السلام ــ سحر عصاه حية أكبر وأعظم من حياتهم، فتلقفتهم؛ ولكن الأمر ليس كذلك عند ابن عربي؛  فحية موسى لقفت ما صنع السحرة من صور الحيات المتخيلات. أى أنها لقفت (صور) حيات السحرة المتخيّلة فى عيون الحاضرين وهذا معنى ما يأفكون.

وعندما أبطلت الصور فى خيال الناس، رأوها حبالاً وعصياً على حقيقتها. ولما رأى السحرة كيف بطلت صور عصيهم فى مخيلات الناس حيات، وبقيت صورة عصا موسى الحية، والأمر فى حقيقة أمره واحد، وشهدوا خوف موسى، والساحر، كما ذكرنا لا يخاف من عمله، عندها علمت السحرة صدق موسى فيما يدعوهم إليه، يقول ابن عربي: «وأيقن ذلك السحرة وعلموا عند ذلك أنه أمر غيب من الله يدعوهم للإيمان» . فأمنت السحرة، وتميز ما هو من عند الله وما هو ليس من عند الله.


ويميز ابن عربى ضمن علوم خرق العوائد، بين ما يكون من سحر السحرة يكون «مكيدة طبيعية يعضدها قوة كيدية روحانية» ومعجزة الأنبياء أمر إلهي، وكرامة الأولياء التى يعتبرها جزءاً مجاوراً لمعنى المعجزة، لا تكون للولي، إلا باتباعه نبيّه.

وإن هذه العلوم حالها حال الجواهر النفيسة، لا بد من تمييز الحقيقى منها من غير الحقيقي. ففيها من الاستدراج والمكر الإلهى ما يستدعى الفَتْن لتخليصها. ولا يفوتنا إشارة الشيخ إلى موضوع المكر الإلهى فى الإشارة إلى كرامة الأولياء . لكل زمان أحكامه وعوائده، وخرق عوائده. ويجرى الزمان.

وتصبح خرق العوائد للولى  المحمدى كما يقول ابن عربى مبطونة، يخفيها الولى ولا يظهرها إلا بأمرٍ إلهي، وإلا فيبقى حاله مجهولاً عند العامة، معروفاً عند الخاصة. ويميز ابن عربى بين دقائق هذه الأمور بقوة ودقة بين العارفين بالله وغير العارفين ممن أوتوا قوى خرق المعتاد ممن يتميزون عند العامة مثل السحرة والمنجمين. فالكون عنده مراتب ودرجات ولكل منها أرواحها وملائكتها هم سكانها الذين يعمرونها .

ولا يوجد فى السماء كما يقول مقدار قدم يخلو من أرواح أو ملائكة تعمرها. فأولياء الله يجالسون الأرواح والملائكة ويأخذون عن اللوح والقلم وروحانيات السماوات والأفلاك، بينما يقف المنجمون مع ماهيات غيبية مثل الجن وغيرها نفسية أو شيطانية. فخواطر الإنسان (وتمثل قواه وهمته أيضاً) تنقسم إلى أربعة أقسام ويؤكد الشيخ، أن لاخامس لها، وهى : خواطر ربانية أو ملكية أو نفسية أو شيطانية، نستعيد بالله من الخاطرتين الأخيرتين. 


مصر عروس المولد
كانت هذه بعض تأملاتنا فى أرض مصر أرض الكنانة، ورحم الخيال، عروس النيل وقبة الهرم، من منظور ما أودعه ابن عربى من أسرار وجواهر العلوم القرآنية فى مؤلفاته. ولا يفوتنا فى ختام هذه الجولة التأملية، أن نلاحظ عروس المولد تظهر فى احتفاليات المولد النبوى الشريف.

وقد تجلت من منصات الاحتفاليات فى شوارع مصر، تعبر عن أعراس وأفراح برزخية. تستدعى لدى الباحث فى مذهب ابن عربى فى العلوم العرفانية، كلامه فى لطائف الحقائق، يصفها كالعرائس فى منصات التجلي، تصاحبها علوم الابتهاج والفرح من علوم الأعراس. إن الحديث عن الجذور القديمة لجلى عروس المولد فى مصر، يأخذنا بعيداً فى التاريخ، غابت أكثر تفاصيلها، ولكن بقيت مصر العروس، انتظمت جواهر ماضيها تزين قبة حاضرها. والحمد لله رب العالمين.