100 عام علي «عوليس»

100 عام علي «عوليس»
100 عام علي «عوليس»

 تعتبر عوليس أهم روايات الأدب الأيرلندى الحديث، كما أنها صارت ملمحًا لهوية أيرلندا الثقافية عالميًا، حتى أنه يوجد فى دبلن مسار عوليس، إذ يمكن للمعجبين بالرواية تتبع خطوات بطلها «بلوم» فى جميع أنحاء المدينة، رغم ما تتمتع به من سمعة مخيفة فيما يتعلق بصعوبة قراءتها. لقد جعل جويس من عوليس رواية تحتفى بحياة رجل عادى، يهودى ومسالم، لكن لا يستطيع قراءتها سوى القليل من الأشخاص العاديين، حسب قول الناقد البريطانى جون كارى.


 من بين أمور أخرى، تسمية عوليس مستندة إلى أوديسة هوميروس. فَضَّل جويس الاسم اللاتينى لأوديسيوس، بعد إعجابه بالشخصية منذ أن قرأ كتاب تشارلز لامب «مغامرات عوليس» فى طفولته.
 بلوم بطل عوليس هو أوديسيوس المعاصر الذى يُبحرُ فى دبلن بدلاً من البحر الأبيض المتوسط. ستيفن نسخة من تلماخيوس، ابن أوديسيوس، بينما مولى هى زوجة أوديسيوس، بينيلوب الوفية. يضم كل فصل من عوليس لمحة تشابه مع فصول الأوديسة.


 تتبع الفصول الثلاثة الأولى ستيفن ديدالوس، الأنا الخيالية البديلة لجويس، الذى ظهر فى روايته «صورة الفنان فى شبابه» (1916). لكن معظم الفصول الثمانية عشر تضع القارئ داخل رأس ليوبولد بلوم، بائع الإعلانات.


 يتتبع السرد أحداث يوم واحد فى دبلن، الخميس 16 يونيو 1904 (تاريخياً، ذكرى الموعد الأول لجويس مع نورا بارناكل، زوجته المستقبلية). يأكل بلوم وجبة الإفطار، ويذهب إلى جنازة، ويتجول فى أنحاء المدينة، وينظر إلى النساء ويتردد على العديد من الحانات، بينما يفكر مليًا فى علاقة زوجته مولى ببلازيس بويلان. فى نهاية المساء، ينقذ بلوم ستيفن من عِراك سكارى مع جندى إنجليزى، ثم يدعوه لشرب كوب من الكاكاو. أحداث يومية تتكرر فى حياة أى شخص عادى، فلماذا يخشاها القُراء العاديون؟


 صرَّحَ جيمس جويس ذات مرة لجاك بينويست-ميتشين، مترجم النسخة الفرنسية من عوليس، قائلًا: «لقد ملأتها بالألغاز والأحجيات، ما سيشغل أساتذة الأدب لقرون بالجدل حول ما قصدته حقًا، وهذه هى الطريقة الوحيدة لضمان الخلود».


 ها قد انقضى القرن الأول من تلك القرون. نُشرت عوليس منذ 100 عام (الثانى من فبراير عام 1922)، يوم عيد ميلاد مؤلفها الأربعون. وما زال جدال الأساتذة مستمرًا لتحليل تلك الألغاز والأحجيات. وكما تنبأ جويس، يبدو أنه ضمن خلوده، فمن المؤكد أن الباحثين والأكاديميين سيواصلون دراسة ومناقشة عوليس لما لا يقل عن مئة عامٍ أخرى. لكن هل ستظل عوليس تجذب قراءً جددًا، ممن لا يملكون دافعًا أو رغبة سوى الاستمتاع بتجربة قراءة كتاب؟


 «من يقرأها؟» طرح مارتن أميس هذا السؤال بجدية فى الثمانينيات. «من يتورط مع عوليس؟ إنها تُدرَس بدقة، تُحَلَل رموزها، ويتم تفكيكها. لكن من يقرأها حقًا؟». رغم الاتفاق على رائعة جويس، كإنجاز أدبى عظيم، إلا أن «قراءتها عسيرة حقًا، بطريقة القارئ العادى، من البداية إلى النهاية.، برأى أميس.


 عوليس عمل عبقرى. لكن يبدو أن عبقريتها ذاتها ما يخيف القراء: عوليس المخيفة، الهائلة، الرهيبة دومًا.
 ربما تساهم ظروف نشرها فى الصد عن قراءتها. ذا ليتل ريفيو، المجلة الأدبية التى نُشرت فيها الرواية لأول مرة فى سلسلة متتابعة، واجهت اتهامات بالفُحش بسبب محتواها نتيجة للشكاوى التى قدمتها جمعية نيويورك لمكافحة الرذيلة.

رُفضَت مخطوطة الرواية كاملة فيما بعد من قِبَل بيليكان برِس، أول ناشر عُرِضَت عليه؛ ثم رفضتها أوفيد برِس، متعللة بأن تكلفة نشرها ستكون باهظة. فى ظل ضائقة مالية ويأس متزايد، لاحتمال أن الكتاب الذى أمضى العقد السابق من حياته فى كتابته غير قابل للنشر، قَبِلَ جويس عرضًا من سيلفيا بيتش، صاحبة المكتبة الباريسية شكسبير آند كومبانى، لطباعة كتابه بشكلٍ حصرى، طبعة «فاخرة» من 1000 نسخة، تباع مقابل 350 فرنكًا للقطعة الواحدة (ما يعادل حوالى 234 دولارًا اليوم).


 ارتفاع سعر الكتاب، بالإضافة إلى قِلة عدد النسخ المتاحة، ساهم فى قصرِه على القراء من النخبة الثقافية الفرنسية. كان لهذا تأثيرًا مباشرًا فى ترسيخ انطباع عامة القراء عن عوليس على أنها رواية فاحشة، إذ لم يتمكنوا من قراءتها بأنفسهم لمعرفة سبب كل هذه الضجة. ولأن عوليس ظهرت فى الوقت الذى صار فيه الأدب الإنجليزى مجالًا شائعًا للدراسة الأكاديمية، فقد ترسخت سمعتها باعتبارها مثالًا رئيسيًا ومتجددًا فى دراسة أعمال الحداثة رفيعة المستوى، «قداسة ولعنة عجيبتين»، كما ذكر ديكلان كيبارد فى كتابه «عوليس ونحن: فن الحياة اليومية فى رائعة جويس».


 برأى كيبِرد، ناقَضَ ذلك نوايا جويس الحقيقية، إذ كان أكبر طموحه للرواية أن تحظى بقراءة واحتفاء على أوسع نطاق ممكن. إن عوليس فى جوهرها رواية عن الأشخاص العاديين، عن يوم واحد فى حياة اثنين من مواطنى دبلن العاديين، وكان جوهر الأشياء العادية التى رصدتها الرواية بدقة رائعة، هو المتعة التى يمكن أن يحصل عليها كل قارئ، حسب آمال جويس.


 كتب كيبِرد؟: «الرواية التى تحتفى بالرجل والمرأة العادييَن، آلت إلى مصيرٍ مُحزن بعدم قراءتهما له أبدًا.». هل الكتاب يستعصى على الفهم؟ ملىء بالإحالات الغامضة؟ مُلتبس بشكلٍ متعمَد؟ ربما، ولكن كان طموح جويس أن يجد القراء تعقيد الرواية بَنَّاءً ولا يبغضونه. توصل كيبِرد إلى أن الرواية «تطمح لإنتاج قراء قادرين على قراءتها.».


 واحدة من أشهر الحكايات المرتبطة بعوليس، والتى حدثت فى يوم إطلاقها، حين أراد جويس الاحتفال بوصول الكتاب فدعا بيتش للخروج. وبينما كانا يغادران مسكنه، أشار جويس إلى ابن البواب الصغير، الذى كان يسلى نفسه على الدرج الأمامى للمبنى، قائلًا: «سيصير هذا الصبى قارئًا لعوليس ذات يوم».


 فى كتابه «تأسيس الحداثة»، يصف لورنس رينى جويس بأنه «ساذج بشكل مضحك» لقول ذلك. لكن إذا كانت هذه الذكرى المئوية مناسبة لإحياء أى شىء، فيجب أن يكون الأمل فى أن جويس كان مُحِقًا على أى حال. إذ بداخل كل واحدٍ منا قارئ لعوليس، يمكنه قراءتها بطريقة القارئ العادي؛ يمكنه التورط فى عوليس. وبذلك ندفع خلود جويس إلى الأمام، لقرون القادمة.

اقرأ ايضا |  تعتبر عوليس أهم روايات الأدب الأيرلندى الحديث، كما أنها صارت ملمحًا لهوية أيرلندا الثقافية عالميًا