الرواية التعليمية.. إبداع فى طي النســـيان.. تفاصيل

الرواية التعليمية
الرواية التعليمية

كتب: حسن حافظ

تعد الرواية التعليمية واحدة من أشهر الأنواع الروائية، التى يقدم من خلالها المؤلف رؤية ما يوجه بها المجتمع أو الشريحة المستهدفة، عبر تسليط الضوء على عدد من القضايا العلمية أو التعليمية أو الأخلاقية، ويهدف المؤلف إلى تثقيف القراء ورفع الوعى العام لديهم، ومن الغريب أن تيار الرواية التعليمية وما خرج من رحمها من الرواية التربوية، وجد بيئة خصبة فى مصر والعالم العربى، فمنذ رفاعة الطهطاوى رائد عصر النهضة العربية عرفت مصر الرواية التعليمية ومنها انتشرت فى العالم العربى، ويبدو أنه مع عصر التحولات الذى نعيش فيه مع غلبة وسائل التكنولوجيا الحديثة فإن فن الرواية التعليمية لايزال يواصل محاولات الحياة رغم تراجع زخمه بشكل كبير.

تقوم الرواية التعليمية على التوجيه من المؤلف للقارئ المستهدف، ولا تعتمد على التخييل المكثف، بل قد تستخدم مستويات دنيا من الخيال مقابل الاستعانة أكثر بالتاريخ والحقائق، وأدوات الخطاب القائم على إقناع المتلقى، فالبطل فى هذا النوع من الرواية مثالى غالبا وشخصية بيضاء لا تعرف الخطيئة ولا الخطأ، ويسعى المؤلف لتمرير الكثير من الحكم والأهداف الأخلاقية والتربوية التى يريدها المؤلف، لذا يعمد الأخير إلى تشريح الواقع وانتقاده، وكشف عيوبه، والاعتماد على خطاب افعل ولا تفعل، والسارد مصلح غالبا ما يقوم برحلة فى مجتمعه ليبدى انتقاده لأفعال معاصريه وهو فى الغالب كلى المعرفة، وهى السمات التى نجدها فى معظم الروايات التعليمية منذ بدايتها فى أوروبا فى القرن الثامن عشر الميلادى بشكل جدى، على يد الفيلسوف جان جاك روسو وروايته (إميل أو فى التربية)، التى غيرت طريقة التعليم والتربية فى المجتمع الفرنسى وأوروبا كلها.

 

وبدأت الرواية التعليمية بداية مبكرة جدا فى العالم العربى، فعندما عاد رفاعة رافع الطهطاوى من فرنسا، وبدأ مشروع الترجمة فى القرن التاسع عشر، ركز على الجوانب التعليمية والأخلاقية، رأى بعينيه التقدم فى فرنسا والغرب، وقرر أن يوجه رسائله إلى المصريين من أجل أن ينفضوا عن أنفسهم عقود الجهل والتخلف، لذا قرر أن يترجم رواية فرنسية كتبها قس فرنسى، يدعى فنلون، وهى رواية ذات طابع تعليمى، وأطلق عليها رفاعة الطهطاوى، اسم (مواقع الأفلاك فى وقائع تليماك) 1867، لتكون واحدة من أوائل الروايات المترجمة فى يد القراء المصريين، وكان هدف الطهطاوى من ترجمة الرواية هو الهدف التعليمى، إذ يقول فى مقدمة الترجمة: "إن تعريب تليماك، بكل من فى حماك، أو ليس إنه مشتمل على الحكايات النفائس، وفى ممالك أوروبا وغيرها عليه مدار التعليم فى المكاتب والمدارس، فإنه دون كل كتاب، مشحون بأركان الآداب، ومشتمل على ما به كسب أخلاق النفوس الملكية، وتدبير السياسات الملكية".

 

وشكل الرواية التعليمية هو ما اختاره على باشا مبارك لعرض أفكاره فى كتابه الروائى (علم الدين)، وهو كتاب فى شكل رحلة متخيلة للبطل، وهو شيخ مصرى يسافر إلى فرنسا ومعه خواجه إنجليزى، وتدور الأحداث فى شكل مسامرات، تتناول كل القضايا التعليمية التى أراد أن يقدمها على مبارك إلى النخبة المثقفة فى مصر، وكيف يجب الأخذ بأسباب النهضة عبر اعتناق العلوم الحديثة من الغرب، وهو نفس ما نجده عند محمد المويلحى وعمله (حديث عيسى بن هشام)، والذى يقدم فيه تجربة تعليمية عبر رحلات البطل الذى يهدف من خلاله المؤلف لإصلاح المجتمع ورصد أمراضه وتقدم النقد الاجتماعى بلغة عربية قوية قاسية.

 

انتقلت الرواية التعليمية إلى مستوى أعلى، مع الأديب جرجى زيدان، الذى عاش فى مصر وأبدع فيها، أعظم أعماله، وكذلك أشهرها خصوصا مجموعة من الروايات التاريخية ذات البعد التعليمى الواضح، فالرجل وضع نصب عينيه أن يؤسس للون روائى يجمع بين التعليم والتسلية والتاريخ، وهو ما نجح فيه بداية من روايته (المملوك الشارد) 1891م، وبعدها كتب عدة روايات تاريخية مثل: (أرمانوسة المصرية)، و(غادة كربـــــلاء)، و(فتـــح الأندلــــس)، و(العبــــاسـة أخت الرشيد)، و(استبداد المماليك)، وهى الروايات التى حققت نجاحًا هائلًا وقتذاك، بسبب قدرتها على تقديم مادة تاريخية فى شكل تعليمى ممزوج بأجواء تشويقية وهى خلطة مكنت جرجى زيدان من أن يصبح نموذجا واسع الانتشار فى مجال الرواية التعليمية، حتى أنه أثر فى نجيب محفوظ.

 

بدأ محفوظ مشروعه الروائى بالسير على درب جرجى زيدان، إذ بدأ النجيب التفكير فى مشروع روائى يحكى تاريخ مصر الفرعونية، وكان هدفه هو إشعال جذوة المقاومة فى نفوس المصريين، عبر نماذج للثورة والكفاح ضد المحتل القديم ممثلا فى الهكسوس، فى مواجهة المحتل الحديث ممثلا فى بريطانيا، أى أن رواياته الفرعونية هى روايات تعليمية الغرض منها تعليم المصريين فقه الثورة، فوضع مخططا لأربعين رواية عن مصر القديمة، وقدم بالفعل ثلاثة أعمال تاريخية عن مصر القديمة وهي: (عبث الأقدار) (1939)، و(رادوبيس) (1943)، و(كفاح طيبة) (1944)، ثم توقف عند هذا القدر وانتقل إلى الرواية الواقعية، لكن الرواية التاريخية التعليمية وصلت إلى ذروتها مع محمد فريد أبو حديد الذى كتب عدة روايات تاريخية تعليمية غلب عليها الطابع التعليمى الجاف، أبرزها: (الوعاء المرمرى)، و(آلام جحا)، و(ابنة المملوك)، وقد قدم مجموعة من الروايات التربوية للأطفال مثل رواية (عمرون شاه).

 

وكانت الرواية التعليمية هى المسيطرة على الساحة العربية فى بواكير الكتابة الروائية العربية، فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، ففى العراق كتب سليمان فيضى (الرواية الإيقاظية) 1919، والتى تأثر فيها بالرواية التعليمية فى مصر، إذ طالب من خلال الرواية بضرورة تعلم العلوم الغربية والدعوة إلى الإصلاح الاجتماعى، وهى كمعظم الروايات التعليمية فى تلك الفترة، تسعى لتقويم المعوج، وتصحيح المسارات الهدامة، ودعوة المجتمع للإصلاح، وفى سورية قدم الكاتب شكيب الجابرى روايات تعليمية، خصوصا فى روايته (نهم)، بالتوازى مع كتابة معروف الأرناؤوط لروايته التعليمية (سيد قريش) 1929، وكانت الرواية التعليمية السورية امتدادا للرواية التعليمية فى مصر.

 

ورغم تراجع الرواية التعليمية أمام ازدهار فنون الرواية الأخرى، إلا أن هناك محاولة لاستعادتها بشكل أكثر عملية، قدمها مدرس التاريخ والأديب الشاب سيف الله هشام، فى روايته التعليمية (جودياؤون)، التى يسعى من خلالها إلى تبسيط المنهج الدراسى للصف الثالث الثانوى، ويقول لـ "آخرساعة" عن تجربته: "أكتب الرواية، وسبق أن طرحت روايتين فى الأسواق، ومن خلال عملى فى مجال التدريس، وجدت أن الطلبة فى حاجة إلى أسلوب مشوق لتقديم المادة فى شكل أكثر جاذبية، وبالفعل انتهيت من صياغة الرواية التعليمية فى ثلاثة أشهر، وطرحتها فى الأسواق، وقد لقيت الكثير من النجاح بين الطلاب، خاصة أنها تضم تاريخ مصر والمنطقة فى القرنين التاسع عشر والعشرين بشكل مبسط ومكثف وجذاب اعتمادا على الحبكة الدرامية"، لافتا إلى أنه يسعى فى الفترة المقبلة إلى تكرار التجربة فى عدد من المناهج لفصول دراسية أخرى وتقديمها فى شكل روائى. فهل ستكون تجربة هشام بداية مرحلة جديدة فى تاريخ الرواية التعليمية التى تعد الشكل الأٌقدم للكتابة الروائية فى مصر والعالم العربى؟