كل المدن أحلام.. سردية عابر في المكان الآخر

كل المدن أحلام: سردية عابر فى المكان الآخر
كل المدن أحلام: سردية عابر فى المكان الآخر

كتبت : د. رضا عطية
يقدِّم الشاعر المصرى جرجس شكرى، فى كتابه الأحدث، كل المدن أحلام، تجاربه الخاصة فى رحلاته إلى أوربا وزياراته التى قام بها إلى عدد من المدن الأوربية، فى ألمانيا وفرنسا وسويسرا وهولندا والسويد والنمسا، فى رحلة من خلال الكتابة، تعيد تقديم مشاهداته فى هذه البلدان من أماكن ومعالم وأشخاص وفنون وعادات هذه الشعوب وطقوسهم وسلوكياتهم. 


لا بدَّ أن يطرح كتاب شكرى تساؤلاً حول نوع الكتاب وتصنيفه الأجناسى، فعلى الرغم من َ تصنيفه كأدب رحلات، لكن علينا أن ندرك بوعى اتساع مثل هذه الكتابة، شأنّها كشأن الكتابات الجمالية والأدبية عن التقييد النوعى الصارم، فضلاً عن أنَّ كون «أدب الرحلة» نفسه، كمفهوم كلاسيكى، قد ارتبط بشروط تاريخية حددت سماته النوعية، قد تغيرت.

ففى عصر الانفتاح الثقافى والتداخل المعرفى والسيولة المعلوماتية، لم يعد هناك تلك الفجوة الكبيرة والمسافة الهائلة التى تفصل بين الأماكن وتباعِد بين الثقافات، ما يُخفف- نسبيًّا- من شعور الدهشة والاستغراب الذى قد يداخل الذات فى ارتحالاتها إلى مكان آخر، غير مكانها الأول وموطنها الصلى الذى تنتمى إليه.


ولنا أن نُدرِج كتاب جرجس شكرى، أيضًا، ضمن نوع الكتابة السيرية، ولكنَّها سيرة انتقائية، تستقطع جانبًا من السيرة الكلية للذات لتقديمه عبر الكتابة، وهى سيرة العابر فى المكان الآخر. العابر غير المقيم، هو يأخذ بعض لقطات أو مشاهد من المكان الآخر. لكن فى كتابة شكرى عن المدن والأماكن فى المكان الآخر، تصبح المدن بمكوناتها الفيزيقية والميتافزيقية أسئلة ومواضع دهشة ومجال بحث، وموضع تنقيب وتفتيش، عن روحها وتاريخها.

واستكشاف لهويتها. لذا تبدو كتابة جرجس شكرى عن مدن المكان الآخر التى زارها تحيد عن النقل الآلى والتسجيل التقليدى لمشاهدات مر بها عابر بالمكان؛ حيث يتبدى انتقائية الوعى فى تعاطيه مع المكان الآخر، فضلاً عن خصوصية البصمة الكتابية لشكرى بأثر وعيه الجمالى كشاعر وتكوينه الفنى كمسرحى، ما شكَّل بوصلة الانتقاء الكتابى لديه.


ولا يفوتنا أن نقرأ عنوان الكتاب، كمدخل أوَّلى له، كل المدن أحلام، الذى يقرن المكان المدينة بوسم الحلم، الحلم بمعنى التصورات الاستباقية والتطلع اليوتوبى أيضًا، والتعالى على الواقع الموضوعى أو على الأقل عدم الاكتفاء بمعطياته المباشرة.


تناظرات المكان الآخر فى المكان الأول
فى معاينات الذات للمكان الآخر، المدن التى قام شكرى بزيارتها فى أوربا، ثمة حضور للمكان الأول، الوطن، مصر، فى تمثلات الذات للأماكن والشعوب، فكثيرًا ما تستدعى مشاهدات المكان الآخر وأحواله حال مصر، ولا سيما تحولاتها، وكثيرًا أيضًا ما تستحضر الذات نظائر لعناصر المكان الآخر فى مكانها الأول.


وعن ملاحقة المكان الأول وملازمة آثاره للذات فى رحلاتها وعبورها بالمكان الآخر، يقول جرجس شكرى:
كنت أسير فى شوارع زيورخ، بيرن،بازل، باريس برلين، لوزان، جنيف، سان جالن، بالما دى مايوركا، مالمو، فرانكفورت، شتوتجارت، توبينجن، ليون، لوبليانا وغيرها فأرى شوارع القاهرة، أقارن بين البيوت والشوارع وأعود بذاكرتى إلى الوراء فى النصف الأول من القرن العشرين مستعينًا بتراث أفلام الأبيض والأسود أتأمل البشروأجد لهم قرناء فى القاهرة والجيزة وسوهاج والمنيا وأسوان والإسكندرية وكل المدن التى عشت فيها، فصاحب المطعم يشبه مدرس التاريخ والسيدة زوجته هى أليس الخياطة التى قضت حياتها بين ماكينة الخياطة وهيكل الرب فى كنيسة العذراء.

ولا أعرف كيف حدث هذا؟ كيف تحول زوج صاحبة الفندق فى الغابة السوداء وقد كان الطاهى الخاص بشارلى شابلن فى سنواته الأخيرة إلى أحد مديرى المسارح فى القاهرة،نعم هو وكأنَّنى أحمل القاهرة بالمدن والشوارع والبيوت والبشر أينما ذهبت. (ص ص11- 12).


يلحُّ المكان الأول/ الوطن على وعى الذات العابرة فى المكان الآخر، ليمسى مكانها الأول بمثابة بؤرة مركزية ومرجعًا إحاليًّا تتمثل الذات كل المدن فى المكان الآخر فى مركز مكانها الأول، القاهرة، كذلك تحدث تماهيًّا حد المطابقة بين شخوص المكان الآخر وشخوص مكانها الأول، وتماثل نظائرى، يكشف عن طغيان آثار المكان الأول على مكوِّنات المكان الآخر المادية والروحية؛ فالذات تتبصَّر مكانها الآخر فى مرايا وعيها المسكون بآثار مكانها الأول، فى كتابة عائمة بين الواقع الذى تتجاوز حقائقه ومعطياته الموضوعية وتتخطى تقريرية الإخبار به إلى التمثُّل التخييلى الذى يحيل كل ما هو واقعى إلى تمثُّلات مجازية، فالذات تسكب من وعيها ووجدانها على عناصر الواقع، بما يعيد إنتاجه ويخلق تصورًا جديدَا عنه، يخص الكاتب، فى إعادة صياغة ما هو موضوعى وفقًا لذاتية الكاتب.


بدا جرجس شكرى فيما ينتقيه ويكتب عنه من معايناته للمكان الآخر، مهمومًا بمصر، وبحالها، وصاحب رؤية فى إدراك تحولاتها الهوياتية:
فى أوربا رغم التقدم احتفظوا بكل شيء ونحن خسرنا كل شيء تلك هى القضيةأو ما يسميه أنور عبد الملك عدم اتصال الشخصية المصرية «أى أنَّ ماضينا الغابر غير موجود بشكل واضح فى شخصيتنا المصرية كما هى اليوم، وكأنَّه لم يكن وأنَّ هناك انكسارًا بين هذا الماضى الحضارى العظيم وبين حاضرنا الجديد». (ص20).


تتجاوز حدقة الوعى الراهنى والآنى إلى ما هو تاريخى وممتد عبر الزمن، كما ينطلق الكاتب من مشاهداته للأحداث ومعاينة الأحوال فى المكان الآخر إلى عقد مقارنات بين الآخر والذات وكذلك بين الحاضر والماضى؛ لذا يبدو كتاب شكريأكبر من كتاب يمكن أن يُصنَّف باعتباره «أدب رحلات» وحسب.

وأوسع من مجرد «سيرة» لعابر فى المكان الآخر؛ إذ يُمارِس نقدًا فكريًّا لمآلات الشخصية الجمعية وتحولات الهوية القومية للوطن، والنسخ الذى مسَّ الشخصية المصرية، كما تبدو بنية الكتابة لديه نسيجًا تتضام خيوطه من نصوص أخرى، نصوص أدبية وفكرية، تبدو كشواهد على الاستخلاصات الرؤيوية التى يقدِّمها الكاتب.


مسرحة العالم وتشعير الوجود
يميل جرجس شكرى فى كتابه،كل المدن أحلام، إلى مَسْرَحَة العالم، فى تمثُّل سلوكيات شعوب المكان الآخر وأدائهم طقوسهم الحياتية وممارستهم عاداتهم وتقاليدهم، كما تفيض كتابة شكرى بحس شعرى يتبدَّى فى تجاوز رؤية المواقف والأحداث ومشاهدة الأشياء فى وجودها المادى الملموس وتمظهرها المباشر إلى تمثُّلها فى سياقات مجاوزة ووجود مفارق أو وجود آخر موازٍ يمنحها تجليًّا شعريًّا.


وعن مشاهدت فى عدد من المدن السويسرية ومنها زيروخ يقول جرجس شكرى ملاحظًا سلوك الغربيين:
فى شوارع المدن السويسرية سوف أعيش مجموعة من المشاهد ٌأقرب إلى الأداء المسرحى، وأنا أشاهدشابًايرتدى معطف الطبيب ويمسك بيده مطرقة صغيرة عادة ما يستخدمها طبيب العظام يخطو ضاحكًا وحوله مجموعة من الشباب يتقدم إلى المقهى ويسأل فتاة تجلس فى الطاولة التى إلى جوارى، فتبتسم وتشيح بيدها....مشاهد مسرحية فى الشارع، فنحن أمام شعب يؤدى أدوارًا درامية بالفطرة! وكأنَّ هذه المشاهد أيضًا جزءًا من التاريخ تتناقله الأجيال فيما بينها وهذا يختلف عن مصر نحن نسينا الطقوس تحجرت أجسادنا أصبحت تحيا فى خجل أجساد النساء ملفوفة فى الملابس مغطاة تمامًا، أو محشورة فى ملابس غريبة! ملابس مستعارة، والرجال يعيشون حالة انفصام فى الشخصية، نحن لا نجرؤ على الأداء التمثيلى على مسرح الحياة وبالتالى حين نصعد إلى خشبة المسرح نصعد فقراء بدون رصيد نخجل من كل حركة، نخجل من كل شيء، ليس سوى التدين الزائف، والمسرح الزائف والموسيقى العشوائية.


يلتقط الكاتب الروح الكرنفالية والسلوك المسرحى لشعوب المكان الآخر، بجلاء الطباع النفسية لهم وحالة التصالح مع النفس وحب الحياة وعدم الخجل، مثل أهل الوطن، من الاستمتاع بالحياة بأداء رقصات لاهية فى الشوارع والأماكن العامة، ما يبقى هؤلاء فى حالة اتساق مع الذات فى مقابل حالة الزيف التى سيطرت على الشخصية الجمعية المصرية فى العقود الأخيرة.

ومما ينقده شكرى، باهتمام، فى هذا الطرح، المظاهر الدالة على ثقافات الشعوب، كالملابس، التى تتجاوز شيئيتها إلى كونها ملمحًا ثقافيًا وعلامة هوياتية دالة على الشخصية الجمعية سواء اتسمت بالتراكم الحضارى، كما عند الغربيين، أو بالردة والتراجع، كما عند المصريين. فيكشف شكرى عن حالة «الانفصامية» أو ما يمكن أن نسميه «الشيزوفرنيا» الثقافية التى أصابت الشخصية المصرية بارتدائها ما يصفه بالملابس «المستعارة» أو «الغريبة». فيبدو كتاب جرجس شكرى كمرآة سوسيوثقافية للتحولات الفارقة التى ألمَّت بالشخصية المصرية.


تتجاوز التقاطات شكرى فى كل المدن أحلام، الأحداث الجزئيةإلى نظير لها يمنحها روحًا شعرية:
ثمة اتصال واضح وعميق بالحضارة الأوربية،فقد احتفظوا ليس فقط بملابسهموأدواتهم، احتفظوا بالعادات والتقاليد، بكل أنواع الطعام فأينما كنت فى أوربا، فى قرية، فى مدينة، عاصمة كبرى أوضيعة صغيرة سوف تعيش ليلة السبتفى لوحةالعشاء الأخير سواء فى المطاعم أوالبيوت أو حتى فى الحانات الصاخبة، فكلما شاهدت لوحة العشاء الأخير بكل تجلياتها وأشكالها أتذكر كيف يتناول الأوربيون عشاءهم ليلة الأحد فى عطلة نهاية الأسبوعفى كل مكان، فى قرية فى الغابة السوداء، فى مدينة صغيرة فى البلقان، أوفى عواصمكبرى مثل برلين أو باريس أو زيورخ، فحين كنت أجلس فى مطعم مع الفلاحين أو عشاء فى مدينة كبيرةكنت أشعر أننى تحولت إلى شخصية فى لوحة ليوناردوا دافنشى وأننى أجلس مع السيد المسيح وقد تحولنا جميعاًإلى التلاميذ أنا والشعراء ومعنا الفلاحون. 


يتجلى تشعير شكرى للمواقف وتمثيله للعادات التى عاينها فى المكان الآخر فى الطابع الأمثولى والموازاة الأليجورية التى يهبها للأشياء والعناصر والأحداث، كتمثيله لاجتماع الناس ليلة السبت باجتماع العشاء الأخير فى لوحة «ليوناردو دافنشي»، فى تبيئر جمالية لوعى شعرى بالعالم. واللافت أيضًا أنَّ جرجس شكرى يلتقط المبدأ الجامع والخيط الناظم لبنية العادات المتشابهة فى كل مكان فى المكان الآخر، سواء مدينة كبيرة أو عاصمة مركزية .

اقرأ أيضا | مَقَامُ الشَوقْ.. تجليات صوفية عن أولياء بيننا لا نعرفهم