مع فرض الغرب عقوبات ضد روسيا .. «اليوان» يهدد الدولار

بوتين وجين بينج أثناء دورة الألعاب الأولمبية الشتوية فى بكين
بوتين وجين بينج أثناء دورة الألعاب الأولمبية الشتوية فى بكين

دينا توفيق

حرب دائرة.. تهديد وتصعيد.. عزلة دولية وعقوبات اقتصادية.. عتاد عسكرى وتسليح ولكن من نوع آخر "تسليح التمويل".. ساحة جديدة للمعركة تدار فى الأسواق المالية، تحالفات قديمة تنهض ونظام جديد يتشكل تقوده الصين؛ تصبح روسيا أكثر اعتمادًا عليه وجزءًا أساسيًا منه. يعد الصراع المشتعل بين روسيا وأوكرانيا نقطة تحول اقتصادية رئيسية سيكون لها عدة عواقب؛ من بينها تسريع تحول نظام مالى عالمى ثنائى القطب؛ نظام يعتمد على الدولار والآخر على اليوان.

العقوبات الجديدة التى أعلن عنها الغرب مع الولايات المتحدة، تداعياتها أبعد من حصار وشل الاقتصاد الروسى، بدأ الحديث عن اهتزاز عرش الدولار، وظهور نظام مالى "روسي- صيني" بديل، خاصة أن الروس أدركوا خطوة العقوبات قبل بدء العمليات العسكرية..
 

ينقض التنين الأصفر على أى فرصة يمكن أن يحقق منها مكسبًا، يتغلغل فى اقتصادات الدول المفروض عليها عقوبات اقتصادية. بكين مع موسكو المحاصرة بالعقوبات والاتحاد الاقتصادى الأوراسى ودول منظمة شنغهاى قرروا التخلى عن الدولار والدفع بالعملات الوطنية، ما سيؤثر بالسلب على الدولار. مرحلة جديدة يتصدر بها "اليوان الصيني" المشهد ويعزز دوره فى المعاملات الدولية؛ وذلك ردًا على العقوبات الاقتصادية التى ألمت بالدب الروسى كفصله عن نظام سويفت «swift». فُرضت عقوبات على البنوك والشركات والأوليجاركية الروس، وكذلك على المسئولين وحلفاء بوتين الآخرين، من قبل الاتحاد الأوروبى واليابان وكندا وأستراليا والمملكة المتحدة ونيوزيلندا. سيتم منع البنك المركزى الروسى من نشر احتياطياته الدولية وسيتم إغلاق المجال الجوى الغربى فعليًا أمام الطائرات الروسية. سيتم أيضًا فرض قيود صارمة على السلع والخدمات التى يمكن للمؤسسات والشركات الروسية شراؤها من الولايات المتحدة، فى حين أن العديد من العلامات التجارية الكبرى مثل "جنرال موتورز" و"ابل" إما أغلقت مكاتبها أو أوقفت المبيعات مؤقتًا أو خرجت من السوق الروسية. ورغم أن ذلك قد يضر بالاقتصاد الروسي، إلا أنه يمكن أن يكون له أيضًا عواقب غير مقصودة ونتائج عكسية بخلاف ما مخطط لها، وفقًا لمجلة "تايم" الأمريكية، فإنه من المرجح أن تقاربا بين روسيا والصين اقتصاديًا، ما قد يشكل تهديدًا لهيمنة الدولار على النظام المالى العالمي.


فى أعقاب اتفاقية عام 2019 بين روسيا والصين اتجهتا لتسوية جميع التجارة بعملات كل منهما بدلاً من الدولار، هذا بالإضافة إلى خفض البنك المركزى الروسى والصندوق السيادى الروسى التعامل بالدولار. كما يوضح أستاذ الاقتصاد والسياسة التجارية بجامعة كورنيل والرئيس السابق لقسم الصين فى صندوق النقد الدولى "إسوار براساد". كان هناك بعض الجدل حول ما إذا كانت موسكو ستلجأ إلى العملات المشفرة للالتفاف على العقوبات. ولكن فى الوقت الحالى القيود المفروضة على روسيا ستدفعها بلا شك إلى احتضان اقتصادى أعمق مع الصين، من حيث التبعية التجارية والمالية.


تربط الصين وروسيا علاقات اقتصادية ودبلوماسية وثيقة؛ كانت روسيا ثانى أكبر مورد للنفط الخام للصين العام الماضي. كما أعلنت روسيا عن صفقة لبيع 100 مليون طن من الفحم إلى الصين وعقد بقيمة تزيد عن 20 مليار دولار؛ فقد تضاعفت واردات الصين من الفحم الروسى فى السنوات الثلاث الماضية. وقبل ساعات من العمليات العسكرية الروسية على أوكرانيا، وافقت الصين على شراء القمح الروسي. وفى غضون ذلك، أظهر الرئيس الروسى "فلاديمير بوتين" علاقة واضحة مع نظيره الصينى "شى جين بينج"، عندما التقى الزعيمان مؤخرًا على هامش دورة الألعاب الأولمبية الشتوية فى بكين. وقال الرئيس الصينى إن الدول ملتزمة بتعميق التعاون الاستراتيجى المتتالي. وقبل الغزو الروسى لأوكرانيا، كانت روسيا تتطلع إلى الشرق وتنخرط فى المزيد من الأنشطة التجارية مع الصين، وبفصل روسيا عن نظام سويفت، سيسرع ويعزز العلاقات التجارية لروسيا مع الصين، بحسب ما ذكره أستاذ الاقتصاد التطبيقى فى جامعة جونز هوبكنز "ستيف هانكي".


وقد تكون عملة الصين ونظامها الخاص بين البنوك عبر الحدود (CIPS) محل اهتمام فورى للروس. ولكن بعض المعلقين يحذرون من أن بكين يجب أن تدير العلاقات مع موسكو دون الإضرار بالعلاقات مع الدول الغربية أو تهديد وصولها إلى النظام المالى العالمي، لا سيما عندما تراقب الولايات المتحدة. وبحسب ما ورد عن مستشار وزارة الخارجية الأمريكية "ديريك شوليت" قائلًا "إذا أرادت الصين التهرب من العقوبات، أو تخفيف وطأتها فإنها ستكون عرضة للخطر". 

لا يعنى هذا أن الصين ستكسر العقوبات الأمريكية أو الأوروبية لدعم روسيا، لكنه قد يسمح بالتأكيد للبنوك والشركات الروسية بمزيد من الوصول إلى أسواقها المالية ومؤسساتها. قبل أسابيع قليلة، أعلن البلدان عن "صداقة بلا حدود"، وهى صداقة ستشمل بالتأكيد علاقات مالية أوثق مع استبعاد روسيا من الأسواق الغربية. حيث رفعت الصين حظر استيراد القمح الروسي، وكذلك صفقة غاز صينية جديدة طويلة الأجل مع شركة غازبروم؛ كل هذا يدعم هدف الصين طويل الأجل المتمثل فى بناء عالم ما بعد الدولار، حيث ستكون روسيا واحدة من العديد من الدول التابعة التى تسوى جميع المعاملات باليوان. ويأمل الصينيون فى استخدام التجارة والسياسة البترولية فى الوقت الحالى لزيادة حصة عملتهم من العملات الأجنبية العالمية. فيما ترى السفيرة البريطانية السابقة فى الصين "باربرا وودوارد"، خلال تصريحاتها مع شبكة «CNN» الإخبارية الأمريكية، أن بكين تعبر عن قلقها المتزايد بشأن خطورة الصراع وقد لا تكون قادرة على مقاومة اتخاذ موقف ما، خاصة أنها لم تدن عدوان موسكو بشكل صريح، ما أثار رد فعل عنيف، وناشد المسئولون الأوكرانيون الصين لاستخدام علاقتها الوثيقة مع روسيا لإقناع بوتين بوقف غزوه. 


ويعتبر الدولار عنصرًا أساسيًا فى النظام الدولي، ويستخدم على نطاق واسع فى المعاملات التجارية والمالية. وهو أيضًا العملة الاحتياطية السائدة، حيث تحتفظ ما يقرب من 60% من البنوك المركزية حول العالم باحتياطياتها بالدولار؛ وهذا يمنح واشنطن نفوذاً كبيراً. وعلى الرغم من أن مسئولى الخزانة فى كل من إدارتى الرئيس الأمريكى الأسبق "باراك أوباما" وخلفه "دونالد ترامب" حذروا من "تسليح التمويل" مع استخدام الولايات المتحدة لعملتها للضغط على دول أخرى؛ ما يترك العديد من الدول مضطربة. ويقول براساد إنه على المدى الطويل، سيكون من المؤكد لدى روسيا والصين وخصوم الولايات المتحدة الآخرين الحافز لمحاولة تقليل اعتمادهم على النظام المالى المرتكز على الدولار. ويضيف أن هذا يمكن أن يشمل إنشاء قنوات للمدفوعات باستخدام عملاتهم وتجنب الدولار، وأيضًا من خلال إنشاء أنظمة مراسلة دفع متوافقة بشكل متبادل يمكنها تجاوز سويفت. لن تكون هذه عملية مباشرة، نظرًا إلى أن اليوان يخضع لضوابط الصرف الأجنبي، وهناك قيود على تدفقاته من وإلى الصين. أيضًا CIPS أصغر بكثير من سويفت، حيث تشارك فقط حوالى 1300 مؤسسة مالية فى النظام الصيني، بشكل غير مباشر. ومع ذلك، يؤكد أستاذ الاقتصاد هانكى "إن التدخل السياسى الأخير فى نظام سويفت سيسرع من تطوير واستخدام «CIPS». ويضيف مع إخراج روسيا من نظام المدفوعات الدولى المعتمد على الدولار، تم تسليح النظام وتلويثه؛ وهذا التسييس والافتقار إلى الأمان فى نظام سويفت، بالإضافة إلى التقنيات الجديدة مثل دفاتر الحسابات الموزعة، سوف يقرع ناقوس الموت السريع لسويفت أكثر مما سيكون عليه الحال بخلاف ذلك. وهذا سيفسح المجال أمام المنافسين للنظام المعتمد على الدولار.


تشترك الصين وروسيا فى حدود يبلغ طولها حوالى 2700 ميل، وفى السنوات الأخيرة أصبحت الصين أكبر مصدر لواردات روسيا وأكبر وجهة لصادراتها. تشترك الحكومتان الصينية والروسية فى العديد من القيم، لا سيما الكراهية للعقوبات التى يفرضها الغرب مستخدمين حقوق الإنسان. وجاء فى الاتفاق يوم 4 فبراير الماضى أن "الجانبين يعتقدان اعتقادًا راسخًا أنه لا ينبغى استخدام الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان كأداة لممارسة الضغط على الدول الأخرى". عندما فرضت إدارة أوباما عقوبات على روسيا بعد غزوها لمنطقة القرم الأوكرانية عام 2014، ساعدت الصين روسيا على التهرب منها.

فيما أثارت العقوبات مخاوف فى وول ستريت، بحسب ما ذكرته صحيفة "ذا هيل" الأمريكية. بالنظر إلى البيئة السياسية العالمية المضطربة، من الضرورى إعطاء تحذير فى المناقشات الجارية التى تركز على تسليح التمويل العالمى القائم على الدولار، الذى سيكون له تداعيات استراتيجية واقتصادية طويلة الأجل على الولايات المتحدة. الآن ربما يدخل العالم مرحلة جديدة تتضمن منافسة جيوسياسية على النفوذ العالمى عبر مجالات متعددة. كانت الصين منفتحة بشأن رغبتها طويلة المدى فى استبدال النظام النقدى العالمى الذى كان يرتكز على الدولار بعد الحرب العالمية الثانية، والآن يمكن ذلك. إن دفع الصين لإنشاء يوان رقمى وإنشاء نظام دفع بديل هو جزء من الخطة. وستساعد مبادرة الحزام والطريق (BRI) بكين فى محاولاتها لتوسيع نطاق القبول والاستخدام الدوليين لعملتها.


من ناحية أخرى، فإن بكين جادة بشأن النظام العالمى الجديد الذى تسعى إليه. فى كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى" عام 1997، كتب مستشار الأمن القومى الأمريكى السابق "زبيجنيو بريجنسكي"، أن السيناريو الجيوسياسى الأكثر خطورة بالنسبة للغرب سيكون "تحالفًا كبيرًا بين الصين وروسيا وربما إيران"، تقوده بكين وتوحده ليس بالأيديولوجية بل بالمظالم المشتركة. وأضاف إن تجنب هذا الاحتمال، مهما كان بعيدًا، سيتطلب عرضًا للمهارة الجيوستراتيجية الأمريكية على جميع محيط أوراسيا فى وقت واحد". ونظرًا لظهور التحالف الصينى الروسي، وبالنظر إلى الصعود المستمر للصين كقوة اقتصادية وعسكرية، لا يمكن التقليل من المخاطر المستقبلية على الوضع العالمى للدولار. إن تعزيز تحالفات الولايات المتحدة مع القوى الناشئة (مثل الهند والبرازيل) وإقامة علاقات أوثق مع القارة الأفريقية سيكون أمرًا ضروريًا للغرب مع دخوله حقبة جديدة من المنافسة الجيوسياسية.