الشاعر المريض بالشعر.. عبدالمنعم رمضان:أنا «زوج خديجة».. واخترت العيش على الحافة!

الشاعر عبدالمنعم رمضان
الشاعر عبدالمنعم رمضان

مؤخرًا فقد الشاعر الكبير عبدالمنعم رمضان زوجته "خديجة"، فنحل جسمه ونزل وزنه واختل توازنه ولم يُغلق بعدُ كتاب السلوى عن زوجةٍ واسته فى مواقفه كلها، ولهذا لا يستنكف أبدًا أن يقول عن نفسه إنه "زوج خديجة"، كما وصفه أحد الروائيين؛ رأيتُ أن أسأل ذلك الشاعر المريض بالشعر، فهو شهيقه وزفيره، ضحّى من أجله بالوظيفة منذ البدايات، واستقال من هذا الرق، ولا أعرف أحدًا قبله فعلها سوى العقاد.. عن كثيرٍ من خبايا مغارات هذا الشاعر السبعينى كان هذا الحوار:

< لماذا يبدو الشاعر عبدالمنعم رمضان، صعلوكًا، تائهًا، شريدًا، نافرًا من قبيلة الشعراء؟

- هذه الصفات لا علاقة لها بالشعر، ليست معه، وليست ضده، فأنت شاعر ليس لأنك صعلوك وتائه وشريد ونافر من قبيلة الشعراء، قد أكون كما تقول، باعتبارها صفات كائن وليست صفات شاعر، كثيرون علمونا أن الشعر لا يقيم إلا فى مدينة لا، وأن مدينة نعم يسكنها غير الشعراء، تسكنها الكائنات الداجنة، وصدقنا تعاليمهم، وتأملنا ما الذى تعنيه كلمة لا، وأخذنا نردد سطورا شعرية تشبه البيان: "المجد للشيطان معبود الرياح، من قال: لا، فى وجه من قالوا: نعم، من علم الإنسان تمزيق العدم، من قال: لا، فلم يمت، وظل روحا أبدية الألم"، ثم فى مرحلة تالية، عرفنا أن الأمر أحيانا كذلك، وأحيانا ليس كذلك، الأمر- بجوهرية أكثر- أن تعرف نفسك، فنظرنا فى نفوسنا وإلى نفوسنا باعتبارها مرايانا، وآنذاك استعنا بالنص الصوفى المارق، وتسلحنا بشطحات الصوفية، وبمواقف النفري، ولم نحتفل بمخاطباته، إلى أن عثرنا على أقنوم قديم جديد، قداسة اللغة التى جعلناها بحيرتنا، ولما وقفنا على حافتها ونظرنا، رأينا وجوهنا، فألقينا بأنفسنا واستعذبنا الغرق.

معاقبة أدونيس!

< تبدو آبقًا من التأطير، ومع هذا فإنك تتحدث عن أدونيس وكأنه ذاك المعبود القديم.. فهل كان أدونيس الشاعر إله ربيعك وخصبك؟  

- أسباب النيل من أدونيس شعريا، منذ أول ظهوره، كانت غالبا محل تداول، حداثة جديدة، أيام بدأت، فى مواجهة إما متن غالب، وإما حداثة خجول تم اعتيادها عند الأغلبية؛ بالإضافة إلى الأسباب الأخرى، فأدونيس، من مكان علوى اسمه جبلة، سكان المكان علويون منبوذون من الأغلبية السنية، ومنبوذون أيضا من طوائف الشيعة، وإياك أن تنسى أن أدونيس انتسب فترة من حياته إلى الحزب القومى السوري، حزب أنطون سعادة، الذى فى آخرته أعدم، تحت نظر وسمع أغلبية قومية عربية، بعضها هلل لإعدامه، كل هذه الأوراق المختلطة جعلت أدونيس خارج خطوط تماس الأغلبيات السائدة، حتى إن الخوف من حداثته، ظل خوفا يحمل فى أحشائه كل هذه الأسباب، ولو راجعنا صفحات الرفض المختلفة، سنجدها شملت معه شعراء آخرين ذوى هويات أخرى لأسباب مماثلة: أنسى الحاج، ويوسف الخال، وشوقى أبو شقرا، إلى آخر هؤلاء. أدونيس وعلى الرغم من تحولاته المتتالية والأكثر جذرية، مازالت الأغلبيات الثقافية الحاكمة تعاقبه، وحتى الآن وبعد أكثر من نصف قرن، مازالت تغسل فمها إذا نطقت باسمه، مازالت تهزأ وتسميه المعبود القديم، وإله الربيع والخصب!

زمن الرواية!

< خالفت رؤية د. جابر عصفور فى "زمن الرواية"، لكن الواقع القرائى للرواية يبدو مخالفًا لك.. كيف ترى ذلك؟

- عندما اطلعت على تاريخ جائزة نوبل التى بدأت فعالياتها سنة ١٩٠١، اكتشفت أنها طوال القرن الماضى والعقدين التاليين تحتفل بالروائيين أكثر من احتفالها بالشعر والمسرح وسواهما، ولم تكن اللافتة المرفوعة على جبين كل تلك السنوات، لافتة "زمن الرواية"؛ ومع ذلك فإن عبارة "زمن الرواية" التى أطلقها جابر عصفور، كما تقول، أطلقها داخل ثقافتنا، كانت أشبه بصدى ورجع صوت ومعارضة لعنوان كتاب قرأه جابر بإمعان، وشاء أن يعارض العنوان، قرأ جابر "زمن الشعر" لأدونيس وناصره لفترة، لكنه لم يستطع معه صبرا، فانقلب عليه، وعاكسه بعنوان صحيح من حيث الكثرة فقط، الكثرة الخادعة، عموما لا أمتلك جرأة مقارنة الفنون والآداب على أساس من رواجها، فرواج الفنون الخالصة مثل الموسيقى الخام والرسم وكذا فن الشعر، لا يمكن أن يعادل رواج الأغنية والرواية، اللغة فى الشعر، صوته ومعناه، هى أصل العائلة.. واللغة فى أغلب الروايات محض وسيط لا يتقنه أغلب الروائيين، نعم نحن فى زمن الرواية، من حيث الكثرة، دون أن يترتب على ذلك تقديم الرواية كنوع على سواها، خاصة الشعر؛ الروايات، وبالتحديد الرائجة، تكون غالبا محض مرايا لزمانها، لكن طموح الشعر يتأسس على اختراق الأزمنة، لذا فإن ميلاد شاعر يعنى ضرورة امتلاك أشياء كثيرة، وعلى الرغم من ذلك الكم الهائل من الروايات، فإن ما أتلفه الزمن سيجعل الباقى منها قليلا جدا، بما لا يزيد على الباقى من الشعر.

زوج خديجة!

< هل كانت دفقتك الشعرية عن زوجتك (الملاكة) الراحلة كافية لإغلاق كتاب السلوى؟ وما سر فخرك الدائم بأنك "زوج خديجة"؟

-"زوج خديجة"، الروائى الجنوبي: (الجنوبي، محض صفة مكانية لشخص لا يدل على الجنوب الذى منه طه حسين وبهاء طاهر)، الذى وصفنى بهذا التعبير قصد الهجاء، فلم يدل به إلا على موقفه البائس من الرجل والمرأة، حيث أحدهما يتفوق على الآخر بما ينفقه، هكذا يرى، وأجبر ذلك الروائى نفسه، وأراد أن يجبرنا معه على التمسك بتولية الرجل سيدًا، وتولية المرأة محض تابع، فأهان نبيا ومناضلين سياسيين قضوا الشطر الأكبر من أعمارهم فى السجون، وقضوا بقية أعمارهم مطاردين ومطرودين من كل عمل، وأهان نساء تجاوزن ذلك التفريق الجنسى (رجل/امرأة)، وقمن بواجبات جعلت كل واحدة منهن خديجة، نعم، نعم، "زوج خديجة"، عبارة يجب ألا نسمح لها بأن تكون هجاءً، وأن نفككها لنحارب ذلك البؤس الذكورى الذى يصر على استمرار جعل المرأة محمية من محميات الرجل، وجعل كرامة الرجل مشروطة بكامل سيادته على من يعولها.

على الحافة

< بعد كل هذه التجارب الشعرية التى خضتها، ألا تزال تعيش فوق الحافة غريبًا عن العائلة تسائل الماضي؟

- طوال شبابى وأنا أعيش على الحافة باختياري، حتى إننى أحببتُ "شكرى عياد" بسبب سيرته "العيش على الحافة"، وها أنذا فى شيخوختى حيث ضاقت الحافة، ومع ذلك ظللت فيها، أعرف أنه اختياري، وأعرف أننى مرغم، أذكر أننى فى شبابى تركت العمل، وفى رجولتى قابلت امرأتى التى أحبت غربتى وأحببتُ خلوها من غبار الانتساب إلى جماعة كبيرة، أحببتُ سريرتها، فجعلتها مركز حافتي، وكنتُ أوهم نفسى أننى محيطها، وقبلها ومعها عزفت عن أن أكون عضوا فى تنظيم أو حزب، باستثناء جماعة واحدة هى فى ذاتها كانت جزءًا من الحافة، وأسميناها "جماعة أصوات" حرصًا منا على التعدد وخوفًا من الوحدة، فيما بعد سأرفض السفر بعيدًا عن المكان الذى ولدت فيه، حتى لو كان لطلب الرزق.

 وأضاف، اقترنت بالشعر قرانًا كنسيًّا على الرغم من أننى كنت أراهم كل يوم وهم يبعدونه عن الطريق الرئيسي، فابتعدتُ معه، ليس لأننى سوبرمان، ولكن لأننى غارق فى شعري، حد أننى أصبحتُ محظوظا به بعض الشيء، لأن الحافة التى اخترتها لم تفضحني، صحيح أننى فقدت حبيبتي، لكنها شديدة الحضور بأعمالها التى أصر على القيام بها، شديدة الحضور بفرادتها، وصحيح أن الشعر ذاته قد أصبح عزيزًا جدا، يأتى فى أوقات متباعدة، أو لا يأتي، وصحيح أيضا أن الزمان اختلف، والمكان اختلف، لكننى لا أبحث ولا أعرف مأوى آخر غير حافتي، ذات يوم تعلقت بالثورة الدائمة، فاكتفيت بتسريبها إلى قلب شعري، اكتفيت بقراءة بعض نصوصها، كنصوص مقدسة، ومع ذلك فوجئت بأننى ذات يوم رأيت قلبى يجبرنى على تجريب الأمل، فتصورت نفسى شابا، وتركت الحافة الخاصة، وذهبت إلى الحافة العامة فى الميدان، لكن خروجى وفرحتى فى الختام انهزما، فعدتُ إلى حافتي، اكتشفتُ أننى أصبحتُ شيخًا يقيم قرب حافة هادئة وخالية إلا من ضرورة إجبار نفسى على الرضا.

< فى كثير من نصوصك لماذا يبدو جليا غياب التسلسل المنطقى مقابل الغربة البادية والقلق الممض؟

- هذا رأى نقدى قد يحسن ألا يستطيع الشاعر الإجابة عنه، وقد لا يرغب، وقد لا يعرف الإجابة، وقد لا يحب ألا يعمل محاميًا لقصائده، فالقصائد الجيدة لا تقتصر على تأويل واحد، القصائد الجيدة، كما تعلم، تتعدد تأويلاتها، باختلاف القارئ، واختلاف أزمنة القراءة وأمكنتها، وتملك النأى بنفسها عن ذلك السؤال، أما إذا كان سؤالك ينطبق من وجهة نظرك على الكثير من قصائدي، فإنها إذن إحدى سماتى التى تجبرنى أن أسألك، هل يلزم القصائد العظيمة، أو حتى الجيدة، أن تنبنى على التسلسل المنطقي، أليس من المخاطرة، إن لم يكن من المعاداة للشعر، أن نتصور ذلك؟ حاول يا صديقى أن تتخيل منطق الشعر وكأن منطق الطير كامنٌ فيه.

علاقة ملتبسة

< تحمل قصائدك مناوشات عديدة مع التراث اللغوي: "كيف تكون نساء جمع امرأة"؟

- لا أعرف متى يصبح التراث بالنسبة لى فضاء أطير وأحلق فى أنحائه، وأخرج منه وعليه، ومتى يصبح سلطة أخضع لها طواعية أو رغمًا عني، هكذا كانت وظلت وستستمر علاقتى بالتراث ملتبسة دائمًا، سواء أكان شعريا أم لغويا أم دينيا، ففى الوقت الذى أظننى فيه داخل التراث، أظننى فى مغارته، أكتشف أننى أخرج عليه، والعكس صحيح، يحدث كثيرًا أن أخرج عليه عامدًا، فأكتشف أننى بين جدرانه، أما كيف تكون نساء جمع امرأة، وهو سؤال استطلاع لإجابة دائمة تقوم على مديح فرادة المرأة، كل امرأة، لأن الجمع ليس إلا للأشباه فقط، لم أكن أسائل النحو، كنت أسائل الوجود مستلهمًا النحو، كيف تكون نساء جمع امرأة.

< قصائدك تحمل جينات القصة والقصة تتشابك مع السيرة.. هل غابت الحدود بين الأنواع أم تعمدت تغييبها؟

- سأقولها ثلاثا: أقرأ الرواية لأكتب الشعر، أقرأ الرواية لأكتب الشعر، أقرأ الرواية لأكتب الشعر.

علاقتى بحجازى

< ما النقطة الفاصلة التى أدرت عندها وجهك عن شعر عبدالمعطى حجازي؟

- علاقتى بأحمد عبدالمعطى حجازى أشبه بعلاقتى ببعض عمري، فى بدايتى أحببته وحفظت عنه ديوانه الأول "مدينة بلا قلب"، وسعيت إليه ببعض قصائدى الأولى، فقدمنى وتنبأ لي، وكتب مقالة عنوانها أسكرني: "نداء إلى شعراء المستقبل" التى جعلتنى أزهو لوقت طويل، كنت أيامها طالبا بالجامعة، بعد زمن وجيز من لقائنا الأول سافر إلى باريس، أيامها وبعد أيامها فوجئت بأننى أتغير، أكبر وأتغير، ذائقتى وثقافتى وشعرى حتى جسدى كان يتغير، كنت أسير فى اتجاهات تسودها الحيرة والتساؤلات والرفض، وفى أوائل الثمانينيات كانت علاقتى بشعره قد تعثرت بعض الشيء، لم أستطع الصبر على ديوانه "أوراس"، وترددت أمام "لم يبق إلا الاعتراف"، وتماسكت أمام "مرثية العمر الجميل" تماسك الحائر، واستعدت محبتى لشعره فى أثناء قراءتى "كائنات مملكة الليل"، واستعدت زهوى به قبل أن أتراجع مع "أشجار الأسمنت"، لكن ما أرقنى أكثر هو مقالاته التى رأيتها مقالات عابر سبيل ضيق الذمة أحيانًا، واسع الذمة أحيانًا، الغريب أنها، أى المقالات، كشفت لى أكثر عن الجزء الناتئ من قلبه، الجزء السياسى الذى تعودت أن أراه بألوان كثيرة، أقلها حضورًا اللون الأحمر لدمه، وها أنذا الآن أستعيد كراهتى لموقفه السياسى ومحبتى له، كأننى الطالب بالجامعة وكأنه الشاعر فى مكتبه بـ"روز اليوسف"، آخر مكالمة بيننا كانت منذ شهور، كان يسألنى عن اسم شاعر لبنانى سقط من ذاكرته، وبعد ذكرى لعدة أسماء خاطئة قلت له: خليل حاوي، قال: نعم، هو هو، وبفصاحة تامة أضاف: شكرًا يا عبدالمنعم.. آخر مكالمة بيننا كانت تشبه حال قلبى ساعة أول لقاء.

< هل تملك رؤية كاشفة لمستقبل الشعر العربي؟

- لا، لا، لا أملك.