الدكتور ‬محمد ‬أبوالفضل ‬بدران يكتب : حمدى ‬منصور‭.. ‬ ما ‬على ‬العاشقْ ‬مَلامْ

د‭. ‬محمد ‬أبوالفضل ‬بدران يكتب : حمدى ‬منصور‭.. ‬  ما ‬على ‬العاشقْ ‬مَلامْ
د‭. ‬محمد ‬أبوالفضل ‬بدران يكتب : حمدى ‬منصور‭.. ‬ ما ‬على ‬العاشقْ ‬مَلامْ

ودعنا ‬فى ‬نهاية ‬الشهر ‬الماضى ‬الشاعر ‬حمدى ‬منصور ‬الذى ‬كان ‬قصيدة ‬تمشى ‬على ‬الأرض، ‬آثر ‬الرحيل ‬لينتهى ‬زمن ‬جميل ‬عندما ‬التقيتُه ‬قبل ‬سنين ‬طويلة ‬مع ‬الصديق ‬الأديب ‬الراحل ‬محمد ‬نصر ‬يس ‬قائلا‭:‬ هذا ‬أشعرهم ‬، ‬وهو ‬من ‬بيت ‬شاعرى ‬فأخوه ‬الشاعر ‬عبدالرحيم ‬منصور، ‬واستمعت ‬له ‬عندما ‬كنتُ ‬طالبا ‬ودعوته ‬مع ‬لفيف ‬من ‬الشعراء ‬فى ‬أمسية ‬شعرية ‬فى ‬حفل ‬تنصيب ‬اتحاد ‬طلاب ‬كلية ‬الآداب ‬بعد ‬انتخابى ‬رئيسا ‬لاتحاد ‬طلاب ‬كلية ‬الآداب، ‬وربما ‬كان ‬تنصيب ‬الاتحاد ‬للمرة ‬الأولى ‬فى ‬تاريخ ‬الجامعات ‬من ‬خلال ‬أمسية ‬شعرية، ‬وإذا ‬كان ‬‮ «‬الشعر ‬إخراج ‬القول ‬غير ‬مخرج ‬العادة‮»‬ ‬كما ‬عرّفه ‬ابن ‬رشد‬؛ فهو ‬الفن ‬الذى ‬حوّل ‬الكلمات ‬العاديّة ‬إلى ‬أدبية ‬النص ‬المتمثل ‬فى ‬الشاعرية، ‬وربما ‬كان ‬تعريف ‬ابن ‬رشد ‬أصدق ‬مدخل ‬للحديث ‬عن ‬شعر ‬الشاعر ‬حمدى ‬منصور ‬الذى ‬‮ ‬عندما ‬نسمعه ‬أو ‬نتصفح ‬ديوانه ‬المدهش ‬‮ «‬ما ‬على ‬العاشق ‬ملام‮»‬ ‬نفاجأ ‬أن ‬الشاعرية ‬لديه ‬سرٌّ ‬من ‬أسرار اللغة ‬تخوّل ‬له ‬تحويل ‬ألفاظها ‬المستعملة ‬بيننا ‬إلى ‬نص ‬شعرى ‬مبهر‬؛ ‬بيد ‬أنه ‬يخدعنا ‬حين ‬نظن ‬أن ‬كلامه ‬يخرج ‬مخرج ‬العادة ...... ‬فكيف ‬نتأمل ‬صورة ‬شعرية ‬يقول ‬فيها‭:‬
«ومين ‬انت ‬يا ‬شِبه ‬محنيهْ‭/ ‬أنا ‬بِعت ‬عقدى /‬وعقدى ‬طوله ‬بلادْ‭/‬كسيت ‬بجلدى ‬الولاد»

‬‮ ‬ ‮‬رحيل شاعر
إنه يكسو بجلده الأولاد؛ هذه المغايرة فى تحويل اللفظ إلى دلالة أخرى تختزل الجُمل والتراكيب‭ ،‬إنه يخيط جلده كسوة للأولاد فى صورة تبدو صادمة لكنها معبرة عن المجتمع وحالة الشاعر‭.‬قيمة الصورة الشعرية تتمثل فيما تؤثّره فى المتلقى، حيث تنقل الكلام عبر الانزياح الدلالى إلى ما قصده الشاعر من تأثير؛ ومن ثم فالصورة أخذ المتلقى إلى فضاء مغاير يشكّله الشاعر ويتخيله المتلقى مشاركا إبداع الشاعر فى قصيدته، لأن الشاعر لن يستطيع التحكّم فى خيال المتلقى حيال صوره الشعرية‭.‬


فى مفردات حمدى منصور نلمح الناس والبيئة، ومكونات البيئة هنا ليست خلفية القصيدة بل هى أجزاء أساسية فى النص؛ لأنه لا يرى الأشياء من برج عاجى بل يتعايش معها، يحس بها فتغدو البيئة إنسانا فى القصيدة يرى ويتكلم ويحس؛ فحَمَام البِنّيّة والقُلّة والزَّقايب وصوت الحبوب والسواقى والرحايا - ‬التى يراها عجلة الحياة التى تدوسنا‭- ‬‮ ‬وريح البحر والطرحة والعتمة والديك واللقمة والجان والغيطان وستاير خيوط الشمس والرمال والحصى وطير البرارى وبيت من طين والفروجة صدر العريان؛ كل ذلك مفردات تتحرك فى فضاء القصيدة لديه تشكّل أعمدتها ولا نستطيع تفكيك القصيدة دون فهم هذه المفردات ووضعها فى الفسيفساء الشعرية التى ينظم عقدها الإيقاع وتنسجها الصور الشعرية البِكر‭.‬


‬‮ ‬‭‬‮ ‬شعر الأغانى
فى قصائده تبدو الغنائية الحزينة ذات حضور طاغ فى القصيدةالتى تعتمد على المقاطع القصيرة والإيقاع السريع والتقفية المردوفة بما تضفيه حروف المد من آهات مكلوم، وليل حمدى منصور مختلف فهو جدار؛ وأما قلبه مرعوش الأمان فمايزال ‮ ‬يحلم بالدفء والخبز والمسكن، ‭‬لكن الشاعر مايزال متمسكا بالحلم‭.‬


من الواضح أن الغناء فى شعره لبنة الأساس التى يأتى الإيقاع منبئا عنها؛ ويعتمد على التقفية المتغيرة فى القصيدة الواحدة، فنرى القافية خيط القصيدة التى ينتظم المعنى بسرها‭.‬


‬ ‮‬أمشير زوابع وجان
لدى الشاعر حمدى منصور يقين بالثورة، ويتخذ من الفجر رمزا لها، يتغنى بالفجر ويراه قريبا «أنا بعشقك يا فجر،‮»‬ يا فجر ياللى جاى/‬جاى من عذاب الفقرا / ‬و‭‬من أنين الناى/ ‬و‭‬من أزيز الرياح‭/‬ و‭‬من الغنا و‭‬النواح /‬أنا بعشقك فى البدور‭/‬ عيون بتعشق نور‭/‬عيون اهى بتدور‭/‬فى كل عين سكين‭/‬ ‬وفى كل عين وردة / ‬وفى كل عين مشوار /‬ وفى كل عين سكة‭/‬ وللشموس مدار‭/‬ و‭‬للعذاب ضحكة /‬ وبنعشقك يا فجر يا للى جاى‮»‬


الفجر حلم الشاعر الذى ينتظره لأن «الولد» سيجىء فيه، هذا الولد الذى تنتظره الجموع آتيا على جواد الفجر المحمل بأنات الناس وعذابهم وأحلامهم وآلامهم‭.‬


وفى قصيدته الرائعة «أمشير» التى كتبها قبل أكثر من عشرين عاما نرى ذلك الشهر المحمل بالعواصف والرياح القوية والتغيرات المتوقعة، وكأن حمدى منصور يستشرف الثورة‭:‬
«سُكى الببان‭/‬عليكى الأمان‭ /‬عليا الأمان/ ‬وبرا امشير زوابع وجان /‬ ع الباب شتا /‬يهز السلوك‭/‬ يبعتر ع ‮ ‬الأرض ورق البنوك ........ ‬‮»‬


يوظف الشاعر الإيقاع السريع الذى يذكرنا بضربات القدَر فى سيمفونية بيتهوفن، ‬هذا الإيقاع المتلاحق كضربات السكين المتتابعة يهز حروف القصيدة وصورها بين يدى المتلقى الذى يأسره حمدى منصور فى صوره ومفرداته‭.‬


والخوف من المجهول يجعله يشفق على المحبوبة؛لكنه يطلب من المحبوبة أن تتجلى بالثورة‭:‬
«‬و‭‬أمشير بره يطوح فى شجر الغيطان‭/‬ يهز السلوك والورق والعيدان
تطول الضفاير‭ /‬وتصبح ستاير‭/‬ ستاير خيوط الشموس‭ /‬ف يناير والحراير‭/‬توسع عنيكى
عليا وعليكى/ ‬و‭‬راسك تطول‭/‬النجوم والعماير‭/‬ وأمشير يشيلكْ‭/‬ يحطك يشيلكْ‭/‬ يجيلك ويمشى، ويمشى يجيلكويندر بذورالخصوبة فى جيلكْ‮»‬
أمشير هنا هو الثورة التى تبناها حمدى منصور وتوقعها قبل حدوثها فى 25 يناير وفى 30 يونيو، ‬لتقتلع جذور النباتات المتعفنة لتزرع بذور الثورة فى الأجيال الجديدة؛ ويلجأ الشاعر فى قصائده إلى محاكاة الأغانى الشعبية مما ينقل المتلقى إلى روح الشعب فى رحم التلقائية الغنائية لتأخذ المتلقى إلى فضاء النص الشعبى التراثى ليستشعر أن ما يسمعه نص قد سمعه من قبل، ‬لأن التراث قاسم مشترك بينهما ،‬كأن الشاعر يعيد أغنية لعبة قديمة شعبية‭:‬
«‬ساعدينى  و‭‬اساعدكْ، واكَسِّرْ سواعدكْ ... ‬‮»‬
إنه يخاف من «أمشير «‭‬لكنه يتمنى أن يقتلع الأشرار؛ إن أمشير يقرع الأبواب قرعا، والشاعر‭:‬
«عنيا يمامهْ /‬ وقلبى حمامه /‬وصدرى نيران
و‭‬جوايا شارع وحارة وببان‮»‬
‬‮ ‬‭‬‮ ‬الشاعر والشارع
يختزل الشاعرُ الشارعَ المصرى كله قبيل ثورة 25 يناير و30 يونيو؛ فالسكينة ظاهرة على وجوه الناس لكن النيران تشتعل فى صدورهم، وهذا ما يصفه فى قصيدته ‮ «‬ع الباب شتا‮»‬
«وباطك ف باطى‭/‬ مانيش احتياطى/ ‬وعمرى ما اطاطى
وعمرى ما اخون‭/‬ وبصْدق ف قولى وشعرى وشجونى»
ربما كان هذا المقطع الشعرى السابق معبرا عن الشاعر أصدق تعبير فلم ينحن ‮ ‬قط‭‬، ولم يخن نفسه وشعبه لأنه صادق فى قوله و شعره وحزنه .‬
ويصف حاله فى مقطع قصير‭:‬
«فى الصدر خنجر دمْ / ‬وفى الوشوش العدمْ‭ / ‬وفى العيون الخوفْ/‬ وعدم الشوفْ وع الخدود دمعة دم» ‮ (‬ديوان «ما على العاشق ملام»‭(‬
شعب الشاعر هم الفقراء الذين يعيش من أجلهم ،وهم طيبون لكنهم يحلقون فى السماء فهو شاعر الناس، وإذا كان الديك مؤذنا بالفجر فالشاعر يؤذن لصباح الثورة بعد الظلام «وياجى شروقك ف ساعة الغروب‮»‬ و تنتظر مصر الفجر الذى طال غيابه‭:‬‮»‬ يا فجر يا للى جايْ‭/‬جاىْ من عذاب الفقراو من أنين الناى
ومن أزير الرياحْ / ‬و من الغنا والنواح‭....‬
وبنعشقك يا فجر ياللى جاى‮»‬
كان لدى الشاعر يقين بمجىء الفجر، ‬كم كنت أتمنى لو أن الشاعر أصدر هذا الديوان المخطوط «يا أرضى ياحبيبتى‮»‬‭‬ مطبوعا قبل ثورة 25 يناير و30 يونيو لأن إرهاصات الثورة وهبّة الجموع ‮ ‬تكاد تكون مرئية أمام عينى الشاعر الذى صار أزرق الكنانة كزرقاء اليمامة فى قومها‭.‬
‬‮ ‬‭‬‮ ‬حضور الموت
يشكّل حمدى منصور الصور الكلية التى تعتمد على انزياح الدلالات
«الليل فينا نهار /‬ قمره قصير العمر ف غنأنا
و‭‬ف رعشة الشغيلة جوه الطار‭...‬أول ما بنشوف قناديل الديار
يعلا صوتنا بالغنا حتى سنه‭ /‬يربطو لنا ع الطريق اليتامى والصغار
يعزمونا ع العشا و ع الفطار
واحنا أهوه‭ / ‬نجمه تهدينا لبلد
وديار تاخدنا ف ديار
زى المحطة والقطار
فى الصورة تبدو لوحة الرحيل، ‬فالموت ‮ ‬يطغى على قصائد حمدى منصور لكنه ليس قلقا من مجيئة بل يتعجب من قصر الحياة ‭‬‮«‬قمره قصير العمر ف غنانا‮»‬ ‮  ‬هذا الترحال التائه يعبر عن فلسفة الشاعر تجاه الوجود و العدم، ‬فهو  ‮«‬ديار تاخذنا فى ديار زى المحطة ‮ ‬والقطار»؛ والمحطة والقطار بداية الرحلة ونهايتها؛ فالتوظيف الدلالى للمحطة فى الأدب فى حاجة إلى دراسة :‬فهى مذرف الدموع للوداع، والتلويج بالأيدى ‮ ‬من الواقفين على أرصفة المحطة عندما يتحرك القطار وتنزل الدموع لأن القطار يتلاشى بعيدا غير آبه بالدمع والفراق، ‬وإذا كان القطار يحمل القادمين فإنه لا يرى القدوم سوى مؤذن بالرحيل ألم يقل الشاعر القديم‭:‬
«وما كان يبكينى اللقاء وإنما
وراء الملاقى لاحَ ظلُّ المودعِ»
المحطة ملتقى الأحبة ‮ ‬ومفرقة الأحبة أيضا‬؛إنها نقطة التلاشى بين الشيئين؛ إنها رمز الحياة والموت، ‬والشاعر مهموم بالنقطة؛ مهموم بالأشياء صغيرة العمر .‬
«قلبى من غير غطا‭/‬ من غير لحاف بردااان
ميت ومش لاقيين كفان‮»‬
اقرأ ايضا | ودعنا ‬فى ‬نهاية ‬الشهر ‬الماضى ‬الشاعر ‬حمدى ‬منصور ‬الذى ‬كان ‬قصيدة ‬تمشى ‬على ‬الأرض