البوح الإنسانى .. في وشايات عادية

البوح الإنسانى  : في وشايات عادية
البوح الإنسانى : في وشايات عادية

كتب : محمد مصطفى الخياط

ما أصعب أن يغمس الكاتب سِنَ قلمه فى مِدادِ آلامه ويشرع يكتب أسراره/أشعاره. يترك لقلمه الحبل على الغارب. لا مواربة. لا تلميح. على جسر الكلمات يعبر محطات الحياة، الصَدِئ منها واللامع، المبهر والخافت، المرتفع منها والمنخفض. السار والحزين. تشتبك فى لحظة نورانية رايات الفرح والحزن، النصر والهزيمة، فيخرج شعرًا مصهورًا فريدًا يكادُ يضئ.
هذا ما تشعر به حين تطل من بين شقوق أشعار ماهر حسن على خصوصياته فى ديوانه الأحدث والسادس «وشايات عادية» من البداية يقر أنه أول الواشين بنفسه، بمعنى آخر «خَدها من قصيرها»، وحسبه خلوها مما يُشين. فأعطى ديوانه ذات الاسم وراح يحكى، «أبطال حكايانا مازالوا أحياءً.. ماتوا.. رحلوا.. شاخوا.. مازالوا أحياءً.. فى عُلبِ الذاكرةِ المحفوظة». استدعى شخصيات عدة، أصدقاء، زملاء، أخوة وأخوات، وآخرين عبروا من خلال مواقف عديدة، أخرجها من (علب الذاكرة)، وعَرَضَها لدفء الذكريات، فإذا هى حاضرة ببهائها وطزاجتها كأنما يعيشها للمرة الأولى.

 الكتابة بعض من عذاباتنا، وخاصة ما ارتبط منها بالبوح الحُر. يسطر ماهر شعره متعمدًا تركَ نصف ابتسامة غامضة حيرى على وجوهنا، كاتمًا فى صدره آلام مخاض الكلمات، ونزيف ذاكرة متعبة أشقتها كثرة التناقضات. يصور فى قصيدته (شبحين) حالته النفسية حين تنتابه الرغبة فى الكتابة، فواران كما القهوة على النار، تمور السحب، تعصر كبد الفضاء، تئن السماء برقًا ورعدا، صراع ساحق بين أضداد، (شبحان.. انتصبا فى باب الغرفة قُدامى.. أحدهما يشرع أوجاعى.. يحمل وجهى.. والآخر.. يحمل وجه امرأة طيبةٍ..)، ليجد فى النهاية أن ما كتبه ليس إلا خليطا بين ضدين، (..فوق الأوراق انسكب ضياء الظلين.. وأنا منكبٌ فوق حروفي). تحكى أسطورة النور والظلام أنك إن أمعنت التأمل فى الظلام وجدت نورًا، وإن أمعنت فى النور اكتشفت ظلامًا. المعنى، فى المتناقضات تكمن الحكمة.


قال لى ونحن نتسامر حول ديوانه (عندما تكتب ذاتك ينسكب صدقك على الورق، وعليك أن تتأكد أنك ستجد ملايين -على ضفة الحياة- يشبهونك ويصفقون لك).

اطمأن إلى أن إنسانيته سوف تجذب أشباهه إليه، فلا يسكن فى القلوب من الشعر إلا ما ارتبط بحالة إنسانية، ثم راح يعدد على مسامعى نماذج لأشعار صلاح عبدالصبور، وأمل دنقل، وغيرهما، مؤكدًا أن سر خلود تلك الأشعار يكمن فيما تحمل من معان إنسانية سامية.


من هنا أيقن أن من يحبون شعره سوف يهتدون إليه ويقرأونه، يسكبون من نور قراءاتهم ونقدهم ما يُجلى معدن أشعاره، وكم تكون سعادته عندما يفاجئه أحد برسالة تتضمن رابطا لمقال عن أحد دواوينه. ينتشى بفرحة طفل يتلقى بكفيه الصغيرتين هدية العيد، مثله مثل أى كاتب. قمة سعادته أن تقرأ العيون حروفه، وتردد الشفاه كلماته. 


أيضًا كشف ديوانه براعته فى تقديم الأبيات المصورة. تشعر عندما تقرأ أنك تشاهد فيلمًا وثائقيًا. تنقل لك الكلمات –رغم قِلتها- مشاعر وأحاسيس وصور وألوان ومذاقات مختلفة. يقول فى قصيدته (رحيل)، (حاملاً جثتى.. واتجهت إلى آخر الروح.. والريح سجادتى.. شاخصًا فى براح الزمان الشرود..). وفى قصيدة (أمير الضياع)، يرسم قائلاً (متوجٌ أنا.. على إمارة الضياع.. لأطعن البحار بالمجداف.. أو أحفز الشراع..).


يتذكر حين سلم إحدى قصائده للأستاذ الدكتور عبدالقادر القط (1916 – 2002)، وكان وقتها رئيس تحرير مجلة إبداع، تفحص القصيدة، ثم راح يناقشه فى بحور الشعر وفنيات القصيدة، كان لقاءً صعبًا، تركه وانصرف وظن أنه لن ينشر القصيدة، ولكن القط خيب ظنه ونشرها، ليصبح ماهر من وقتها أحد رواد جلسته الثقافية على مقهى أمفتريون بمصر الجديدة عصر كل جمعة، تعرف فيها على شعراء وروائيين، قرأهم وقرؤوه.


حين تنظر إلى هندسة الديوان يلفت انتباهك أن أول قصيدة بعنوان (فى البدء)، وآخر قصيدة (طعنة سيف)، وكأنها دورة حياة من الميلاد حتى الرحيل، مع إحساس دائم بالبعد عن الغاية (لكننى رغم طول الرحيل البعيد المدى.. لم أنل بغيتي).


متيم بالحب، جعل من العاشقين فراشات تهيم بالنور (يخرج العاشقون.. إلى حتفهم.. من رماد اليواقيت.. يرتجلون مسافاتهم.. وينسربون إلى شَرَكِ الضوء...)، لكنه لا يلبث يعاتب حبيبته (افتحى كوة الذكريات.. ترين دمى شاخصًا.. فى مساء المراثى النبيلة.. ها هو قمرٌ نازفٌ...).


على خلاف دواوينه السابقة، طلب من الرسام قراءة الديوان أكثر من مرة الشروع ثم مناقشته، قبل فى رسم الغلاف، عرض عليه بعدها ثلاثة أغلفة اختار منها لوحة ينسكب فيها النور من شباك على كرسى ينتظر قدوم صاحبه فى الموعد، كعادته، ليبدأ رحلة فضفضته اليومية، بذات العفوية والتلقائية، والكرسى صامت لا يشى بشىء. 


يتوقف ماهر عند مسارات حياته، وكيف حولت الانحناءات البسيطة فى طُرق الحياة توجهاته. رغم دراسته الهندسة، ونشأته فى بيت صارم وحنون لأب يعمل مهندسًا، إلا أنه عشق الأدب، لم يكترث الأب –فى البداية- كثيرًا لميول ابنه، ظنًا منه أنها مجرد هواية لا أكثر، لكنه عندما وجده ذات يوم على شاشة التليفزيون وهو بعد فى الصف الأول الجامعى، ثم قرأ أول حوارٍ له مع الأستاذ نجيب محفوظ، أيقن أن الأمر مختلف.

كان على ماهر أن يصقل مهاراته ويشق طريقه بنفسه، وقد كان. عمل فى العديد من الصحف العربية والمصرية إلى أن استقر به المقام منذ نحو سبعة عشر عامًا فى جريدة المصرى اليوم. وأسس فيه قسمى الثقافة والتراث. غير عشرات الحوارات التى أجراها مع قامات سامقة فى سائر المجالات فى الأدب والفن والفكر والسياسة إلى جانب عمله الصحفى قدم فى رمضان الماضى سلسلة حلقات عبر يوتيوب بعنوان «حواديت المصرى اليوم»، عرض فيها لشعراء، وكُتاب، وموسيقيين، أثروا المحروسة والساحة العربية بإبداعات ما زالت تعيش معنا حتى الآن، ربما نسينا اسماءهم، لكننا أبدًا لم ننس أعمالهم. الأجمل كشفه عن أبعاد جديدة لأعمالهم غابت عن كثير منا؛ فما كتبه الراحل عبدالفتاح مصطفى، وغنته أم كلثوم (أقولك إيه عن الشوق يا حبيبي/ أقولك إيه ومين غيرك دارى بى/ ليالى فى هواك أسهر أفكر/ ومهما قلت لك فى القلب أكتر....)، لم يكن سوى شعر صوفى. بذات الأريحية استعرض فى حواديته مساحات شاسعة غابت عنا، ولم تغب عنه.


حين تعاوده عذابات الكتابة، وتلاوعه اللغة المراوغة، ويقضى ساعات فى فوران حتى تحرق الكلمات سطح الورق، يتذكر رد الأستاذ نجيب محفوظ حين سأله،(كيف تجلس يوميًا فى السابعة صباحًا وتكتب؟)، فأجاب مبتسمًا، وبلهجة عامية (استطيع ترويض المود «المزاج» !!)، لذا صار أديب نوبل. 


يقول ماهر حسن، (السيف المغمد فى قلبى.. والحزنُ المرشوقُ بعينى.. يصدأ.. يصدأ......يحمل ظلى.. ويساومنى.. كى يمنحنى.. بعضًا منى.. أو يسحب هذا السيف.. ويعطينى عقلي).

ومع هذا يأبى ماهر حسن نزع سيف الشعر من فؤاده، ليظل مثل طائر الشوك، ينتقى أطول وأسن شوكة فى شجر الغابة ويرتمى بصدره عليها، ويطلق أعذب الألحان، (هذى أول طعنةِ سيفٍ.. أظمأ فيها حتى الموت.. أشعر أنى بعد الطعنة.. أسمو، أحيا.. أشعر أنى محض خيال..)، ليتركنى -كعادته معي- على وجهى ابتسامة وعلى شفتى ألف سؤال.

اقرأ ايضا | السيرة الذاتية.. فى حضرة الغائبين