مبدعون رغم الرحيل المبكر..ودعوا الدنيا قبل أن يشبع القراء من أقلامهم

الأدب القصصى
الأدب القصصى

حسن حافظ
 

كشهاب لامع فى ليلة بلا قمر، سرعان ما يخطف الأنظار ثم يختفى سريعا، شهدت الساحة الأدبية المصرية والعالمية، ظاهرة رحيل الكثير من المبدعين فى سن مبكرة، يتركون خلفهم الكثير من الأعمال الإبداعية التى تؤكد عمق موهبتهم، لكنهم يرحلون قبل أن يشبع القراء من مداد أقلامهم، ففى مفارقة غريبة؛ الراحلون مبكرا يتركون أعمالا إنسانية من طراز رفيع، تخلدهم وتخلد أسماءهم، وتترك حسرة على رحيلهم المبكر، وهل إذا ما كانوا مضوا فى الحياة قدما كانوا سيواصلون الإبداع أم أنهم قالوا كلمتهم وألقوا كل ما فى جعبتهم الإبداعية ورحلوا؟
 

"لا تصالح".. ربما تكون أشهر قصيدة للشاعر أمل دنقل، الذى رحل عن عمر 43 سنة، بعدما ملأ الدنيا وشغل الناس، بأشعاره التى ضمنت له الخلود فى الذاكرة الإبداعية رغم رحيله المبكر، ولم يكن نموذج أمل دنقل الذى خسر معركته مع مرض السرطان فى مايو 1983 فريدا، فالكثير من المبدعين خاصة الشعراء، خلدوا أسماءهم فى سجل المبدعين الخالدين على الرغم من رحيلهم، فى ظاهرة راسخة فى الأدب العربى على مختلف عصوره، وهى ظاهرة واضحة فى الأدب العالمى كذلك، كما هو حال أحد أهم الكتاب الأمريكان فى القرن التاسع عشر، وهو إدجار آلان بو، الذى رحل عن عمر 40 عاما، بعدما ترك بصمته على الأدب القصصى فى أمريكا والعالم، وكذلك شاعر روسيا الكبير الكسندر بوشكين الذى قتل فى مبارزة دفاعا عن شرفه وهو ابن 38 سنة، لكن رغم سنوات عمره القصيرة إلا أنه استطاع بإنتاجه الشعرى والقصصى تأسيس نهضة الأدب الروسى فى القرن التاسع عشر التى أنتجت مجموعة من كبار المبدعين العالميين.


تواجهنا نفس الحالة مع الشاعر والكاتب المسرحى الإسبانى لوركا، الذى أعدم فى أثناء الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936، عن عمر 38 سنة، كما يعد الرسام الهولندى فان جوخ نموذجا للرحيل المبكر إذ مات وهو فى 37 من عمره، ليشهد عام 1890 وفاة نابغة من نوابغ البشرية، أما رائد أدب الكتابة السوداء، التشيكى فرانس كافكا، فقد شغل الدنيا بأعماله المختلفة خصوصا عمله الاستثنائى "المسخ"، والغريب أن هذه الرواية ومختلف أعمال كافكا لم تحظ بأى اعتراف أدبى واسع حتى رحيله عام 1924، وهو ابن أربعين سنة، لكن أعماله حصلت على اعتراف عالمى بعد ذلك وباتت علما على الكتابة السوداوية التى عرفت بالكافكاوية.


أما فى الأدب العربى، فتعود الظاهرة إلى العصر الجاهلى، فأمير شعراء العصر الجاهلى، أمرؤ القيس بن حجر الكندى، مات فى حدود الأربعين من عمره، والذى اختُلف فى سبب موته بين من يقول إنه مات بالجدرى، أو قتل نتيجة لأوامر قيصر بيزنطة، على كل حال لم يحل قصر عمر الشاعر الجاهلى عن أن يكون "أشعر الناس"، وأهم من جدد فى الشعر العربى قبل الإسلام، وصاحب إحدى المعلقات الشعرية الكبرى للعرب، والتى قيل إنها علقت على أستار الكعبة المشرفة.


نفس المصير تعرض له الشاعر الجاهلى طرفة بن العبد، الذى يعد قرينا لأمرئ القيس، وبعض النقاد اعتبروا معلقته الشهيرة أهم معلقة للشعر العربى قبل الإسلام، لكن رغم تفجر موهبة طرفة التى سار بذكرها الركبان، إلا أن علاقة الصداقة التى جمعته بملك الحيرة عمرو بن هند، كان فيها حتفه، إذ أمر ملك الحيرة أتباعه فى البحرين بقتل الشاعر الشاب دون الثلاثين من عمره، تاركا خلفه واحدة من أروع أبيات الشعر العربى التى تدل على موهبة خارقة استحقت أن تعيش فى الذاكرة العربية لأربعة عشر قرنا.
وفى العصور الإسلامية، لم يمنع الموت المبكر شخصية بحجم ابن المقفع، فى أن يترك أثره على الأدب العربى كله، فالرجل الذى قتل وهو فى 36 من عمره، على يد والى البصرة فى زمن الخليفة العباسى أبى جعفر المنصور، وقيل الكثير حول أسباب قتله، لكن ما يستوقفنا هنا هو تأثيره الضخم فى الأدب العربى، فقد ألف "رسالة الصحابة" التى تعد نموذجا رفيعا فى الأدب العربى، وهى تقوم على النصح السياسى للخليفة العباسى، فضلا عن كتابيه "الأدب الصغير" و"الأدب الكبير"، أما أشهر أعماله فهو ترجمة كتاب "كليلة ودمنة" إلى العربية عن الفارسية القديمة، ولم يكن نقل ابن المقفع للكتاب ترجمة حرفية بل تصرف فى النص الأصلى لكى يناسب اللسان العربى، وتقوم حبكة الكتاب العبقرى على استخدام الحكيم الهندى بيدبا لقصص الحيوانات والطيور ليقدم النصح للملك دبشليم، وقد أبدع ابن المقفع فى صياغة الكتاب فعد على الدوام تحفة عربية وجوهرة من روائع الأدب الإنسانى.
"أراك عصى الدمع" قصيدة شدت بها أم كلثوم، وخلدتها، ومعها خلدت ذكرى الشاعر العربى القديم أبى فراس الحمدانى، فالشاعر الذى نافس المتنبى فى حومة النظم، مات شابا وعمره 37 سنة فقط، وذلك فى إحدى المعارك مع أبناء عمه فى صراع على الحكم، والغريب أن شاعرنا كان يشعر برحيله المبكر، فأوصى أن تكتب عدة أبيات على قبره، تتضمن التصريح بأنه سيموت شابا، إذ يقول: 
أبنيتى صبرًا جميلًا    للجليل من المصاب
نوحى على بحسرة    من خلف سترك والحجاب
قولى إذا ناديتنى    وعييت عن رد الجواب
زين الشباب أبو فراس     لم يُمتع بالشباب
ومن أشهر الشعراء الذين ماتوا فى سن الشباب، الشاعر الأندلسى ابن هانئ، الذى ارتبط ذكره بعدد من القصائد فى مديح الخليفة الفاطمى المعز لدين الله، منها قصيدته الرائية الشهيرة التى قالها بعدما تمكن جوهر الصقلبى من غزو مصر وضمها إلى الدولة الفاطمية، وعندما قرر الخليفة المعز الانتقال من إفريقية (تونس الحالية) إلى مصر ويجعلها مقر خلافته، قرر اصطحاب شاعره المفضل ابن هانئ، ليكون بوق النظام الفاطمى ضد العباسيين، لكن ابن هانئ تأخر عن سيده فى برقة، حيث قتل ولا يعرف قاتله، وهو ابن 36 سنة، ولما علم الخليفة المعز بالخبر، قال: "هذا الرجل كنا نرجو أن نفاخر به شعراء المشرق".


فى العصر الحديث استمرت ظاهرة الرحيل المبكر، فبالإضافة إلى وفاة أمل دنقل المبكرة، نجد أن الشارع التونسى أبو القاسم الشابى، رحل فى 25 من عمره، لكن رغم البقاء القصير فى دنيا البشر، إلا أن موهبته المتفجرة ضمنت له الخلود، فقلبه العليل لم يتحمل ثقل الموهبة، فرحل الشابى شابًا وهو فى مرحلة زهرة العمر فى 1934، لكنه ترك شعرا لا تزال الجماهير العربية تردده حتى الآن، والمتضمنة فى ديوانه الوحيد "أغانى الحياة"، وأشهرها بطبيعة الحال قصيدة "إرادة الحياة"، والتى عادت إلى الواجهة مع ثورات الربيع العربى انطلاقا من تونس.


لا يختلف الوضع كثيرا مع الكاتب والشاعر اللبنانى متعدد المواهب، جبران خليل جبران، الذى رحل عن عالمنا فى أبريل 1931، وهو ابن 48 سنة، والذى قضى بسبب المعاناة مع السل وتليف الكبد، وكان جبران موهبة فذة فى الأدب والشعر والرسم، وقد ترك الكثير من العلامات الأدبية السامية، فى مقدمتها يقف كتابه "النبى" الذى طبع عشرات المرات بالعديد من اللغات، فضلا عن كونه أحد مؤسسى مدرسة شعراء المهجر فى الأدب العربى الحديث، كما قدم العراق، أحد أبرز المواهب الشعرية فى القرن العشرين، فى شخص الشاعر بدر شاكر السياب، الذى يعد أحد مؤسسى الشعر الحر فى العالم العربى، على الرغم من رحيله فى ديسمبر 1964، وهو ابن 37 عاما فقط، لكن موهبته الشعرية لم تقف عند حاجز أمراض الجسد بل انطلقت فى عملية إبداعية تمخضت عن عدة دواوين رسخت مكانته كأحد أكبر شعراء القرن العشرين فى العراق والعالم العربى كله.


ووضعت حادثة سيارة حدا لحياة أحد أبرز جيل الستينيات فى مصر، وأحد أبرز كتاب القصة القصيرة، وهو يحيى الطاهر عبد الله، الذى رحل قبل أن يتم عامه الثالث والأربعين عام 1981، ما تسبب فى حالة من الصدمة والألم فى المشهد الثقافى حزنا على رحيل مبدع أصيل صاحب موهبة فريدة، فمنذ أول قصة كتبها مع مطلع ستينيات القرن الماضى، استطاع الطاهر عبد الله، أن يحجز مكانه كأحد مبدعى القصة القصيرة الكبار، حتى لقب بشاعر القصة القصيرة، وكان أحد من اعترف بموهبته، القاص الكبير يوسف إدريس، الذى عد وقتها عميد القصة القصيرة فى العالم العربى، وهو ما ساعد فى ترسيخ مكانة يحيى الطاهر المستحقة، ومن هنا جاءت الصدمة التى عمت الوسط الثقافى مع رحيله المبكر، لذا عبر أقرب أصدقائه عن حزنهم الشديد، وفى مقدمتهم عبد الرحمن الأبنودى وأمل دنقل، ولم يكن الأخير يعلم أنه سيلحق بصديقه المقرب بعدها بسنتين فقط.