كتاب وحده الحالم يصحو.. ماريا بوبوڤا وخـدش عَــظــم الحـيـاة

كتاب وحده الحالم يصحو: ماريا بوبوڤا وخـدش عَــظــم الحـيـاة
كتاب وحده الحالم يصحو: ماريا بوبوڤا وخـدش عَــظــم الحـيـاة

كتب : أحمد الزناتى

قرأتُ مرة فى يوميات ميرتشا إلياده أنه كان يفكّر فى تأليف كتاب جامع يعبّر عنه، قال إنه سيكتب شكلًا من أشكال الكتابة الحرة الخالية من أى نظام أو تصنيف؛ يوميات وذكريات وتأملات وتعليقات على أفكار وكتب، تفصح عن ذاته إفصاحًا شاملًا، هوامش على التاريخ والأدب والفلسفة والأديان، مازجًا إياها بسيرته الذاتية. طالما فكرت فى الشكل الفنى الذى سيخرج عليه كتاب إلياده (بحسب علمى لم يكتبه، وتناثرت المادة فى يومياته ومذكراته) حتى صادفت من سنة تقريبًا كتاب القارئة والكاتبة البلغارية/الأمريكية ماريا بوبوڤا Figuring))، الذى صدرت ترجمته العربية الشهر الماضى بعنوان «وحده العالم يصحو» بترجمة ممتازة للمترجمة العمانية زوينة آل تويه. 


بوبوڤا معروفة بمدونتها الثرية Brain Pickings ولاحقًا Marginalian ، وهو عنوان دال وموحٍ بما يكفى. الكتاب خلاصة قراءات العمر فى العلوم والتاريخ والآداب والسِير الذاتية، ونَـظــم كل ما سبق فى عقد فريد يتقصّى مغزى الوجود الإنسانى. على المدونة كتبت بوبوڤا: «لقد ألّفتُ كتابًا. كتبتُه فى اثنتى عشرة سنة، كان أجمل تجارب حياتى وأشدها صعوبة وإثارة للارتباك.»
اهتمامى بِبوبوڤا راجع بالأساس إلى سببين. أولهما رؤيتها لسؤال المعنى. ترى الكاتبة أن سؤال المعنى هو وظيفة حياة الإنسان، والمعنى ليس ما نجده، بل ما نصنعه بالحياة التى نعيشها (مهما كانت خيباتنا وإخفاقاتنا، لا يهم).

وبالمبادىء/القيم التى ننحتُ وفقها شخصياتنا، وأما السبب الثانى فهو إعجابى بفضولها المستمر وتنقيبها فى أرشيف الأدب العالمى والتنويه – بشكل انتقائى ينمّ عن ذوق رفيع- بأعمال ونصوص وكُتاب لم يُسلّط عليهم الضوء بشكل كاف.

ومحاولاتها ربط الفكر والفن والموسيقى بالحياة، ناهيك بعدم التصاقها بجنس القصة والرواية للتعبير عن نفسها، ربما لأن عالمها (وعقلها أيضًا) أرحب من ذلك، عالم متجاوز للأشكال النمطية،يرى الأدب وسيلة لا غاية، فحاولت تطوير شكل سردى يجمع بين النثر الحر والسيرة الذاتية والبحث الأدبى وفن المقالة والتعليق على الكتب، مما يذكرنا بالطريق التى سلكها الألمانى ف.ج. زيبالد مثلًا والإسبانى إنريكه فيلا – ماتاس والمكسيكى سيرخيو بيتول،مع اختلاف الرؤية والأسلوب. 


ليس هذا كتابها الأول، فقبل سنوات قليلة أصدرت كتابًا بعنوان: (رسائل إلى قاريء شاب)، حاولتْ فيه جذب الناشئة والأطفال إلى عالم الأدب والكتب عبر عرض رسائل كتبتها أسماء مرموقة فى عالم الأدب مثل آلان دى بوتون ونيل جايمان وإليزابيث جيلبيرت. نقرأ فى مقدمته: (مرة أخرى وجدت نفسى ممزقة بين عالمين، لم يكونا عالميْن طافحيْن بالإيديولوجيا على نحو صارخ مثلما الشيوعية البلغارية فى طفولتى والرأسمالية الأمريكية فى مراهقتى، لكن العالميْن كانا يتسمان بخصوصية مميزة.

لقد أصلحت بينهما مصالحة شخصية عبر قضاء أيامى فى قراءة الكتب، وكانت أغلب قراءاتى فى مجلدات الروائع الكلاسيكية الخالدة كتبها أناسٌ قضَوا وطواهم النسيان، ثم عبْـر الكتابة عنهم فى مدونتى على شبكة الإنترنت، التى صرت أستخدمها كـهامش واحد عملاق للتعليق على قرءاتى وأفكارى ومساعى للبحث عن المعنى.) 

الكلمة المفتاحية هنا، كما أشرت، البحث عن المعنى. وكلمة البحث عن المعنى حاضرة بقوة على مدار صفحات العمل، هى رحلة فردية ذاتية صِرفة بدليل خمسمئة صفحة كتبتها بوبوڤا بحثًا عن مغزى وجودها فى سير الآخرين، ومن ثم فأى انشغال بالبحث عن المعنى خارج الذات – هو فى اعتقادى- ارتخــاء ذهـني، جُبن فى مواجهة الذات بنقائصها وخيباتها.

وهى أمـر طبيعى وعادي، فحياتنا كبشر مسكونة دومًا بخيبات من أنفسنا ومن الآخرين، أما غير الطبيعى هو محاولة نقل المعركة الحقيقة إلى أرض أخرى اسمها الآخرين: السياسة، قضايا المجتمع، إلخ. لإلقاء اللوم عليهم، عملًا بمبدأ «همّا السبب.» 


تكتب بوبوڤا سردًا رقيقًا ولأنها كاتبة حقيقة فهى تنفى عن نفسها احتراف كاتبة، وترى نفسها قارئة فى المقام الأول تعيد سـرد ما قرأته ثم صوغه فى قالب مرن يمزج العلمى والتاريخى والعام بالأدبى والذاتى والخاص، لتنسج شبكة خفية تضم علماء فلك وفنانين وكُتاب وشعراء، منهم سيدات كثيرات. الكتاب رحلة فى دروب الوجود بحثًا عن المعنى، تقطعها المؤلفة فى أسفار بحثية تاريخية سيرية تجمع بين العلم والشعر والفلسفة للعثور على إجابات، فتخلُص فى النهاية كما أدركت فيرجينيا وولف أن الحل كامن فى إيجاد الروابط بين كل شىء: «العالم كله عمل فنى ... نحن الكلمات،نحن الموسيقى،نحن الشيء نفسه.»


تحاول المؤلفة تسجيل انتصار الإنسان على ظروفه، وعلى الأخص كفاح النساء (كأمهات وزوجات وعازبات) كمرادف لكفاح البشر عمومًا فى القرنيْن الماضيين ليضعْنَ موطأ قدم فى مناحى الحياة المختلفة (العلوم والتعليم والعمل)، وهو الكفاح الإنسانى الحقيقى الجدير بالإشادة. 


تقرأ بوبوڤا السير كمن يقرأ قصيدة وتكتب عنهم كمن يكتب قصة، فاستطاعت إعادة تركيب الأفكار وربط مجالات المعرفة التى تبدو متباينة فى عدسة واضحة مكبرة للواقع، وترجمت الأحداث والوقائع إلى موضوعات نابضة بالحياة، تشتبك مع واقعنا اليومي، مُعيدةً كتابة التاريخ فى فقرات نثرية عذبة تضىء درب الوجود «أبو لمبة مهزوزة».

لمست ذلك مثلًا فى استعاراتها وهى تصف المذنبات فى ص 54 إذ تقول:» تبدو المذنبات وهى كتل جليدية من السخام وغبار النجوم تطلقها الأبدية مثل رُسلٍ سريعى الأبدية، مثل مَراسٍ دورية بواسطتها نـثـبِّت أنفسنا فى تيار الوجود غير الأكيد.» 


يُلاحظ كذلك استخدامها لتقنية «الفلاش باك» وهى تتحدث عن سِيَر عالمات الفلك فى القرن التاسع عشر ثم ما تلبث أن تقفز إلى حياة  شاعرات وشعراء وفلاسفة (ف. وولف، إيمرسون، هنرى د. ثورو ، ميلڤِل وغيرهم)، وأنها كثيرًا ما كانت تُــطـــعِّم فصوله بشواهد شعرية ونثرية غزيرة من أعمالهم. 


تقول بوبوڤا فى المقدمة: «إن الحياة تُعاش بطرق متوازية وعمودية، وتُفهم بطريقة لا خطيّة، ولا يمكن تصورها بطريقة التخطيط البيانى المباشر، ومن هذا النسيج المزدان بالرسوم تنهض إشارات إلى إجابات عن أسئلة تسحج [تخدش] عَــظــم الحياة: ما المكونات الشخصية للشخصية؟ هل تكفى العبقرية لنيل السعادة؟ وهل يكفى الحب؟ هل النجاح ضمان للتحقق أم أنه مجرد وعد عابر؟» 


هذه غاية الكتاب؛ خدش عَظم الحياة المتيّبس واستثارته لينطق ويفشى ما يخفي. أتخيل أن اهتمام المؤلفة بعالمات وعلماء الفلك راجع فى الأساس إلى رغبتها فى امتلاك رؤية أوسع وأشمل، وفى إيمانها بارتباط جمال الكون بالفضول. الجمال يجذب الفضول والدهشة، الجمال يدعو إلى نبش واستجلاء ما يكمن تحت سطح التصنيف الإنساني. تقول بوبوڤا: «إن ما ندركه بوصفه جمالًا قد يكون لغةً لتشفير الحقيقة، جمال أصيل فى الكون مثلما هو أصيل فى الرياضيات.»



برغم استحالة تغطية الموضوعات والقصص والسِيَر هنا، إلا أن الحب بمعناه الأشمل هو نواة العمل. بدأتْ الكتاب بيوهانيس كِيبلر، عالم الرياضيات والفلك الألمانى الذى ألّف أول عمل خيال علمى فى العالم، وهو قصة خيالية اسمها «صومنيوم» أو «حُلم» عن فلكى صغير السن يسافر إلى القمر. حكاية رمزية ذكية سبقت عصرها تصف آثار الجاذبية قبل نيوتن.

وتبشر بالسفر إلى الفضاء قبل ثلاثمئة سنة من هبوط أول مركبة فضاء على سطح القمر. الطريف أن كِبلر نفسه أُلهِمَ فكرة القصة التى قادته إلى نظريته الشهيرة من كتاب السيِر لبلوتاريخ. مرّة ثانية، حتى الكشوفات العلمية وليدة الخيال الخلّاق.

أين الجديد فيما قالته المؤلفة؟ الجديد فى جُملة واحدة عابرة صاغتها صياغة جميلة: «أيًا كان تكوين الكون فإن فهمه هو عمل قصص، وليس عمل علوم، وأن ما كان  الكون بحاجة إليه هو بلاغة جديدة يشرح بواسطتها أن الأرض تتحرك حقًا، وهكذا وُلد الحلم.» وهكذا أيضًا وُلِد عنوان الفصل الأول (وعنوان الترجمة العربية شامل الدلالة): وحده الحالم يصحو. 


تحتاج العلوم إلى شاعرية لكى تُفهم. مبدأ مهم جدير بالانتباه حينما أشارت الكاتبة إلى أن جوته، أجلّ شعراء أوروبا الرومانسيين قدرًا، خصّص قسطًا وافرًا من حياته ووقته لدراسة العلوم والنباتات، وأن أعظم إسهاماته لا يكمن فى اكتشافات علمية أصيلة.

وإنما فى توليف العلوم وجعلها فى المتناول، وفى استخلاص استعارات خلاقة منها ستسكن فى المخيلة الشعبية قرونًا، منوّهة بأن صمويل كولريدج كان يحضر محاضرات الكيمياء للحصول على استعارات جديدة من علم الكيمياء يـطــعِّم بها قصائده، شخصيًا أجدّ أحيانًا فى لغة القانون والعقود والماكينات اصطلاحات فنية أكثر ملائمة ودقة فى التعبير عن مواقف بعينها. كتبَ بيتر هاندكه ذات مرة أنه كان يرجع إلى قانون الإجراءات الجنائية النمساوى للعثور على تمييز لغوى صارم بين تعريف «الموت» «والوفاة» و«الاحتضار»، ليوظفّها داخل نصوصه.



لكفاح المرأة فى الكتاب النصيب الأوفى. قصص النجاح، حتى قصص الرجال – كقصة كِبلر وأمّه، قصة الزوجين الشاعرين روبرت وإليزابيث براوننج، قصة عالم الفيزياء الحائز على نوبل ريتشارد فينمَن وزوجته آرلين (فى صفحة 113 كتبَ فينمَن رسالة رثاء شاعرية رقيقة إلى زوجته المتُوفاة لا تخرج من سنّ قلم جوته نفسه)، أقول قصص النجاح منشؤها دائمًا وأبدًا امرأة: أم/زوجة/صديقة/عشيقة.

وكأن الحب هو الصمغ الشفاف الذى يربط مفاصل الكون. يروى الكتاب بإسهاب سِيَر شخصيات نسائية مهمة: عالمة الفلك ماريا ميتشل، الشاعرة إليزابيث باريت براوننج، الناقدة والصحافية مارجريت فُلر، الشاعرة إميلى ديكنسون، والنحاتة هارييت هوسمر، وتنتهى بِرتشيل كارسن، رائدة الحركة البيئية العالمية.

فى كل فصل تواجه النساء عقبات جمّة راجعة إلى التحيز ضدّهن، فتبرز جهودهن للحصول على المساواة فى فُرص التعليم والعمل والحماية القانونية بمنطق منضبط ينأى عن التحيزات الإيديولوجية والترويج لمصالح تيار بعينه. ما جمع أولئك السيدات العظيمات بحسب المؤلفة هو الإخلاص والإيمان. بعض السيدات كنّ يمتلكن من الحكمة ما يضارع كبار الفلاسفة.

الصحافية والناقدة الأميركية مارجريت فُلر (توفيت 1850) تقول مثلًا فى إحدى يومياتها: «أشعر بأننى سعيت إلى تحقيق أفضل ما يمكننى تحقيقه فى الحياة، لقد تشكّل عقلى شخصيتى إلى حدّ كبير، لن أغيرهما كثيرًا، ولكننى سأضيف إلى مخزون معارفى.» 


ومثلهن مثل المؤلفة كنّ يعشقن الشِعر بقدر ما كن يعشقن الرياضيات، لكن بوبوڤا تردم الفجوة المصطنعة التى نشأت بين العلم والشعر على مر السنين، فتقول نقلًا عن جوته: «إنهم ينسون أن العلوم انبثقت من الشعر، ولم يروا أنه عندما تتغير الأزمان الزمن يستطيع الاثنان أن يلتقيا مرة أخرى على مستوى أعلى كصديقين» كما نقلت عن جوته. تروى لنا مثلًا كيف بدأ اختراع نيكولا تيسلا لمحرك التيار المتناوب ذاتى التشغيل بتأمّل مشهد غروب الشمس الساحر فى حديقة بودابست الذى ألهمه فجأة رؤية مجال مغناطيسى دوار. 


استرعى انتباهى كذلك غياب السياسة أو التلميح لهموم سياسية/مجتمعية والنضال المجتمعى لأجل القضايا الإنسانية الكبرى (لم أفهم يومًا ما المقصود تحديدًا بهذه العبارة وفى أى سياق، لكنها باتت اليوم لحسن الحظ مملة)، لا بسبب موضوعية الكتاب، بل ربما – حسبما أرى- لوعى المؤلفة أن سؤال المعنى سؤال وجودى محض وأن الفلسفة/العلم يخدمان تطور الذات الفردية المستقلة، وأن إقحام السياسي/الإيديولوجى داخل الفنى لائق بكُتاب الدرجة الثالثة، والأولى بالكاتب أن يترك ما يجهل إلى ما يفقه، عسى أن يُفلح وينفع نفسه أولًا.



ربما يشعر القارىء بعد المضى قدمًا أن الكتاب يفتقر إلى صورة شاملة توحـد أفكار الكاتبة، ففصول الكتاب ترفرف بدون توقّف مثل رفرفة «يمام أبدًا» الذى تحدّثَ عنه جمال الغيطانى فى حكايات هائمة، ذلك اليمام الراحل الطيّار منذ خروجه من البيضة حتى دنوّ منيته ولا يحطّ أبدًا، أقصد أن فصول العمل لا تنفكّ تقدم مزيدًا من الشخصيات، ذهابًا وإيابًا، فوق وتحت، وكأن بوبوڤا، مدفوعةً بحماسة انفعالية لمادتها، كانت تسعى إلى التوفيق بين سلسلة من الأفكار المتباينة فى لُحمة واحدة، أو تحاول انتزاع قصاصات ملونة ولصقها إلى جوار بعضها على حائط واحد لتبدو منسجمة فى نهاية المطاف.

وهو أمر يقتضى التحلّى بقدر كبير من الحذر والحيطة، حيث شعرتُ أحيانًا أن الزمام قد أفلتَ من يدها وأنها أفرطت فى الإسهاب والاقتباس، لكنى لم أشعر بملل أو فتور قط. 


تختتم برسم بورتريه مؤثر لحياة عالمة الأحياء البحرية وعالمة البيئة رتشيل كارسن، التى كشفتْ كتاباتها أن  فى مقدور العلم أن يكون موضوعًا أدبيًا. فى حياة كارسن وعملها  تتبلور الخيوط الموضوعية الرئيسية لكتاب بوبوڤا. حيث أظهرت كارسون كيف أن العلوم اجتمعت معًا فى فهم شامل للطبيعة والوجود الإنساني، مقتبسةً من كرسون أنك لا يمكنك الكتابة بصدق عن عالم الأحياء البحرية واستبعاد الشعر.


كما قلت ربما يكون مأخذى على الكتاب – كقاريء- الانعطافات المفاجئة المشتِتة للانتباه أحيانًا فى سرد سِيَر الشخصيات والإيغال فى تفاصيل تاريخية زائدة وتفاصيل تخص الحياة الحميمية/الجنسية للكاتبات بشكل غير مبرر أحيانًا، وهو ما خفّف من تركيز المادة الأدبية/الإبداعية فى العمل، وإن لم تُذهب الطَعْم تمامًا.  


بعد إنهاء الكتاب فكّرت أنه ليس بالضرورة أن تكتبَ قصة أو رواية لتصير كاتبًا حقيقيًا، بل ربما يتحتم فعل العكس أحيانًا، فالرواياتالقصص مطروحة على جانبى الطريق يعرفها العربى والعجمي، وكفى بالكاتبة/الكاتب أن يُكوَّن رؤية كلية للأفكار وأن يوجدَ روابط بينها، حينها سيكون فى مقدوره أن ينتج نصوصًا، ربما تكون أقرب إلى هوامش وتعليقات على أعمال أسلافه، لكنها تفوق الأشكال الأدبية المألوفة صدقًا وأصالة. 


الملحوظة الثانية هى صورة غلاف الكتاب والشكل المخروطى المرسوم أسفل العنوان، وهى فى الأرجح صورة تليسكوب قديم الطراز، وقريبة الشبه إلى حد ما من مركبة كِبلر الفضائية كما أخبرنى ابنى الأكبر لما سألته عما يرى فى الشكل المرسوم (مركبة كِبلر مسبار أطلقته وكالة ناسا لإكتشاف الكواكب المشابهة للأرض، التى تدور حول نجوم أخرى). فكرتُ أيضًا فى بنية الكتاب ومنهج تأليفه والفصل الأخير الضام لكل خيوطه فى النهاية، ولِمَ أخرجته بوبوڤا على هذا النحو الذى لا يلتزم خُطة ولا نسقًا. كان نيتشه يقول إنه لا يقرأ لأى كاتب يُلاحَـظ عليه أنه كان يريد تأليف كتاب، بل يقرأ فقط لذاك الذى تتحول أفكاره لا إراديًا إلى كتاب، وهو ما أنجزته الكاتبة أو رأتَه مُحققًا بعد إنهاء العمل وربما لم ترَه فى البداية. 


أتخيل أن بوبوڤا هى من اقترحت صورة الغلاف، وطاف بذهنى بيت شعرى لصمويل كولريدج (صدّر به يونج مذكراته) يقول: «فنظر إلى أعماق روحه بِتلسكوب فما رآه فى البداية اضطرابًا وفوضى استحال فى عينيه فى النهاية إلى جمال ونظام.»     

اقرأ ايضا | اليمنى حبيب عبد الرب سروري يؤسس جزيرة المطففين