الحرب الروسية الأوكرانية| ألمـانيا ترقـص عـلى كل الحبـال

شولتز وتأرجح الموقف الألمانى
شولتز وتأرجح الموقف الألمانى

دينا توفيق

لا أحد تحدث عن اللوم الذى يجب أن تتحمله الحكومة الألمانية للأزمة فى أوكرانيا.، أين برلين من كل ما يحدث وهى التى باتت فى نظر المراقبين تعكس كارثة علاقات عامة للحكومة الألمانية.، فما الذى يجعل موقف ألمانيا هكذا؟ حتى بدأ حلفاؤها فى التساؤل عن الثمن الذى تستعد برلين لدفعه لردع روسيا، أو حتى مدى مصداقيتها كحليف، لأنها تتراجع عن إجراءات صارمة.، وهل الطاقة والغاز الروسى سبب فى ذلك؟
 

فى سياق الصراع الأوكرانى الذى اندلع فى عام 2014، أخذت ألمانيا لأول مرة زمام المبادرة فى أزمة دولية كبرى، لم يكن المركز الرئيسى للعمل والتنسيق الغربى واشنطن أو بروكسل أو باريس أو لندن، بل برلين، لقد أوضحت الأزمة قوة السياسة الخارجية لألمانيا؛ استخدامها الماهر للقوة الاقتصادية والدبلوماسية، لكن المواجهة أظهرت أيضًا ضعفها لعدم وجود بُعد عسكرى للقوة الألمانية.


أصبحت ألمانيا رائدة فى الأزمة الأوكرانية لثلاثة أسباب؛ أولاً: نمت القوة الألمانية منذ إعادة توحيد البلاد عام 1990، إذ لا تمتلك ألمانيا فقط أكبر اقتصاد وأكبر عدد من السكان فى الاتحاد الأوروبى، ولكنها أيضًا تقع جغرافيًا فى مركز الاتحاد وهى متأصلة بعمق فى هياكل الاتحاد الأوروبى، ثانيًا: للأزمة أهمية حيوية بالنسبة لألمانيا لأن النظام الجيوسياسى بأكمله فى شرق البلاد معرض للخطر، ثالثًا: لم يكن هناك من يأخذ زمام المبادرة؛ ضعفت باريس فى السنوات الأخيرة، وأصبحت لندن منفصلة بشكل متزايد عن الاتحاد الأوروبى، وتراجعت واشنطن خطوة عن الشئون الأوروبية، وتفتقر بروكسل إلى القدرة على قيادة الاتحاد فى السياسة الخارجية. 


على خلفية مصالح ألمانيا، كان من المحتمل بالفعل أن تلعب البلاد دورًا مهمًا فى أزمة أوكرانيا، ومع ذلك فإن الحسم والتفانى اللذين اتبعتهما المستشارة الألمانية السابقة «أنجيلا ميركل» فى الاضطلاع بدور قيادى فى أوكرانيا كانا بمثابة مفاجأة؛ كانت القضية المهمة الوحيدة فى السياسة الخارجية التى لعبت ميركل دورًا قياديًا فيها هى إدارة العملية البطيئة والصعبة لدمج غرب البلقان فى الاتحاد الأوروبى، لكنها فعلت ذلك فقط من وراء الكواليس، كانت الاضطرابات السياسية فى أوكرانيا مهمة للغاية بالنسبة لألمانيا للوقوف على الهامش، منذ عام 1990.

 

ابتعدت ألمانيا عن كونها دولة على خط المواجهة لتصبح دولة محاطة بالأصدقاء من جميع الجهات، إذا قامت روسيا بتغيير شخصيتها، والعودة إلى الموقف الإمبريالى، وتحدى الوضع الراهن الذى تم التوصل إليه فى نهاية الحرب الباردة ، فإن النظام الجيوسياسى بأكمله فى شرق ألمانيا سيكون فى خطر، إن الجوار الشرقى - أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية وروسيا - هو أمر حيوى لأمن ألمانيا وازدهارها، روسيا ليست فقط مزودًا للطاقة وسوقًا مهمًا للمصدرين الألمان، ولكنها أيضًا الدولة التى لديها أكبر إمكانية لتهديد الأمن الألمانى، كما فعلت على مدى عقود خلال الحرب الباردة.

 

 أصبح جيران برلين الشرقيون متشابكين بعمق مع الاقتصاد الألمانى، وقد صعدت بولندا فى السنوات الأخيرة لتصبح ثانى أهم شريك لألمانيا فى الاتحاد الأوروبى بعد فرنسا، حيث أقامت برلين ووارسو علاقة وثيقة مبنية على ثقة متبادلة كبيرة، نشأت المستشارة فى ألمانيا الشرقية، وتحدثها الروسية، ساعدتها فى الحفاظ على العلاقات الدبلوماسية مع الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين»، عززت ألمانيا روابطها فى مجال الطاقة مع موسكو وحافظت على إنفاقها الدفاعى الوطنى عند الحد الأدنى، وكان هناك كراهية للاشتباكات العسكرية، مثلما كان هناك عنصر من الخوف يلعب دوره فى إحجام ألمانيا عن تبنى رد أكثر حزماً تجاه موسكو؛ وهو الخوف من العودة إلى الحرب الباردة، عندما توقعت ألمانيا أن تصبح ساحة المعركة الأساسية فى حرب نووية بين القوتين العظميين، إن السبب الأوسع والأكثر منهجية لإحجام ميركل عن الانخراط بشكل أكبر فى الجانب العسكرى للقوة هو اعتماد ألمانيا على الآخرين عندما يتعلق الأمر بالقضايا الأمنية، كقوة غير نووية يتم ضمان أمنها فى نهاية المطاف من قبل القوة العسكرية الأمريكية، فإن ألمانيا لديها قدرة محدودة فقط على القيادة نيابة عن الغرب فى بيئة مواجهة مع قوة نووية مثل روسيا؛ فالبلاد ضعيفة فى أى نزاع، لا يمكن للقوة المدنية الألمانية أن تنجح إلا إذا كانت مدعومة مطمئنة ومدعومة بقوة عسكرية أمريكية.


والآن، مع حرب بوتين، يُنظر الآن إلى إرث ميركل من منظور مختلف تمامًا؛ وتحول جذرى فى السياسة الألمانية، قبل بدء العمليات العسكرية الروسية تحركت الولايات المتحدة وحلفاؤها فى الناتو لزيادة التزاماتهم العسكرية فى دول البلطيق وأوروبا الشرقية مع تعمق المواجهة مع روسيا بشأن أوكرانيا، وفقًا لصحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، أرسلت الدنمارك طائرات مقاتلة إلى ليتوانيا وفرقاطة إلى بحر البلطيق، وعرضت فرنسا إرسال قوات إلى رومانيا، فيما أرسلت إسبانيا فرقاطة إلى البحر الأسود، وضع الرئيس الأمريكى «جو بايدن» آلاف القوات الأمريكية فى حالة تأهب قصوى، ثم هناك ألمانيا؛ أكبر وأغنى ديمقراطية فى أوروبا، بموقع استراتيجى على مفترق طرق بين الشرق والغرب، ولكنها تميزت بما لم تفعله أكثر مما تفعله، تكافح ألمانيا للتغلب على إحجامها بعد الحرب العالمية الثانية عن قيادة الأمور الأمنية فى أوروبا وتنحى جانباً غريزتها لاستيعاب روسيا بدلاً من مواجهتها.

وتعرضت ألمانيا وهي الدولة الأوروبية المحورية للهزيمة فى أول اختبار حاسم للحكومة الجديدة للمستشار «أولاف شولتز»، حيث أعلن وقف خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2 بعد التحركات العسكرية الروسية الأولى فى منطقتين انفصاليتين فى أوكرانيا فى أواخر فبراير، لشبكة CNBC الإخبارية الأمريكية، يُنظر إلى نورد ستريم 2، الذى بدأ بناؤه عام 2018 أثناء رئاسة ميركل، على أنه مشروع كان يهدف إلى جلب غاز إضافى من روسيا إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق، حيث يطوف حول المقاطعات مثل أوكرانيا وبولندا، بلغت واردات ألمانيا من الغاز من روسيا حوالى 36% من إجماليها فى عام 2010، والتى ارتفعت إلى ما يقرب من 65% بحلول عام 2020، وفقًا للأرقام الصادرة عن يوروستات. 


أثار تردد ألمانيا الواضح فى اتخاذ تدابير قوية، الشكوك حول مصداقيتها كحليف، لا يزال موقفها غامضًا، عكس الديناميكية مع الولايات المتحدة فى السنوات الأخيرة، حينها زاد من المخاوف من أن موسكو قد تستخدم التردد الألمانى كإسفين لتقسيم رد أوروبى موحد على أى عدوان روسى، وتساءل الحلفاء عن التكلفة التى هى على استعداد لتحملها لمواجهة العدوان الروسى المحتمل، ومع تسلم شولتز إدارة البلاد بعد ميركل، أمر بتسليم أسلحة فتاكة إلى أوكرانيا، ما يعد قرارا تاريخيا وفرض تحولًا دراماتيكيًا فى السياسة الاستراتيجية الألمانية، لعقود من الزمان، كانت السياسة الألمانية هى عدم تسليم الأسلحة إلى مناطق الحرب، ومع هذه الخطوات توقع البعض تغيير مسار برلين فى العديد من السياسات الرئيسية، إلا أنها فشلت فى الوفاء بتعهدها وسط تقارير تفيد بأن الأسلحة قد تعطلت بسبب الروتين وأنها أصبحت قديمة للغاية بحيث لا يمكن استخدامها.

 

 وأوضح بيان المؤتمر العالمى الأوكرانى وفقًا لصحيفة «التليجراف» البريطانية، وهو منظمة تساعد فى تنسيق الإمدادات إلى البلاد، أن المسئولين الأوكرانيين لم ينالوا إلا القليل جدًا من الدعم الألمانى، وإن وجد لم يكن حقيقيًا، يأتى ذلك فى الوقت الذى فشلت فيه برلين فى نفى التقارير الصحفية الألمانية التى أشارت إلى أنها سلمت 500 صاروخ مضاد للطائرات من حقبة الحرب الباردة، على الرغم من تعهدها بتقديم 2700 صاروخ، وأوضحت وزيرة الدفاع «كريستينه لامبريشت»، أن احتياطيات الجيش الألمانى من الأسلحة «استنفدت»، وسيتعين البحث عن المزيد من الشركات المصنعة، فيما أفادت صحيفة «دى فيلت» الألمانية أن العديد من الصواريخ لم تعد صالحة للاستعمال لأنها بقيت فى المخزن لفترة طويلة، وفقًا لبيان صادر عن وزارة الدفاع الألمانية فى يناير، تم سحب صواريخ ستريلا من الخدمة عام 2012 بسبب وجود كسور صغيرة فى الذخائر، أعرب السفير الأوكرانى فى برلين «أندرى ميلنيك»، عن خيبة أمله من الحكومة الألمانية فى نهاية الأسبوع ، واصفًا رد فعل البلاد بأنه «مخيف وغير آمن وغير حاسم وصادم».


ولكن الحكومة الألمانية لم تستبعد فقط أى صادرات أسلحة لأوكرانيا، بل أوقفت أيضًا شحنة من تسعة مدافع هاوتزر من الحقبة الشيوعية من إستونيا إلى أوكرانيا، كانت واشنطن تبذل قصارى جهدها للتأكيد علنًا على ثقتها فى برلين، بينما كانت تضغط بشكل خاص على السيد شولتز لاتخاذ موقف أكثر تشددًا، ووفقًا للصحيفة الأمريكية، فإن الجدل حول أين تكمن الولاءات الألمانية على وجه التحديد ليس جديدًا، فقد تشكلت العلاقات الروسية الألمانية ليس فقط خلال قرون من التبادل التجارى والثقافى ولكن أيضًا بسبب حربين عالميتين، وأضافت الحرب الباردة جانباً آخر من التعقيد، حيث أصبحت ألمانيا الغربية راسخة بقوة فى التحالف الغربى بينما عاشت ألمانيا الشرقية تحت الاحتلال السوفيتى، وفى عام 2014، عندما غزا الرئيس الروسى أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم، كانت «ميركل» هى التى حشدت البلدان المجاورة فى الشرق والغرب لدعم عقوبات صارمة على روسيا، لكن تغيير القيادة الألمانية بعد 16 عامًا من وجودها أدى إلى تشكيل حكومة منقسمة حول مدى صعوبة رسم خط مع روسيا، تجسد سياسة تصدير الأسلحة من نواحٍ عديدة التناقض الألمانى الحديث لدولة تعرف أن عليها تحمل المزيد من المسئولية القيادية فى العالم ولكنها ليست مستعدة تمامًا للتصرف بهذه الطريقة.


من المؤكد أن التحرك الروسى ذنب كبير فى حق المدنيين، ولكن بالتأكيد يجب إلقاء اللوم على الولايات المتحدة فى خلق الوضع الذى دفع بوتين إلى اتخاذ قرار بضرورة غزو أوكرانيا لمنع الأخيرة من الانجرار فى فلك واشنطن، بهدف أن تصبح فى نهاية المطاف قاعدة للأسلحة الهجومية الأمريكية حتى الأسلحة النووية على حدود روسيا، وهو أمر لن تسمح الولايات المتحدة أبدًا بحدوثه فى أى مكان فى «الفناء الخلفى» لأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبى.


ولكن أيضًا ألمانيا مذنبة فى هذه الحرب الحالية فى أوروبا مثلها مثل الولايات المتحدة، بالعودة للتاريخ لم يتم إعادة توحيد ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية إلا بصفقة أبرمتها واشنطن مع موسكو عام 1990 والتى صرح خلالها وزير الخارجية الأمريكى «جيمس بيكر» أن الناتو لن يتم توسيعه «بوصة واحدة» شرقًا بعد الحدود الألمانية الموحدة، وفقًا لوثائق رفعت عنها السرية يحتفظ بها أرشيف الأمن القومى فى جامعة جورج واشنطن، وتُظهر الوثائق الوعود التى قطعها المفاوضون الأمريكيون لنظرائهم الروس بالإضافة إلى مناقشات السياسة الداخلية التى تعارض توسع الناتو فى أوروبا الشرقية، والتى نشرها موقع «دوتش فيليه» الألمانى هذه الفقرة منها القائلة «فى البيئة الحالية، ليس من مصلحة الناتو أو الولايات المتحدة أن تُمنح دول أوروبا الشرقية العضوية الكاملة فى الناتو وضماناتها الأمنية» بينما كانت تلك الدول لا تزال فى طور الظهور من السيطرة السوفيتية كما تفكك حلف وارسو، «ونحن لا نرغب، بأى حال من الأحوال، فى تنظيم تحالف مناهض للسوفييت تكون حدوده الحدود السوفيتية، سينظر السوفييت إلى مثل هذا التحالف بشكل سلبى للغاية».


الآن من المعروف أنه على الرغم من امتلاك ألمانيا لاقتصاد قوى، إلا أن ألمانيا تظل جزءًا يخدم الولايات المتحدة فى سياستها الخارجية، ومع ذلك، فيما يتعلق بهذه القضية الرئيسية والمهمة المتمثلة فى توسيع الناتو، كان للبلاد دائمًا قوة محتملة كبيرة، وذلك لأن قواعد حلف الناتو تتطلب أن أى عضو جديد فى الحلف يجب أن يوافق عليه جميع الأعضاء الحاليين فى المنظمة، وهذا يعنى أنه إذا رفضت ألمانيا انضمام أعضاء جدد إلى الناتو، فلن يكون بإمكان أى أعضاء جدد الانضمام، أو حتى التفكير فى فكرة الانضمام، لذا كان يجب أن تقف ألمانيا بحزم وراء وعد بيكر والرئيس آنذاك جورج بوش الأب بعدم تحريك حدود الناتو شرقًا، وفقًا للصحفى الأمريكى «ديف ليندورف».

 

وتستجيب ألمانيا بدلاً من ذلك بشكل خفى بغزو أوكرانيا التى سمح لها قبولها بالإجراءات الأمريكية المناهضة لروسيا بالإعلان عن خطط لزيادة إنفاقها على الأسلحة بشكل كبير؛ عن طريق شراء أسلحة أمريكية، ومع دفاع روسيا عما تعتبره أمنها الإقليمى، وحث الإدارة الأمريكية على جعل الأمور أسوأ من خلال إرسال أسلحة إلى الجيش الأوكرانى، وبحثًا عن مصالحها بعيدًا عن الإنسانية واللاجئين، أعلنت ألمانيا وفقًا لصحيفة «وول ستريت جورنال» عن الاستمرار فى شراء الغاز الطبيعى والنفط والفحم من روسيا على الرغم من العدوان على أوكرانيا، وقال المستشار شولتز فى بيان إن ألمانيا وأوروبا تعتمدان بشكل كبير على واردات الطاقة الروسية من أجل الطاقة والتدفئة والإنتاج الصناعى، وجاءت تصريحاته فى الوقت الذى دعا فيه وزير الخارجية الأوكرانى «دميترو كوليبا» الغرب إلى وقف اعتماده على الطاقة الروسية، وتعهدت برلين بتنويع إمدادات ألمانيا من الطاقة، لكن الخبراء حذروا من أنها ستعانى على المدى القصير بسبب محدودية توافر هذه الموارد، لن تحل الأزمة الروسية الأوكرانية إلا بالمفاوضات لتجنب المزيد من إراقة الدماء. التخلى عن المصالح ومنح فرصة للسلام يجب أن تعلو أصواتهم الآن، بدلًا من التأرجح والعيش على دماء البشر.