الملاذ الآمن للأفراد.. الذهب وسيلة بوتين لمواجهة محاولات خنق روسيا

احتفظت روسيا بالذهب أكثر من الدولار
احتفظت روسيا بالذهب أكثر من الدولار

دينا توفيق

ارتفعت أسعار الذهب ردًا على الغزو الروسى لأوكرانيا، مع فرار المستثمرين إلى معدن الملاذ الآمن للحماية حيث كان الصراع العسكرى إيجابيًا بشكل عام للمعدن الأصفر، فرفع سعره من 1905 دولارات إلى 1989 دولارا، أو ما يقرب من 4٫4%. لكنه انخفض بعد فترة، وعاود الارتفاع ليصل إلى ما يقرب من 2040 دولارًا.

وتراجع سعر الذهب مرة أخرى، مع إعلان بوتين أن هناك تقدمًا فى المحادثات مع أوكرانيا، مع احتمال وشيك لرفع أسعار الفائدة الأمريكية مما يزيد الضغط على السبائك؛ حيث انخفض السعر الفورى للذهب 0٫6% إلى 1،984.20 دولار للأونصة، لكنه ظل على استعداد لتسجيل ارتفاع أسبوعى بنحو 0٫8% حيث أبقت المخاوف بشأن الصراع فى أوكرانيا المستثمرين يقفون على أطراف أصابعهم. وتراجعت العقود الأمريكية الآجلة للذهب 0٫8% عند 1٫985 دولار. 

وعلى الرغم من أن أسعار الذهب قد تستقر لفترة من الوقت أو حتى تنخفض إذا هدأت الأمور، إلا أن الأساسيات طويلة الأجل تحولت إلى الاتجاه الصعودى. انخفضت أسعار الفائدة الحقيقية وسط توقعات بارتفاع التضخم وتباطؤ النمو الاقتصادى. قال المحلل فى ساكسو بنك اأوليه هانسنب فى مذكرته استستمر الأزمة الروسية الأوكرانية فى دعم احتمالية ارتفاع أسعار المعادن الثمينة، ما قد يعنى زيادة التضخم وتباطؤ النمو وانخفاض ارتفاع أسعار الفائدة لدى البنك المركزى. تعتبر روسيا وأوكرانيا مصدرين رئيسيين للعديد من السلع، بما فى ذلك النفط، ما سيزيد من تكاليف الإنتاج ويقرب العالم من الركود التضخمى.

وبالتالى، فإن النظرة المستقبلية طويلة الأجل للذهب سترتفع أكثر مما كانت عليه قبل الغزو. وعلى المستقبل قصير المدى غير مؤكد، حيث قد تكون هناك فترات من الدمج وحتى التأرجح إذا تلاشى الصراع أو انتهى.

ومع اقتراب الدبابات الروسية من كييف.. وفرض الغرب عقوبات اقتصادية قاسية على النظام المالى الروسى والطاقة لعزلها وخنقها كورقة ضغط لإجبار الرئيس الروسى افلاديمير بوتينب على الانسحاب من أوكرانيا، والجلوس على طاولة المفاوضات وقبول ما يمكن أن يُملى عليه، كان التحرك الأبرز للعقوبات هو القرار المشترك للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى بضم البنك المركزى الروسى إلى االقائمة السوداءب؛ ما أدى إلى شل أصول النقد الأجنبى الموجودة خارج البلاد وجعل الجزء الأكبر من احتياطيات موسكو التى تقدر بنحو 640 مليار دولار مجمدا ومن ثم تراجع الروبل. ولكن لا يزال ما يقرب من 130 مليار دولار من الاحتياطى فى الخزائن الروسية ولكن ذهبًا.. السبائك التى ظل بوتين يجمعها منذ سنوات؛ هل ستكون طوق نجاة أم حبالا لخنقه؟ 

يمكن أن يصبح المعدن الأصفر بمثابة شريان حياة لاقتصاد منعزل. يمكن لبوتين أن يستبدل الذهب بالنقود فى أسواق الظل غير المنظمة. كما يمكنه استخدام الذهب لدفع ثمن أسلحة أو سلع أو خدمات أخرى. لن يكون أىٌ من هذا سهلاً، لكنه ممكن، وقد تم القيام به من قبل. وربما الأهم من ذلك أن بوتين قد استعد لهذه اللحظة. زاد البنك المركزى الروسى من مشترياته من الذهب منذ عام 2014. وكان الدافع واضحًا، رغم عدم الإعلان عنه علنًا؛ وهو رد بوتين على العقوبات الأمريكية، التى فُرضت فى أعقاب غزو شبه جزيرة القرم فى ذلك العام. وفقًا للموقع الأمريكى اwar on the rocksب، الذهب وسيلة للتهرب من العقوبات؛ لا يمكن للخصوم الأجانب الاستيلاء على الذهب النقدى المحتفظ به داخل خزائن الدولة، باستثناء الغزو العسكري. كما يمكن نقله فى جميع أنحاء العالم خارج الشبكات المالية الرقمية ما يصعب تتبعه. وفى الظروف القصوى، يمكن للحكومات التعامل به بديلًا عن العملات الأجنبية. والآن مع فرض العقوبات على مصادر الطاقة الروسية يمكن أن يلجأ بوتين إلى بيع السبائك؛ ولكن فى هذه الحالة سيشير إلى مدى ضعف الاقتصاد. ومع ذلك، بالنسبة لبلد معزول، يمكن للذهب أن يوفر شريان الحياة عندما لا تستطيع الأصول الأخرى الأكثر تقليدية ذلك. يمكن استخدام الذهب لدفع ثمن السلع أو الخدمات مباشرة؛ مثلما فعلته إيران عام 2020، حيث قبلت الذهب كدفعة مالية لمساعدة فنزويلا فى إصلاح مصافى الغاز المعطلة. ومن قبلها عام 2019، عندما تم إدراج بنك فنزويلا فى القائمة السوداء بقرار أمريكى حيث وجد النظام المالى الفنزويلى نفسه شبه معزول تمامًا عن الاقتصاد العالمي؛ حينها تعهد وزير الخارجية الروسى اسيرجى لافروفب بأن بلاده استفعل كل شيءب لدعم النظام الفنزويلى المحاصر. اتخذت المساعدة الروسية أشكالًا مختلفة، من مبيعات الأسلحة إلى كاراكاس والمساعدة على تطوير عملتها المشفرة المدعومة بالنفط للتهرب من العقوبات. كما ساعدت روسيا فنزويلا على تسخير ثروتها الذهبية عن طريق نقل أطنان من الذهب النقدى حول العالم لبيعه فى أسواق غير منظمة، حيث تم استبدال الذهب حينها باليورو، ثم أُعيد اليورو إلى فنزويلا ووزع على البنوك الفنزويلية المعزولة. لذا، فإن أحد الطرق التى يمكن للبنوك المركزية من خلالها استخدام حيازاتها من الذهب هى امقايضةب السبائك مؤقتًا بمزيد من العملات الأجنبية السائلة، قبل التبديل مرة أخرى فى تاريخ لاحق. ربما تكون روسيا قد قبلت الذهب أيضًا كدفعة للديون الفنزويلية بموجب صفقة إعادة الجدولة لعام 2017 مع موسكو. 

لذا، إذا استمر الصراع فى أوكرانيا واستمرت العقوبات الغربية، فقد يصبح الذهب حلًا لتخفيف التكاليف التى تفرضها العقوبات على الشعب الروسى. وقد يكون أهم مشترٍ رسمى محتمل للذهب الروسى فى هذا السيناريو هو الصين؛ نظرًا لاهتمامها بزيادة حيازاتها من الذهب، حيث أضافت ما يقرب من 900 طن من السبائك إلى احتياطياتها بين عامى 2009 و2021، وفقًا لبيانات من مجلس الذهب العالمى.

ولن تمنع حيازات روسيا من الذهب اقتصادها من العقاب؛ لأن المبيعات لن تمكن البنك المركزى الروسى من دعم قيمة الروبل، نظرًا لأن البنك ممنوع من تداول العملات الأجنبية، وفقًا للموقع الأمريكى. لن تعيد مبيعات الذهب ربط البنوك الروسية الخاضعة للعقوبات بالشبكات المالية العالمية. ولكن إذا زاد عزل الاقتصاد الروسى عن طريق تدابير إضافية، يمكن لبوتين، مثل مادورو، بيع الذهب مقابل النقود. يمكن استخدام العائدات لتغطية مشتريات الواردات الحيوية أو لتعويض الأوليجاركية الروسية الخاضعة للعقوبات عن خسائرهم، مما يقلل من المقاومة المحلية لجهوده الحربية.

وخلال السنوات القليلة الماضية، عملت موسكو على شراء أطنان من الذهب وزيادة الاحتياطى أكثر من الدولار، حيث قامت بتهريبه بطرق غير مشروعة من السودان  كجزء من جهود أوسع لبناء احصن روسياب ودرء العقوبات المتوقعة فى حالة غزو أوكراني، وفقًا لصحيفة االتليجرافب البريطانية. سعى الكرملين إلى امتلاك أكثر من أربعة أضعاف كمية الذهب الموجودة فى البنك المركزى الروسى منذ عام 2010، وإنشاء اصندوق حربب يضم الواردات الأجنبية واحتياطيات الذهب المحلية الهائلة؛ كثالث أكبر منتج للمعادن النفيسة فى العالم. احتفظت روسيا بالذهب أكثر من الدولار الأمريكى للمرة الأولى فى يونيو 2020، حيث شكلت السبائك أكثر من 23% من إجمالى الاحتياطيات، التى ارتفعت إلى 630 مليار دولار الشهر الماضي.

وبينما تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن السودان لا يصدر أى ذهب إلى روسيا، إلا أن مسئولا تنفيذيا فى إحدى شركات الذهب السودانية صرح للصحيفة البريطانية أن الكرملين هو أكبر لاعب أجنبى فى قطاع التعدين الضخم فى البلاد؛ حيث يتم تهريب ما يقرب من 30 طنًا سنويًا فى طائرات صغيرة من المطارات العسكرية إلى روسيا. فيما نفى سفير السودان فى روسيا تهريب الذهب إلى موسكو. تكشف الصحيفة أن شركة عسكرية خاصة امجموعة فاجنرب يديرها رجل الأعمال الروسى ايفجينى بريجوجينب المقرب إلى بوتين، تقوم بتدريب قوات الدعم السريع التى تجلس إلى جانب الجيش فى السودان لتأمين مناجم ذهب لشركات التعدين الروسية فى البلاد. وبدأت الشركات الروسية مثل M-Invest ، التى لها فرع محلى يسمى Meroe Gold ، عملياتها فى السودان عام 2017، وعرض على بوتين حينها امتيازات التعدين والسماح له ببناء قاعدة بحرية على البحر الأحمر. هذا بالإضافة إلى شركة اكوشب للاستكشاف والإنتاج التى تعمل فى السودان منذ عام 2013. يرى المحلل السياسى الأمريكى فى مركز استراتفورب اسيم تاكب أنه فى حين أن السودان ربما يكون أهم مصدر للذهب الأفريقى بالنسبة لروسيا، فهو ليس البلد الوحيد فى قائمة الكرملين.

وفى محاولة لتشجيع المدخرين على التخلى عن الدولار فى روسيا، صدق بوتين على قانون يعفى الأفراد من ضريبة القيمة المضافة على شراء الذهب. ويهدف الإجراء إلى تقديم الدعم للمواطنين الروس، الذين يتطلعون إلى استثمار روبلهم، الذى تنخفض قيمته وسط العقوبات الغربية، وفقًأ لما ذكرته قناة روسيا اليوم. فرضت موسكو قيودًا على شراء بعض العملات الأجنبية، بما فى ذلك الدولار الأمريكى واليورو، وهى الطريقة الشائعة للروس لحماية مدخراتهم فى الماضى. ومن ناحية أخرى، قدم أعضاء فى مجلس الشيوخ الأمريكي، تشريعًا يهدف إلى تجميد احتياطيات روسيا من الذهب، معتبرين أن الخطوة ستجعل من الصعب على موسكو تفادى آلام العقوبات الدولية، وفقًا لصحيفة اذى هيلب. ولمزيد من المحاصرة، علقت جمعية سوق السبائك فى لندن (LBMA)   عضوية ست مصافٍ روسية لتكرير المعادن الثمينة: JSC Krastsvetmet ، JSC Novosibirsk Refinery ، JSC Uralelectromed ، مصنع موسكو الخاص لمعالجة السبائك، مصنع بريوكسكى للمعادن غير الحديدية وشيولكوفسكى، مصنع المعادن الثمينة الثانوية. وفى الولايات المتحدة، حذت بورصة السلع التابعة لمجموعة CME حذوها، حيث علقت نفس مصافى الذهب والفضة الست. إن تعليق المصافى الست مما يسمى بقائمة التسليم الجيدة يعنى أنه لا يمكن تداول السبائك فى لندن. لم يحدد كلٌ من LBMA و CME أى مواعيد نهائية للتعليق، قائلين إنه سيكون سارى المفعول حتى إشعار آخر. وتقبل العديد من البنوك فقط المعادن الثمينة التى تلبى معايير LBMA الصارمة حيث إن قائمتها هى معيار الجودة الفعلى فى السوق. إلا أنه تم استبعاد مصافى تكرير البلاديوم والبلاتين فى روسيا من التعليق نظرًا لأنه يتم تداولها فى سوق لندن. يسعى الروس الآن إلى التهرب من العقوبات من خلال التداول فى بورصة الذهب فى شنغهاى. حيث أعلن البنك المركزى الروسى مؤخرًا أنه يستأنف مشترياته من سبائك الذهب المحلية لأول مرة منذ عامين. ووفقًا لمجلس الذهب العالمى (WGC)  ومقره لندن، وهو منظمة لتطوير سوق الصناعة، احتفظ البنك المركزى الروسى بحوالى 2301 طن من الذهب فى نهاية عام 2021، مما يعنى أنه يمتلك خامس أعلى مستوى من الاحتياطيات فى جميع أنحاء العالم.