عاجل

ثورة الفانيليا: رسائل من المطبخ

ثورة الفانيليا: رسائل من المطبخ
ثورة الفانيليا: رسائل من المطبخ

كتبت : رضوى الأسود

تحدث فلاسفة اليونان مثل سقراط وأفلاطون عمَّا يسمى بـ «الأدب المطبخى»، وكذلك تحدث فلاسفة ومفكرون مثل ابن ماسويه، وابن خلدون، وأحمد السرخسى، ومسكويه، وغيرهم ممن اعتبروا الطهى علمًا له أصول وفروع. أما علماء الأنثروبولوجى، فيرون أن كل طعام مطبوخ ينتمى إلى ثقافة.

ولذلك، فكما تفرَّد الإنسان باللغة الإبداعية على سائر الحيوانات، فإنه تفرَّد أيضًا بقدرته على الطبخ، بل إن بعض المفكرين ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو إرجاع ماهية الإنسان إلى قدرته على الطبخ، فيقول «جيمس بوزويل»، كاتب السير الاسكتلندى فى الـقرن الـ 18: «للحيوانات ذاكرة، ومَلكة حُكم.

وجميع الملكات والانفعالات التى تحوزها عقولنا بدرجة معينة، ولكن لا يوجد حيوان واحد طباخ»، فمن وجهة نظره، ليست النفس أو العقل هو ما يميز الإنسان عن الحيوان، بل قدرة الإنسان البسيطة على استعمال النار لتحويل الطعام إلى شىء أكثر لذة.  


وتنطلق هبة الله أحمد فى كتابها «ثورة الفانيليا»، فتخلق بطلتها التى تمور الأفكار برأسها مُفَجِّرة للأسئلة الفلسفية والوجودية المستعصية، فتدفعها للغوص عميقًا داخل نفسها فى محاولة لفهمها، كخطوة مبدئية لفهم العالم من حولها والأشخاص المحيطة.

وأولهم حبيبها.. يحدث ذلك كله مع كل تحريك الطعام فوق الموقد، مع كل إضافة لمكون أو تابل، مع كل رائحة منبعثة من طعام قيد النضج، أو دفء يشعه الفرن المكتظ بالمخبوزات.

 

وكأنها تؤكد مقولة الباحثة والخبيرة الأكاديمية فى الطبخ «كاثى كوفمان»: «حتى نفهم أنفسنا، ينبغى بالطبع أن نبدأ من الطعام الذى يشكل قوام وجودنا». إذًا ممارسة الطهى هنا هى وسيلة لتفسير أو فهم نظرية المعرفة عند الإنسان. 

لم تتوقف هبة الله أحمد عند استخدام «الأدب المطبخى»، بل وضعته فى قالب فنى، وهو «الرسائل». ويُعتبر فن الرسائل من الفنون الأدبية القديمة، وهو أحد الفنون النثرية التقليدية فى التراث الأدبى العربى إلى جانب الفنون النثريّة الأخرى، كالخطابة والمقامات والمناظرات.

وهو فن يُظهِر مقدرة الكاتب وموهبته الكتابية وروعة أساليبه البيانية القوية. كما تعتبر الرسالة الأدبيّة من أهم فنون السرديات، حيث تخاطِب الغائب وتستدرجه عبر فنيتها ببلاغة الكلمة وقوتها.

وتُعَرَّف الرسالة على أنَّها نص نثريّ سهل، ذو صياغة وجدانيّة حانية مؤنِسَة، فيه عتاب رقيق يُظهِر النجوى أو الشكوى، كما يبوح الراسل بما فى وجدانه من أحاسيس وأشجان، والتى تتوارد فيه الخواطر بلا ترتيب ولا انتظام، لتغدو الرسالة إن قصرت أو طالت قطعة فنية مؤثرة دافعة إلى استجابة المشاعر لها وقبولها ما باحت به، وهو ما ينطبق تمامًا على الرسائل التى نحن بصددها.


فى العصر الأندلسيّ، حصر ابن حزم رسائله فى كتابه «طوق الحمامة» بين المحبين فقط، ومن أجمل الرسائل التى طرزها الحب وغمرها الشوق وملأتها الدهشة، رسائل الشاعر ابن زيدون القرشى لولّادة بنت المستكفى. تلك الرسائل الشخصية أو الذاتية، والتى يعبّر فيها الكاتب عن نفسه تعبيرًا حرًا بلا قيود، هى ما لجأت إليها البطلة لمخاطبة حبيبها الغائبِ.

وقد وُفِّقَت هبة تمامًا فى إختيار أداة سردية تناسب الفكرة الرئيسية، فحين أفكر فى طريقة لكتابة تناسب موضوع الطهي، فلا أجد أنسب من فن الرسائل، فبقِصَرِها النسبيّ تبدو كوجبات خفيفة، وفى تنوعها تشبه تمايز الطعام واختلافه.

من مطبخ المنزل تنطلق كل الرسائل كقذائف موجهة لذلك البعيد اللا مكترث، إذ تهدى الكاتبة عملها الصادر عن دار المثقف عام 2021، والذى يتألف من 150 صفحة، تشمل 45 رسالة، موزعة على 6 فصول رئيسية، هى: الرسائل لماذا؟، النوات، الكوارنتينا، فرويدات، متنوع، جنس أدبى ضار، «إلى الذى لا يملنى أبدًا، يفتح لى أبوابًا لحيوات موازية، ينشر حولى عبقًا من فرح وشجن وأحلام وبهار، شكرًا لأن كلينا يعيد تعريف الآخر .. المطبخ وأنا».


من قلب ذلك الحيز الذى يبلغ 24 مترا مربعا تندلع ثورات قلبية وعقلية، وجدانية وشعورية، ثورة على الحبيب اللا مبالي، وعلى اكتراث الروح بهذا الحبيب والتفكير فيه حد التخمة، فمع تحضير مكونات طبخة ما واستنشاق نكهتها وتذوقها، يتم استحضار الذكريات من مكامنها، وكأن تلك المكونات وطريقة مزجها وطهيها، بوق ما إن يُنفَخُ فيه حتى تنفتح مصاريع الذكرى وتُبعث حية، طازجة، من جديد.


من رسالة لأخرى تتفجر أمامنا حقائق طالما راوغناها، مفادها أن تقطيع البصل ما هو إلا حجة لسكب دموع الوجع والفقد والخذلان، وأننا نقوم بالطهى لاستجلاب دفء نتوق إليه ولا نبلغه.

وأن المبالغة فى إضافة البهارات هى حيلة نلجأ إليها لنطمس بعبقها، الأريج الفاضح للحنين، وأن جلى قاع الحَلَّة مما علق بها هو محض محاولة لفك اشتباك ما علق بأرواحنا من أرق وإرهاق وخيبات.

وبنهاية الكتاب نتأكد من حكمة كاتبة الرسائل حين تصف حال الفتيات فى اللحظة الراهنة، فتقول: «يثقن فى عطايا الفرن الطازجة ورائحة القرفة وحبات الحبهان أكثر من ثقتهن فى من همس لهن بكلمات الحب ووعود البقاء».


بالنسبة لكاتبة الرسائل، لم يكن المطبخ مجرد مكان يحوى بين جنباته الثلاجة والغسالة والحوض والموقد، لكنه كان الحياة كلها، كونها الفسيح الذى تستأنس بدفئه وبكائناته من أنثى عنكبوت وقطة وبعض النملات. أيضًا لم يكن مقامًا لتحضير وصنع الطعام، لكنه مقر لاستيلاد الذكرى والحنين، لتهيئة وطبخ الأفكار وإنضاج الرؤية، لانسراب متدرِّج من علاقة سامة وقيد غائبٍ لا مبالٍ، لمراجعة ذات أخطأت فى تقييم الحبيب، ثم إفاقة تلك الذات ومنحها ما تستحق من سعادة دون الارتكان لمن لا يستحق، وذلك حين تصل لحقيقة «أن السعادة والألم قرار داخلى».


 ترى كاتبة الرسائل أن ثمَّ تشابها بين المرأة والطعام، فتقول: «الفراولة شيء استثنائى تشبه إلى حد بعيد امرأة فوَّاحة، حضور باهر بألوان متقدة، وطعم يجمع ما بين الحلاوة واللذاعة، ذلك التضاد الداعى الرافض على حد سواء يشبه الفتنة المبطنة» .. «شوربة الخضار كيان دافىء يشبه النساء كثيرًا، فهى براح رحب جميل سخى، يحتمل أى شيء وكل شىء، ما إن أصنع شوربة خضار حتى أجد المطبخ وقد امتلأ نساء كثيرات حولي، أتين كلهن إلى يضحكن ويرقصن ويسبنَّ ببذاءة، ويهمسن بفحش ووقاحة».. «أحب الفلفل الأسود بشكل خاص، أعتقد أنه يشبه بعض النساء الخطرات التى تكمن ثورتهن خلف مظهرهن الضعيف».


حديث البطلة يمتد من تلك التشبيهات الفردية، نحو الأرحب، فتتحدث عن المرأة بشكل عام، عن النساء العاملات والأمهات اللاتى «يحملن أطفالهن وأزواجهن، بل والحياة نفسها فوق رؤوسهن متنقلات بين الحافلات العامة والطرق المكتظة والأسواق، بلا عطور ثمينة وعيون صاخبة إلا أنهن ذخيرة الحياة الحية».


لغة الكاتبة غارقة فى الشعرية، وثقافتها فى علم النفس جليَّة، فنرى حديثا عن فرويد وكالفن هول ويونج، وبما أنها لجأت لفن الرسائل، فقد استخدمت ضمير المتكلم، وطبقًا لطبيعة الرسائل، فكانت النصوص قصيرة، ما منح العمل حيوية لافتة. كذلك الإسكندرية، المدينة الساحلية التى تنتمى إليها الكاتبة، حاضرة بقوة فى السرد، بتفرد موقعها وثقافتها وطقسها الشتوىّ، فكان هناك فصل كامل بعنوان «النوات»، ورسائل كاملة معنونة باسمائها (المكنسة - الكريسماس - الكرم - قاسم).


نجهل اسم كاتبة الرسائل، وبالمثل نجهل اسم من تحب، وكذلك لا نقف على خطوط واضحة لتفاصيل وجهيهما أو ملامحهما الجسدية. فالبطل الأوحد هنا هو اللغة، التى تمسك بها البطلة كعجينة لدنة تُشكِّل بها حالتها الراهنة أمامنا، وقبلها أمام حبيبها الذى تكتب له رسائل لا ترسلها إليه، وقبلهما أمام نفسها.


وكما أن ممارسة الطهى فرصة لفهم النفس ومحاولة للتعافى، فتناول الطعام أحيانًا ما يكون دلالة على مرض نفسى، وذلك فى حالة الشره وفقدان الشعور بالشبع، فتقول البطلة: «أتضور جوعًا بطريقة دائمة مهما امتلأت»، مشيرة إلى ما يسمى بالجوع العاطفى الذى يدفعنا إلى تناول المزيد والمزيد من الطعام دون شبعٍ، ليس لسد جوع حقيقي، ولكن رغبة فى الإحساس بالسعادة، ونتيجة للحرمان العاطفى.


تثير البطلة أيضًا إلى الرعب الذى أحدثه فيروس كورونا بالبشرية، وكيف أثَّرَ بشكل مباشر على السلوك الإنسانى والممارسات اليومية، وكيف أن الطهى كان ربما أفضل وسيلة للتغلب على حالة الإحباط والخوف والوحدة والملل.

وكيف أصبح المطبخ هو الملاذ والملجأ من ذلك الرعب الذى نتجرعه يوميًّا: «لجأ الناس إلى المطابخ فى الكوارنتينا لتنمية مهارة لياقة الفم، يطبخون لحظات فراغهم على مهل، بدلًا من سبها. يعيدون تدوير وصفات الجدات حد إفساد ذلك الملل المتباكي، يطبخون ويأكلون بشبق للحياة، ونهم افتقدوه تجاهها».


كانت عملية الكتابة الممزوجة بتجارب الطهى المختلفة، محاولات دائبة للتعبير عن ذات حائرة، مؤرَّقة وجوديًّا، تصطدم طوال الوقت بأسئلة تدور حول الحياة والموت والحب والفقد، لكن فى النهاية، تتمرد بطلة الرسائل على قلبها ومشاعرها وعاطفتها تجاه من يتجاهلها، فتعترف بأن حبها «مازوخية وكفر بشريعة اللاءات». 


ونتبين فى نهاية الأمر أنها كانت تكتب، ليس لحبيبها، بل لنفسها، لأجل حريتها وانعتاقها من أسرِ علاقة مدمِّرة: «أخط بعض الحروف لأخطو خارج أسوار سجنى»، وبالفعل تنجح أخيرًا مع آخر رسالة، فتكتب فى نهايتها: «تعلمت الدرس جيدًا .. ماشية فى طرق خالية من المرايا، علَّنى لا أقابل الفجيعة من أول النهار، ولا أتعثر بطيفك كحقل ألغام».

اقرأ ايضا | كتاب وحده الحالم يصحو.. ماريا بوبوڤا وخـدش عَــظــم الحـيـاة