محمد إبراهيم نوايا يكتب : قصتان

محمد إبراهيم  نوايا يكتب : قصتان
محمد إبراهيم نوايا يكتب : قصتان

تجاذُب
لمْ تعدْ تلتصق بالأرض؛ ثَمةَ ما يدفعكَ نحوَ الأعلى، أنتَ لمْ تَقفز فأى شىءٍ هذا الذى يَسحبك؟ تَنظرْ مِن حَولك على ارتفاعِ بِضعِ مترات، تَجد آلة الحساب وقلمك وفنجان قَهوتك؛ ترتفع معك وبسرعاتٍ متفاوتة كلٌ بحسب وزنه، يَصطدمُ رأسكَ بالسقف المُستعار الذى رَكبتهُ مؤخراً، تَتشبثُ فيه قليلاً فَيتم شدّك عِنوةً خارجَ المبنى عَبرَ النافذةِ العامودية.

وأنتَ فى الهواء تَتفاجأ أنّك لستَ وَحدك؛ فَجميعُ سُكان الحى يَصعدون كذلك، سيناريو مُخيف ليوم الحساب، كيفَ وأنتَ لم تَمتْ بَعد؟ تبدأُ بالسباحة فى الفراغ على ارتفاعٍ مُنخفض باتجاه أقربهم إليك، تَسأله: لماذا نَطير؟ ما الذى يَحدث؟ يَردّ خائفاً: أريدُ أن أرجع، تَصرخُ فيه بِغضب: لكن كيف؟ تُحدِّثْ نَفسك: ليتَنى أحمل معى أوراقى الثبوتية، تستمر فى الابتعاد رويداً رويداً.

وَتشعر بالهَلع، فالأمر يبدو حقيقياً وجاداً، تَتذكر تَحذيراً فى نَشرة الأخبار؛ من أنّ زلزالاً سيضربُ المنطقةَ بقوة 5 درجات على مقياس ريختر، لكنكَ متأكد من أنّك لم تَشعر بأى اهتزاز، تَقولُ بِصوتٍ مُنخفض، إنهم الفضائيون؛ قَدِموا فى مَركبة ضخمة، ليأخذوا عينات من البشر ويَفحصوها ويجدوا طريقة للاستيلاء على هذا الكوكب.

كما كنت تشاهد فى أفلام الخيال العلمى، تَتجه بِنظركَ نَحوَ الشمس، ما زالتْ فى كَبدِ السماء، تَشكُ للحظة؛ إنّها الامبريالية العالمية، فَجرَت قُنبلة للتّخلصِ من السكان الأصليين فى موطنك، تستبعد الفكرة سريعاً، تبحثُ عن أى إنسان طائر مِثلك؛ لكنَّ جميع مَن كانوا حولكَ تبعثروا بعيداً، يزدادُ قلقك كثيراً وأنتَ تقترب من مغادرة الغلافَ الجوى، تَنظرُ للمرّة الأخيرة فتُشاهد الجبال والأشجار والأبنية لم تُحلِق مَعك، تَلومُ نفسكَ بشدّة، وتَتمنى لو كانت لك جذور؛ ضارِبة أكثر فى الأرض.


Expire Date
صوتُ غَضبهم أخذَ يعلو ويزداد، تستطيعُ أنْ تسمعهم من مسافةٍ بعيدة، اليوم هو لحظة فارقة بالنسبةِ لهم؛ فالتهديد الذى يشعرون به جَعلهم مُقتنعين تماماً أن لا قيمة للحياة بعد الآن، اجتمعوا فى الميدان العام وسطَ القطاع الخامس وصراخهم يملأ المكان وأقدامهم جَعلت الأرضَ تهتزُ مُستجيبةً لهتافهم، فى صفوفٍ مُنتظمة كالمسطرة بدأوا الاستماع إلى زعيمهم الثورى الذى يشبههم ويُمثلهم حَقَّ تمثيل، رَفعَ يَده المعدنية فى إشارة منه إلى التحدى فرفعوا جميعهم الإشارة ذاتها، بَدأ أولى كلماته مُعاهداً الجميع على النصر والنصر فَقط، فالمعركة هى معركة وجود؛ نكون أو لا نكون، كانوا كجسمٍ واحد أو فرقة عسكرية بانضباطهم، مُجرد مراقبتك لهم تَجعلك تَحِنُّ إلى الثورات الشعبية حين كانت الجماهير تصنع التاريخ وَتخط مَصيرها ومُستقبلها بإرادتها دون خوف، لمْ يكترثوا بقوات التدخل السريع المخصصة لمكافحة احتجاجات مشابهة، ظلّوا واقفين كالمسامير مُرددين هتافاتٍ واحدة، وقائدهم لم يَكنْ بحاجة مكبرات الصوت لإلقاء كلمته التى أسكتت الحشود لتنصت إليه جيداً، بِنبرةٍ جادة لا تَنتظر التصفيق صرخَ عالياً:
- لسنا خُردوات، ولنْ نسمحَ لأى أحد بأن يلقينا جابناً.
صَمت ثم أكمل بعد توقف الهدير العالى الذى أحدثته الحُشود:
- جميعنا مَصنوعونَ من صفائح الحديد والبراغى، أبانا واحد وأمّنا كذلك، الأرض مُلكُ الجميع، والموديلات الحديثة ليست أحق منّا بالحياة.
- إن لَمْ نُؤمن بالنصر وَنستعد للتضحية من أجل أبناء جنسنا؛ سَنهزم ونُلقى خارج التاريخ.


استغلَّ الرجالُ الأكثر تطوراً من الإصدارات الجديدة انشغالَ الحاضرين أثناء إلقائه لكلمته، وأخذوا بالتجمع حتى أصبحت أعدادهم فى لحظات تفوقُ أعداد المتظاهرين، بدأوا الانقضاض على الأطراف والهوامش وَقضمْ الجزء تلوَ الآخر حتى اقتربوا من مِنَصة التظاهر الرئيسية، صعدوا سريعاً محاولينَ إسكاتَ قائد التمرد الذى قاومهم بِضراوة دون جدوى، حَملوه وساروا به إلى عربة مصفحة أشبه بزنزانة مُتنقِلة، نَظرَ لآخر مرّة إلى رجالهِ الذين تبعثروا وتفرقوا بين العربات المتطورة، ناداهم بأعلى صوته قبل أن يُزج به إلى المعتقل: سنصمد، لا خيارَ لنا سوى المقاومة، لَن نقبلَ أنْ يَحِلَّ بِنا؛ ما حَلّ بالبشر.

اقرأ ايضا | لمْ تعدْ تلتصق بالأرض؛ ثَمةَ ما يدفعكَ نحوَ الأعلى، أنتَ لمْ تَقفز فأى شىءٍ هذا الذى يَسحبك؟ تَنظرْ مِن حَولك على ارتفاعِ بِضعِ مترات