حكايات| أوقاف النساء فى مصر«1».. المرأة المصرية حرة مستقلة من زمان وهذه هي الأدلة

أوقاف النساء
أوقاف النساء

بقلم: ثناء رستم

تمتعت المرأة المصرية منذ العصر الفرعونى بقدر كبير من الحرية والمساواة مع الرجل، وظهرت معه مساوية له فى الحجم والقيمة والدور، وشاركته الأعباء الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فى كثير من الأحيان، وظل دور المرأة واضحا مع تغير الزمان والدول والحكام، ولا يوجد مجال لم تشارك فيه المرأة المصرية ومنها الأوقاف الخيرية، فالوقف فى الشريعة الإسلامية صدقة محرمة، لا تباع ولا تشترى، ولا توهب ولا تورث، ويصرف ريعها فى جهات البر. وهناك نوع آخر من الأوقاف يطلق عليه الوقف الأهلى، وهو الذى يوقف على الأبناء والأحفاد والأقارب، وبعد فناء كل هؤلاء يتحول إلى وقف خيرى.

تحمل لنا الوثائق القديمة حكايات عن النساء فى مصر كلها تُظهر بوضوح مدى ما تمتعت به المرأة المصرية من حرية واستقلالية فى تدبير أمورها المالية والتصرف فيها كما تشاء، وتبين لنا أيضا أن الكثير من النساء كن سيدات أعمال يمتلكن الورش والدكاكين والبساتين والحمامات العامة ويمارسن كثيرا من الحرف ويديرن أعمالهن بنفسهن، وفى بعض الأحيان كن يستثمرن ثرواتهن فى شراء العقارات خاصة التجارية منها لتدر لهن دخلا ثابتا، لتجنى المرأة ثروتها الخاصة من نتاج عملها مما يجعلها حرة التصرف فيها كيفما شاءت على هيئة أوقاف مختلفة منها للأولاد والبنات والأقارب والعبيد والجوارى وتحمل الوثائق الكثير من الطرائف، فبعض النساء أوقفن ثرواتهن على بناتهن وحرمن الذكور وبعضهن أوقف ماله على الذكور وحرم الإناث، والكثير منهن أوقف ماله على الأيتام والأسبلة وإطعام الفقراء وبناء الكتاتيب. 

 

وكانت من ضمن الأعمال التى اقتحمتها المرأة فى طلائع العصر العثمانى اشتغالهن بالالتزام وحققن ثروات منها أوقفنها فيما بعد كوقف أهلى وخيرى، وكان يطلق على المشتغلات به فى الريف المصرى المصطلح التركى اخواتينب جمع خاتون بمعنى اسيدةب للإشارة إلى الجليلات من النساء، وباشرت السيدات جميع الإجراءات المقررة فى نظام الالتزام، فقد كانت الدولة تعطى حق الالتزام للراغبين فيه عن طريق المزاد، فكانت تدخل مزاد الالتزام ويدرج اسمها فى دفاتر الرزنامة عندما يرسو عليها المزاد، ولم تكن الإجراءات صورية بل كانت تنزل بنفسها لتراقب وتشهد عقاب الفلاحين المماطلين فى السداد حيث يسحبهم االمشدب وهو الشخص الذى يقوم بتنفيذ أوامر شيخ البلد، وكانت المرأة تسلم نصيبها من حصيلة الالتزام بعد أن تورد لديوان الرزنامة التى تعنى دفتر اليومية مستحقاته كما جاء فى كتاب اتاريخ مصر فى العصر العثمانىب للدكتور حسن عثمان.

 

كما كشفت وثائق المرأة فى العصر العثمانى امتلاك النساء الأراضى الزراعية والحدائق وورش المنسوجات ودكاكين بيع البُن والقهوة، مما مكنهن من كسب ثروات أتاحت لهن كتابة أوقافهن كيفما شئن، ومن كثرة السيدات العاملات فى مجال الالتزام علق أحد رجال االرزنامةب فى تقرير له على عهد الحملة الفرنسية على مصر اأن الالتزام أصبح للحريماتب، وتوضح العبارة حجم ما تمتعت به المرأة من قوة اقتصادية كبيرة، وتجلت تلك الحقيقة فى بداية عهد محمد على حين حاول إلغاء نظام الالتزام عام 1805، وكان أول من تصدى له النساء، فقمن بتنظيم مظاهرة صاخبة إلى الجامع الأزهر وطلبن من علمائه تعطيل الدراسة، ومساندتهن فى مقاومة هذا الوالى وسياسته التى تضر بمصالحهن الاقتصادية.

وكانت دور النسيج من أهم الأعمال التى مارستها وكان يطلق عليها دار الحياكة وجاء فى إحدى الوثائق المحفوظة فى أرشيف وزارة الأوقاف التى ذكرتها الدكتورة سوسن سليمان يحيى فى رسالتها عمائر المرأة فى مصر فى العصر العثمانى: الما ملكت الشريفة الحاجة عائشة المرأة بنت المرحوم السيد فتح الجاويش والتى آلت إليها بالتبايع الشرعى من بنتها الشريفة زمزم المرأة بنت الحاج مصطفى عكاشة بثمن ثلاثمائة نصف فضة مقبوضة منها بيدها باعترافها، وأنه صار بمقدورها ممارسة صناعة النسيجب. وتضيف الوثيقة أن صاحبتها عائشة أعدتها لأداء وظيفتها، وذلك بأنها عمرت علو القاعة المذكورة.

 

وأسهمت المرأة فى مصر فى العصر العثمانى مساهمة عظيمة فى صناعة المنسوجات على اختلاف أنواعها من قطنية وحريرية وكتانية، فكانت النساء يعملن فى غزل القطن والكتان بتحويل أليافه إلى خيوط معدة للنسيج وذلك قبل تسليمه للنساج لإخراجه فى صورته النهائية، وكان هناك نشاط هام برعت فيه المرأة وهو فنون التطريز، وهو من الفنون التى كانت تتعلمها الفتيات لإعداد حاجاتها عند الزواج، تستوى فى ذلك فتيات الأسر الثرية وبنات الأسر الفقيرة، وانتشر هذا الفن فى مصر ووجدت المرأة فى الاشتغال به سبيلا للاستفادة من ساعات الفراغ خاصة داخل الأسر الثرية والمتوسطة الحال، وصرن يستخدمن االمنسجب كما ذكر إدوارد لين فى كتابه االمصريون المحدثونب بأنهن كن يربحن الكثير من النقود حتى الأثرياء منهن من تطريز القماش والمناديل وأغطية الرأس والمفارش ويستخدمن الدلالات فى بيع منتجاتهن فى الأسواق وبعد أن تحقق الواحدة منهن النجاح المطلوب تقوم بافتتاح قاعة للحياكة أو مشغل للنسيج.

 

وكانت هناك أسباب مختلفة جعلت المرأة تنعم بحرية العمل والتصرف فى ثروتها كما تشاء، منها علاقتها بالرجل كزوج أو أب الذى كان يحترم حقوقها وحريتها، وهو ما شهد به كثير من الرحّالة، وذكروا تلك الملاحظات فى كتاباتهم وكان من بينهم الرحالة المغربى الحسن بن محمد الوزان الذى زار مصر فى بداية العصر العثمانى وتحديدا بعد رحيل السلطان سليم عن مصر وعودته لبلاده، فذكر عند حديثه عن نساء القاهرة أن انساءها يحرصن على ارتداء أفخر الباس ويخرجن متبرجات بالحلى، يحملن أكاليل على جباههن وعقودا فى أعناقهن، وأن الرجال لا يحملون زوجاتهم على العمل الشاق بالمنزل، فيضطر الزوج إلى شراء الطعام جاهزا من الطباخين خارج البيت.

ويضيف الوزان: اوتتمتع هؤلاء السيدات بحرية كبيرة واستقلال كثير، فإذا ذهب الزوج إلى دكانه ارتدت زوجته لباسها وتعطرت، ثم ركبت حمارا، وخرجت للتنزه فى المدينة وزيارة أهلها وأصحابها، ولم تقتصر مشاهداته على النساء فى القاهرة، فذكر عند زيارته لإحدى مدن الدلتا وحددها بأنها مطوبس: عندما يتجول الإنسان فى المدينة نهارا لا يشاهد إلا النساء اللواتى لا يقل لطفهن عن جمالهن، وأكد على ذلك عندما زار مدينة فوة بقوله: للنساء الحرية المطلقة بحيث إنهن يقضين النهار حيث طاب لهن، ويَعُدن مساءً إلى منازلهن دون أن يسألهن أزواجهن عن أى شيء، وبالطبع تبدو مبالغة الرحالة بعض الشيء فى وصف حياة المرأة فى ذلك الوقت، ولكن مبالغته لا يمكن أن تقلل من قدر الحرية التى نعمت بها المرأة، وهو أمر لم يكن بكل تأكيد مفاجئا، وإنما ارتبط بتراكمات تاريخية كونت شخصية وطبيعة المرأة المصرية التى تحققت لها الحرية فأصبحت سيدة أعمال ولها الحق فى التحكم بثروتها الخاصة.

 

وأكد على مشاهدات الوزان رحالة آخر هو الفرنسى جيراردى نرفال، الذى سجَّل مشاهداته عن نفس العصر، واهتم بتسجيل ملاحظاته لتصحيح ما كان لدى الأوروبيين من فكر خاطئ عن المرأة المصرية، فذكر فى كتابه ارحلة إلى الشرق: الست أندم أبدا أنى أستقريت بعض الوقت فى القاهرة، وأنى جعلت من نفسى فى جميع علاقاتى مواطنا لتلك المدينة، ثم أليس من المشجع أن نشاهد النساء بالآلاف فى الحوانيت والشوارع والحدائق فى بلاد يقال عنها إن النساء فيها سجينات، فى حين أنهن يتجولن فرادى أو أزواجا، أو يرافقهن طفل من الأطفال، إن الأوربيات فى الواقع لسن أكثر منهن حرية.

 

وإذا كانت الطبيعة الخاصة للمصريين بصفة عامة وأصولهم الموغلة فى الحضارة والتاريخ قد جعلت للمرأة مكانتها فإن التشريع الإسلامى حرص وأكد حرية المرأة واستقلالها الاقتصادى والنفسى ومساواتها للرجل فى الحقوق والواجبات، فأحكام النساء فى التشريع الإسلامى كانت سندا هاما للمرأة منذ الفتح الإسلامى لمصر التزمت به معظم السلطات الحاكمة، فكانت المرأة تعلم جيدا أنها ستنال حقوقها إذا تعرضت للظلم فى كثير من الحالات، فلقد ذكر ابن إياس فى حوادث سنة 1522 ميلادية أن زوجة أحد الأمراء واسمه جانى بك تقدمت بشكوى ضد زوجها، وكان للزوج أخ من كبار رجال الدولة آنذاك وهو الأمير قايتباى الدودار، ولم يهتم القاضى وسار فى الإجراءات، حيث استدعى الزوج المشكو فى حقه إلى دار القضاء التى كانت وقتها تُعرف بالمدرسة الصالحية، وترك الزوج فى الترسيم أى الاعتقال حتى أرضى زوجته فيما ادعته عليه، ولم يلتفت إلى أخيه الأمير.

 

ولم تكن رعاية المرأة مقصورة على فتره زمنية تنتهى مع صاحبها ولكنها كانت ممتدة على مدى السنوات، ومما يذكره المؤرخ الجبرتى فى كتابه اعجائب الآثار فى التراجم والأخبارب عن ممارسة المرأة حقوقها لاسيما فى مجال الملكية العقارية والتحكم فى ثروتها، حين تحدث عن أجداده قائلا: إنه تزوج من زينب الجوينية ابنة الإمام القاضى عبدالرحمن الجوينى، وكان لها أماكن جارية فى ملكها وقفتها على ولدى زوجها، وامتد هذا الثراء إلى جدة المؤرخ نفسه حيث عدّد أملاكها قائلا: اوكان لها مكان يشرف على النيل بربع الخرنوب ومكان بمصر العتيقة أيام النيل يقصد للنزهة، وعندما توفيت وقفت على والده الشيخ حسن الجبرتى أماكن عديدة منها الوكالة بالصناديقية والحوانيت بجوارها، وبالغورية ورجوش ومنزل بجوار المدرسة الأقبغاوية، ورتبت فى وقفها عدة خيرات ومكتبة للأيتام بالحانوت المواجهة للوكالة المذكورة، وربعة تقرأ كل يوم، ونفحات فى ليالى رمضان، وثلاث جواميس تفرق لحمها على الفقراء والأيتام فى الأضحية.

كان لا بُد من استعراض أحوال المرأة فى مصر فى حياتها الاجتماعية والاقتصادية حتى نعرف كيف أوقفت المرأة ثروتها فى أوجه الخير بحرية كاملة.