خواطر الإمام الشعراوي حول آية «... فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ»

 الإمام الشعراوي
الإمام الشعراوي

«الحق سبحانه وتعالى حين يرخص لابد أن تكون له حكمة أعلى من مستوى تفكيرنا، وأن الذى يؤكد هذا أن الحق سبحانه وتعالى قال: «وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ»

لقد جاء تشريع الصوم تدريجياً كثير من التشريعات التى تتعلق بنقل المكلفين من إلف العادات، كالخمر مثلاً والميسر والميراث، وهذه أمور أراد الله أن يتدرج فيها. ويقول قائل: ما دام فرض الصيام كان اختيارياً فلماذا قال الحق بعد الحديث عن الفدية «فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ»؟

وأقول: عندما كان الصوم اختيارياً كان لابد أيضا من فتح باب الخير والاجتهاد فيه، فمَنْ صام وأطعم مسكيناً فهذا أمر مقبول منه، ومن صام وأطعم مسكينين، فذاك أمر أكثر قبولا. ومَنْ يدخل مع الله من غير حساب يؤتيه الله من غير حساب، ومن يدخل على الله بحساب، يعطيه الحق بحساب، وقول الحق: «وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ» هو خطوة فى الطريق لتأكيد فرضية الصيام، وقد تأكد ذلك الفرض بقوله الحق: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» ولم يأت فى هذه الآية بقوله: «وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ» لأن المسألة قد انتقلت من الاختيار إلى الفرض.

إذن فالصيام هو منهج لتربية الإنسان، وكان موجوداً قبل أن يبعث الحق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم دخل الصوم على المسلمين اختيارياً فى البداية، ثم فريضة من بعد ذلك. وقد شرع الله الصوم فى الإسلام بداية بأيام معدودة ثم شرح لنا الأيام المعدودة بشهر رمضان. والذى يطمئن إليه خاطرى أن الله بدأ مشروعية الصوم بالأيام المعدودة، ثلاثة أيام من كل شهر وهو اليوم العاشر والعشرون، والثلاثون من أيام الشهر، وكانت تلك هى الأيام المعدودة التى شرع الله فيها أن نصوم؛ وكان الإنسان مخيراً فى تلك الأيام المعدودة: إن كان مطيقا للصوم أن يصوم أو أن يفتدي، أما حين شرع الله الصوم فى رمضان فقد أصبح الصوم فريضة تعبدية وركناً من أركان الإسلام، وبعد ذلك جاءنا الاستثناء للمريض والمسافر.

إذن لنا أن نلحظ أن الصوم فى الإسلام كان على مرحلتين: المرحلة الأولى: أن الله سبحانه وتعالى شرع صيام أيام معدودة، وقد شرحنا أحكامها، والمرحلة الثانية هى تشريع الصوم فى زمن محدود.

شهر رمضان، والعلماء الذين ذهبوا إلى جواز رفض إفطار المريض وإفطار المسافر لأنهم لم يرغبوا أن يردوا حكمة الله فى التشريع، أقول لهم: إن الحق سبحانه وتعالى حين يرخص لابد أن تكون له حكمة أعلى من مستوى تفكيرنا.

 وأن الذى يؤكد هذا أن الحق سبحانه وتعالى قال: «وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ». الحكم هنا هو الصوم عدة أيام أخر، ولم يقل فمن أفطر فعليه عدة من أيام أخر، أى أن صوم المريض والمسافر قد انتقل إلى وقت الإقامة بعد السفر، والشفاء من المرض، فالذين قالوا من العلماء: هى رخصة، إن شاء الإنسان فعلها وإن شاء تركها، لابد أن يقدر فى النص القرآنى «وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ»، فأفطر، «فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ».

ونقول: ما لا يحتاج إلى تأويل فى النص أولى فى الفهم مما يحتاج إلى تأويل، وليكن أدبنا فى التعبير ليس أدب ذوق، بل أدب طاعة؛ لأن الطاعة فوق الأدب. إذن فالذين يقولون هذا لا يلحظون أن الله يريد أن يخفف عنا، ثم ما الذى يمنعنا أن نفهم أن الحق سبحانه وتعالى أراد للمريض وللمسافر رخصة واضحة، فجعل صيام أى منهما فى عدة من الأيام الأخر. فإن صام فى رمضان وهو مريض أو على سفر فليس له صيام، أى أن صيامه لا يعتد به ولا يقبل منه، وهذا ما أرتاح إليه، ولكن علينا أن ندخل فى اعتبارنا أن المراد من المرض والسفر هنا، هو ما يخرج مجموع ملكات الإنسان عن سويّتها.


.معنى كلمة (شهر) التى جاءت فى قوله: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ»؟. إن كلمة (شهر) مأخوذة من الإعلام والإظهار، وما زلنا نستخدمها فى الصفقات فنقول مثلا: لقد سجلنا البيع فى (الشهر العقاري) أى نحن نعلم الشهر العقارى بوجود صفقة، حتى لا يأتى بعد ذلك وجود صفقة على صفقة، فكلمة (شهر) معناها الإعلام والإظهار، وسُميت الفترة الزمنية (شهراً) لماذا؟ لأن لها علامة تُظهرها، ونحن نعرف أننا لا نستطيع أن نعرف الشهر عن طريق الشمس؛ فالشمس هى سمة لمعرفة تحديد اليوم، فاليوم من مشرق الشمس إلى مشرق آخر وله ليل ونهار. ولكن الشمس ليست فيها علامة مميزة سطحية ظاهرة واضحة تحدد لنا بدء الشهر، إنما القمر هو الذى يحدد تلك السمة والعلامة بالهلال الذى يأتى فى أول الشهر، ويظهر هكذا كالعرجون القديم.