منير عتيبة يكتب: أعمال تنشر لأول مرة لمحمد حافظ رجب

منير عتيبة يكتب : أعمال تنشر لأول مرة لمحمد حافظ رجب
منير عتيبة يكتب : أعمال تنشر لأول مرة لمحمد حافظ رجب

كتب : منير عتيبة

سريعًا؛ مرّ عام على رحيل المبدع الكبير محمد حافظ رجب رائد التجديد فى القصة العربية فى يوم الجمعة 12 من فبراير2021م، رحل وقد شفاه الله من غصة مُرّة كانت تنغص أيامه بتذكره لمن حاربوه أو تجاهلوه او نفوه من الحياة وهو على قيد الحياة والإبداع، حتى زهد الدنيا وما فيها. كان يتمنى أن تُقرأ أعماله بما هى أهل له من الاهتمام والدرس، وأن تنشر كتاباته غير المنشورة، وأن توضع تجربته الإبداعية فى مكانها الصحيح من تجربة عصره. وكان يحلم بأن يحصل المبدع الحقيقى على حقه ومكانته لا يحتاج فى ذلك إلا لإبداعه، ولا يهضمه حقه أنصاف المواهب وأرباعها.. فهل تحققت أحلامه أو بعضها؟
إننا لا ننسى هذا المبدع الرائد؛ لذلك نقدم لأنفسنا قبل أن يكون له، هذا الملف الذى يضم خطابًا لم ينشر من قبل كان قد أرسله له الناقد الكبير د.صبرى حافظ عام 1968م، وهو خطاب إشكالى إذ إن أحد وجهيه من د.صبرى حافظ، ووجهه الآخر من أديب لم نتوصل إلى معرفة من يكون. إضافة إلى عمل إبداعى لم ينشر من قبل أيضًا، وكذلك المقال الافتتاحى الأول لمجلة أقلام الصحوة التى صدرت فى فبراير عام 1975م والتى كان لها آثار مهمة فى الحياة الثقافية المصرية.

وقد اعتمدنا على الأعمال الكاملة لمحمد حافظ رجب والتى نشرتها دار العين عام 2011م فى مجلدين، والببليوجرافيا المهمة التى نشرها الناقد شوقى بدر يوسف فى مجلة الثقافة الجديدة عدد 368 بتاريخ مايو2021 للتأكد من أن الخطاب والعمل الإبداعى والمقال تنشر لأول مرة.


كان محمد حافظ رجب يحلم بواقع أدبى واجتماعى مختلف، ويرى أنه ليس المظلوم الوحيد، بل كل من تم تهميشهم لأنهم يعيشون فى أقاليم مصر البعيدة عن أضواء العاصمة، لذلك أصدر مجلة (أقلام الصحوة) والتى كانت افتتاحيتها الأولى دعوة للأمل فى عصر جديد قد يكون مختلفًا، رغبة فى أن تتم محاسبة المخطئين وإعادة حقوق المسلوبين، وقد كانت هذه المجلة.

والصفحة الأسبوعية التى يحررها بمجلة السفير تحت عنوان (الصحوة)، بداية انطلاقة شرارة فكرة مؤتمر أدباء الأقاليم الذى أصبح الآن مؤتمر أدباء مصر، ووجود صفحات أدبية بالصحف الكبرى تهتم بأدباء الأقاليم.. فهل تحقق ما كان يحلم به محمد حافظ رجب

الشيخ.. الرضيع.. أبناء الدمامة لوحات معاصرة

قصة لم تنشر من قبل وضعها حافظ فى قالب اللوحات الحوارية، فهى أقرب إلى الشكل المسرحى أو الإذاعي، كما أنها مستوحاة من قصة سيدنا يوسف وإخوته، ويبدو أن العمل لم يكتمل، فهذه لوحات ثلاث فقط تغوص فى نفوس الشخصيات فى المرحلة الأولى من القصة، لتظهر ما بداخل الإخوة من حقد على أخيهم الصغير، ولوم على أبيهم الشيخ، وتفكيرهم فى طرق التخلص من الأخ بالقتل أو الإلقاء بأعماق الجُب. ونلاحظ أن محمد حافظ رجب وضع عنوانا فرعيًا شديد الدلالة (لوحات معاصرة)، فدلالته الفنية أنه يؤكد استخدام قالب فنى هو اللوحة وليس القصة القصيرة التى عرفه بها القارئ والناقد معا، وأما الدلالة الموضوعية فهى التأكيد على أن خطرات النفوس التى نقرأها فى اللوحات بقدر ما تنتمى إلى القصة التراثية القديمة بقدر ما هى مستمرة فى حياتنا المعاصرة وإن اختلفت الأزياء والتفاصيل، وربما لذلك نجد أن العنوان حيادى فيما يخص الشيخ/يعقوب، والرضيع/يوسف، فهو يصف كلا منهما بصفة موضوعية لها علاقة بعمره وقت حدوث القصة، لكنه يصف الإخوة بأنهم «أبناء الدمامة» لأن هذه الصفة هى ما جعلتهم يتصرفون على هذا النحو وليست صفة البنوة أو الإخوة.  
ومحمد حافظ رجب الذى لا يكتب مقدمات لقصصه كتب لهذه المشاهد مقدمة طويلة تحت عنوان «حصار الدمامة» يتضح منها أنه كتب مشاهده تحت الإحساس القاهر بالغضب مما شاهده على شاشات التلفاز مما جرى فى سجن جوانتانامو، فقد كان الرجل متابعا لكل ما يحدث حوله، يتأثر به كإنسان وكمبدع يسعى إلى التعبير عن جوهر القضايا وأصل البلايا. وقد ركز محمد حافظ رجب فى لوحاته تلك على ما يدور بداخل النفوس أكثر من تركيزه على وصف المشاهد والأحداث الخارجية، لأن هذا ما يشغله حقاً، واعتماداً على معرفة القارئ بتفاصيل القصة. لم يتخل الكاتب عن لغته التى ينحت بها أسلوبًا يخصه وحده، وإن كان هنا يبدو أكثر وضوحا فى استخدام اللغة، ربما لأن القالب الحوارى يتطلب ذلك القدر المعقول من الوضوح اللغوى الذى لا يجعل القارئ يتوقف لفك شفرات جملة ما، وربما لأن سخونة القضية وشدة غضب حافظ رجب جعله حريصًا على وصول المعنى مباشرة إلى عقل القارئ لعل أحداً ما يغضب معه لما جرى ويجرى.

اللوحة الأولى الشيخ.. الرضيع

الشيخ: لا تقل شيئاً قط. رضيعى لا تقل شيئاً عما رأيت. أدرك أنك رأيت. لا تنطق بما رأيت. لا تهمس به. لا تعرى لسانك لأحد منهم.. احذرهم احذر القول لهم.. لا تقصص تلك الرؤيا عليهم، لا تصف لهم تلك الشمس.. هى تضحك تهوى عليك.. لا تصف ذلك القمر، هو يغمرك، نوره يتدفق فيك الحنان، لا تقل قط إنك شاهدت تلك الكواكب وجوهها ساهرة لك، تراك تهلل لك الوجه، تتجه إليك بالضوء، يقصدك منها الضوء، لا تنطق الشيء من أى شيء لأى هؤلاء.. كل هؤلاء.. تصف مخلوقات الله تلك.. فى لحظة ابتعادها عنك بضع خطوات لتستدير نحوك، تواجهك بفيض النهر.. يتدفق فيك ماء النهر، تواجهك مخلوقات الكون تلك، المعلقة فى الأسلاك العالية.

لا تقل لأحد حكاية غرائب ما رأيت فى ليلة الحلم العجيب، إنها حكاية الغرائب المدهشة، مدهشة تلك الغرائب. اخفى خبر الرؤيا، اجعلها مختفية فى السر، لا تعلنها – من الخفاء لأحد الناس – حتى ولو كانوا هم، إخوتك إنهم يتربصون بك، دائماً لك فى الانتظار. رضيعى يا أنت الصغير، أخفيك عن حسدهم لك، تقبع فى أغوار القلب أحميك منهم فيه، اخفى سر رؤياك فى جب الصمت، يا رضيعي.. رضيع الأب، أخفى حسدك كى لا يلتصق بأجسادهم مناعة لك. لذلك لا تصارحهم به. لحم جسدى هو لحم، وجلده الغطاء لك.

اخفى الرؤيا تحت الغطاء، فى اللحم والجلد، داريه بعيداً، بعيداً فى تجاويف روحك الصغيرة المتألقة التى أنا أدرى الناس بها.. فأنا أبوك خير من يعرف ثنايا تلك الروح، اخفيه كله عنهم. أنت كل الحب لي، لا تلفظ همسة واحدة تفر من فمك بلا احتراس، لا تعرى رداء سرها تلك الرؤيا الحافلة، آذان عيون تنتظر الكلمة تنطق سرها، فيتحدون عليك، لحظتها سيتمكنون منك أعرفهم جيدا، أبوهم أنا أنجبتهم كما أنجبتك، لكنى فضلتك عليهم، لذلك يتربصون بك، فلا تعطى لهؤلاء الأوغاد سر تلك الليلة بما كنت فيها وما شاهدت وما احتواك منها من غرائب الدهشة وعجائب الرؤيا، رؤياك يا صغيرى صادقة.. صادقة. إنها نبوءة لك قادمة، لذلك احذرك.. عدوك، عدو الأب.

 

وعدو جدك، وعدو كل من مضى. إنه قابع داخل إخوتك يمتطى أعناقهم. عند أول بادرة منك سيحرك حقدهم منك، يلتهمون روحك، إخوتك الأصفياء له، مقربون هم منه، إنهم أكثر الناس قربا منه، أعرفهم وأعرفه، رؤياك علامة نار موقدة- من نار السماء- أضاءت لك رأيتها فى لحظة أراكها الله لك فلا تفشى سرها، ستتحقق تلك الرؤيا: العلامة المضيئة.. خالدة هى على مر الزمن. بعد قليل من وقت الزمن ستكون الحقيقة المشاهدة.
اللوحة الثانية الأبناء الاحدى عشر

الابن الأول: أقول لكم بلا خفاء أخفها عنكم أنتم تحت وطأة ما أعانيه، وكلنا نعانى مما نعانيه، إنه الهراء الحقيقى يغمر أبداننا وأنفسنا: أب كف عقله عن العمل، فقد قدرته على النظر إلى حقيقة الأشياء حوله، نحن الأبناء حقيقة الأشياء لهذا الرجل الذى خرف، حجب عنا الرجل المفترى حبه نحن أولاده الكبار أول من رأى من الأبناء، أول من جعلوه الأب.. يغمره به، طفله اللعين وهو عجينة لحم لم تولد بعد، لم تلمسها لمسه موقد تنضج ما فيها.

تحت شمس هذه الدنيا يخصه بحرارة العناق كله له يدثره به جيدا، يتناوله راحلا به عابرا أطوال المسافات العابرات على طول الأزمنة، من مكان لمكان، من زمان لزمان، من حدث لأحداث.

عابران دائمان من رحلات متواليات. ونحن نرى.. نفرق ألمنا فى المساقى نسقى زرعنا نحش برسيم الأرض لمواشى حقولنا، ندخل الزرائب، نبيت ما فيها لكى نخفى عن الأب مدى الحسرة فينا، لكى لا يطق غيظنا من جنوبنا، ننشغل لكى لا نتجه للصغير نفش فيه كل الكراهية المترسبة فينا على مر الساعات ونحن نجوس فى أنفسنا أثناء مشاهدتهما، أثناء اختراق ضحكات الصغير النفس وهو سعيد بحس الأب به يداعبه.

ويتلذذ الصغير بالمداعبة يقهقه من أعماقه فتتعمق فينا التعاسة لتصبح مسيطرة دافنة لكل إحساس طيب نحوه، هائم عجوزنا به، هيام الغرام الأرعن هذا الرجل بابنه التعس، يتناوله إلى خفايا جيوب الرداء يبعده عن بريق عيوننا المفترسة.


الابن الثانى: عجوز عمره الأب والسنوات عليه تلاحقه.. مازال الفارق فى ضلال وهمه، ابنه صغير، الرحم الذى آل إليه كله. لابد لنا من أن ننتشله من مأزقه، من استغراقه المذهل بداخله، صغره هذا لعيننا نلعنه.
الابن الثالث: تذكروه جيداً.. تذكروا أولا أن تكونوا الناس المخلصين لأنفسهم فى البداية والنهاية. الرجل صار إلى ما صار إليه بكد السواعد وعرقها. الأيدى تعمل له. عملنا بأيدينا هو وحده حقيقته، حقيقة ما هو فيه من نعم. كل ما عنده كدنا. لا يتذكر عجوز الهرم ذلك. لا يتذكرنا يحتوى صغيره اللعين يغمره فى احضانه. متدله إلى النخاع حتى آخر مدى، غرامه به كما يغرم الصبايا بالصبايا.

وعشاق الأشواق بالأشواق بل أكثر أكثر وهذا ما يثير اشجاننا. نحن لم نفعل ذلك أبدا مع أحد طوال اعمارنا، ولم نر أحداً يفعل مثل ذلك الذى يفعله الرجل مع ابنه صغيره عدونا.

لابد أن نعثر على الفور ما يمكننا تناوله فى أيدينا، لنخرج الصغير من إطار حياتنا: نحن والأب.. إلى الأبد.
الابن الرابع: لا مفر من الأمر.. ننتزع ومضه اللحم الصغير من ثنايا جسد الأب المكتهل، نستخرج صغير الجسد، لم يستو بعد، نستخرجه من أغواره. عجوز الهرم اختل عقله، ليكن عملنا معه.. نعمل فيه بيد واحدة. نحن الأبناء الحقيقيين، نحن له، أبناء هذا الرجل نحن كله، نحن حوله، نغطى أنحاء حياته، نحن نلتف حوله، فى لحظة إرادتنا نواجهه، لن يقدر على مواجهتنا، هى لحظة المواجهة الحقة.. هي. ننزع ضفائر شعر الوليد من ضفيرة شعره.

 


الابن الخامس: انتظرونى لحظة.. بارقة خاطر اعترتنى الآن، راودتنى فكرتها لكن أخشى نطقها، أخرجها من فمى تقف فى عيونكم. هل أنطق بها؟ أقولها؟ ها أنا ألقيها ثقيلة فيكم وليكن نتيجتها ما تكون لكن فى رغبة قولها، أن نقتله لا يكون بعدها هذا الولد، الابن الواضح وجوده بين الأحياء.. موجوداً، له حياة بيننا، ولا يكون هذا الرجل له وجود الأب للابن الذى عنده.. وبيننا.


الابن السادس: حقا يا لها من براعة رأس عبرت فيها تلك الخاطرة هى مخرجنا يا أولاد من تلك الكارثة التى نحن غرقى أحداثها. ما نطقت به كلماتك.. هى المخرج: نقتله، يصير بلا وجود كائن، لم يوجد بعد أن وجد.

بلا عناء يصبح شبحاً من الماضى كأن لم يكن. بلا عناء بلا ضجيج.. فى استغراق فى الأمر، فى هدوء كالحلم العارض يحتوينا نحن والأب الشيخ وصغيره، نأخذه بلا مشقة زاعقة، بلا مجهود خارق يخر فيه ذعرنا، ننجز ما اعترمناه من أمرنا.


الابن السابع: يا إلهنا: يا إلهى تصوروا يا أولاد لا أعرف كيف أصبح مستقرًا من الغبطة وأنا أراها حقيقة منقذة. كيف لم تأت إلى أدمغتنا تلك الفكرة الرعناء الباهرة، كيف لم تحضرها معك يا ولد يا قائل بها. إنها يا أولاد ومضة غريبة دخلت فجأة حياتنا، صارت الإشارة لكى نبدأ فيها عملنا، جيدة يا أولاد فكرتنا تلك الرائعة.


الابن الثامن: هكذا يتم الأمر، نطرحه الأرض، نطرح الأرض به، يتحول فيها ثاويًا داخلها، يمشى خلالها حتى الانتهاء لا يرجع منها ولا ترجع إليه.


الأبن التاسع: يا الله يا ولد.. يا الله يا أولاد، حقا يا صغار الأب، إنكم المجانين حقا، ولكن إنكم العقلاء المشاكسون فى نفس الوقت. نتيجتها يصير الأب أبونا هو، أبونا لنا، نكون الأبناء البررة به. يتحول عندئذ يصبح نعم الأب هو أبونا الحقيقى لنا، لا شريك لنا فيه ينازعنا ملكيتنا فيه أليس هذا ما تبغون يا أولاد من داخل نوازعكم، الصغير ينازعنا امتلاكنا له، فلنبادر ننتزع تلك الشراكة المعذبة لنا.

هو أبانا أولا.. كما هو أبوه بعدها.
الابن العاشر: لنقل كلمتنا فى مصيره.. تكون الأخيرة، لنحولها بعدها واقع فعلنا، ينتهى أمره فينا، وأمرنا فيه.
الابن الحادى عشر: فليغادر مكانه فى أرضنا.. هذه أرضنا، هى لنا، أرض أمنا من قبل، وأرض الرجل الأب الذى أنجبناها، فهى حلال لنا، من الأم ومن الأب، دفعنا ثمنها عناء الفأس وسوق الماشية، وزرع الزروع، وحمل الحصاد إلى سوق البلد فوق أكتافنا.

الثمن دفعناه مبكراً.. مبكراً. عجوز خرف ذلك الرجل الهرم يهيم به، هيامه المدهش، يعشق بكل كيانه الصغير الضال وهو مازال يرقد فى المهد صغيراً مازال لحمه نيئاً، يتركنا فى قسوة المعاناة غرباء عنه أبناء سواعد أرضه وكدحها. نحن الثراء له والغنى، غارق طوال عمره الهرم مستغرق فى غرام قطبة العظم الطرى.


الابن الأول: يجب أن نؤكد لأنفسنا.. نكون، حاضرون كلنا، فى وجود هذا الأب، نكون الحاضرين، وكما نحن الآن الطيبون معه، نكون بعدها الخلصاء له ونكون كذلك الطيبين. وهو الرجل الطيب كما تعلمون، الطيبون للرجل الطيب، أمام الله الطيبون. وأمام الناس الطيبون. مع الأب.. الطيبون، كما علمنا أن نكون الطيبون.

هل تشكون يا أولاد فى أنفسكم أنكم أنتم الطيبون حقا؟ على الدوام كنا القوم الطيبين، الصالحين، الطيبون، صالحون، الصالحون دائماً الطيبون، ولا يضيرنا ونحن الطيبون، الصالحون، أن نعد هذا الصغير وليمة للذئاب، تكون لهم خير زاد. إنه المعربد فى الأحشاء الضامرة، خاطف عواطف الرجل انتزعها منا، نحن أصحاب الحق فيها، جاعله طوال أيامه فوق الأرض.. ملكا له.


الابن الثاني: لنتريث اللحظة وراء اللحظة، لا نجعل اللحظة تغادر اللحظة إلا تريثنا فيها حسبنا خلالها، لنتعرف على الصواب أولا، نعم لنتريث لحظات. ها هى عابرة مرت بخاطرى طرأت على مخيلتى الهائمة فى مجرى ما نفكر فيه يا أولاد اللحظة، الفكرة أقبلت وحدها طارئة، مرقت أمامى أمسكت بكل أطرافها، اخترقت ستائري، لا تنهوا وجوده، لا تجعلوه نهاية كاملة، لا تزيلوا كل أثر له، فآثاره كما هى فى داخلنا. إنه فى كل الأحوال وليد الأب، من نسل أبينا جاء. نحن نحب هذا الأب. يكفى انتزاعه من الحضن القريب هو فيه، يغادر قربه من مكانه.

نوقف تواصل حضوره معه. لا يقتربان القرب الشديد الملتصق كل منها بآخره. لا يتفرقان فى بعضهما عن اقتراب شديد. كما ترون الكهل، ينغمس فى مداعباته له، يداعب أنامله ويداعبه بأنامله. حبات أنامله مسجة عواطف شجوه وحديث قلبه. يتحادثان الأحاديث كلها هى له وهى للآخر. العواطف الفياضة الغامرة كالأنهار والأبحر.. له وله، كله لصغيره وصغيره له.

ألا تسمعون كيف سرت الهمسات سارية بينهما طوال الأيام والليالى الحافلة، همسات أسرارهما السرية وتتعالى نغمات الكلمات شادية. كل كلماته له.. وكل كلماته له. لنحله من كيس جوال فوق أكتافنا فى رحلة داخل سراويلنا مختبأ. نأخذه كله منه، ونأخذ كله منه، يصير بلا كل، نفرقه فى لجة ماء نغمسه فيه. فى غيابات جب فى قاعه يختفى. هناك جب أعرف مكانه، نسقطه داخل إزاره.

بعدها لن يعود له. يحضر بعضهم من هؤلاء العابرين على أقدام مشيهم، فى طريق الجفاف، وهم يحتاجون إلى بضع قطرات ماء يستقونها من ماء الري، يرتشفونها عند جمعها، يزيلون بها عناء جفاف التوهج. سيتناولونه كما هو. يتم الأمر كما نشتهى، وهكذا يكون الأمر.. لم نقتله، لم نرق الدماء منه، لم نقطع عرق عنقه، لم نذبح قطعة لحمه. لحظتها سنكون فى احترام لأنفسنا تماما، لأننا فعلنا الفعل الذى يحترم، يليق بنا فعله وبالأب، لم نتصرف كمجرمين عتاة نحترف الإجرام كما يحترفون فى كل آونه، ولم نغتال الأب.

هو الشقيق لنا فى كل الأحوال، هو من نسل الرجل الأب. هناك سيحملون تائه أبيه، فارق حضنه، بعد أن عثروا عليه مصادفة فى بئر ماء عبروا مكانه وهم عطاش الماء. يحملونه معه. وتختتم حكاية الأب والابن استغرقنا فى جحيم عذابها طوال ما مضى. ويختفى من حياة الرجل من تدله فى حبه ونستريح نحن من لسعات حقدنا المغروس فى عمقنا، يتولد كل صباح ومساء ونحن نراهما يتعانقان فى عشقهما. نعم إن حقدنا هذا ضرير الرؤى حقا، لا يرضى ضمائرنا لكنه ترسب حقا فينا، سيغادرنا هذا الحقد الأسود نعترف أنه الأسود، عندما يغادر مكانه هذا الصغير. إننا؛ تعلمون أبناء الصالح الأب، ونحن منه فى صلاح لأننا فى إخلاص له، نحن الشرفاء فى سيرتنا، فى باطننا وفى الظاهر كذلك. هذا يا أولاد سرنا نكتمه. أليس هو هذا ما نكتمه سرنا؟ هل استمعتم جيدا لكلمات الأخ؟ كلمات الطيبة هادية لكم كى تعملوا بها. إنها فكرتى الصائبة. أدرك تماما أنها صائبة خارجة من عصارة داخلى أتيت بها وأنا داخلكم بها. لنحولها إلى واقع نلمس فعله. بلا دماء تلوث الأيدى.

ولا ألم يجعلنا تحت وابل ضربات ضمائرنا تثير فينا مواجع الليالى تفزعنا، تؤرق فينا منامنا، بلا بكاء موت لمن لن يموت فى أيدينا، وبلا جنازة علينا إعدادها يمشى فيها الأب مطرق الرأس مهموما حزنه هرما أكثر مما هم هرم، يبكى خلالها حرقة صغيره يرثيه فى كلمات تهتز بها جنباتنا. لمرآة وهو يهتز فتترنح عواطفنا، فننشج مثل نشيجه.


المشهد الثالث الأب.. الأبناء

الإبن الأول: يا من أنت الأب لنا، حضرنا إليك برغبة حارة عميقة صادقة تؤرقنا هى منذ وقت، دفعتنا لك. نريدك أيها الأب الحنون لنا كلنا، تشاركنا تلك الرغبة، بكل الرضاء تشاركنا نريد بعض حبك. نأخذ الصغير معنا برهات من دقائق الوقت. جئنا نتلقى الأمر منك. برحابة صدر أب عميق حنون لكل الأبناء كلهم، جميعهم. نريد لوليدك يكون رفيق رحلتنا فى الغد، ندفع به إلى أغوار عنفوان الحياة يتألق داخلها.

أنحاء أرجائها أيها الأب الرجل الصالح الطيب. إنه القابع معك ليل نهارك ونهار ليلك فى جرابك. فى خفاء دثارك تختزنه فيه. إنها الحقيقة لاحظناها بدقة وعناية تابعناها أيها الأب الصالح لنا كلنا. قطعة لحم تجمدت من رطوبة المكان. لم تعد ترى لمسة شمس فى الضاحية من دنيا الناس الواسعة.

إنه يتفجر حياة لكنه لم ير المشاهد غير ما اعتاد عليه فى علبتك المقفلة فى مكانها المعهود حيث أنت القابع فيه. جعلته أيها الأب قطعة أثاث بيتك، سجين حجرة نومك حتى ولو كان مغموسا فى حضنك. إخرج قطعته إلى خارج الدار. منذ ولدته، أرضعته، والدار كل حدود عالمه، مأواه حجرة جوارك وطى جلستك. إخرجه خارجك.. عزلت النبض عن عالم الإنسان وأنت عاكف عليه عاكف فيه غارق هيامك به. لم ير شمس العالم بعد خارج دارك. طوال استغراقه فى حياته معك.. لم تدركه نفحة شمس عابرة، أو لمسه هواء طائرة فوق أحياء الناس.

إننا يا أبانا أحياء وكما ترى نتجول، ونمشى حركة، نتحرك حركة مشينا، نحن مستغرقين فى شمس الشمس فوقنا، نجوس غيطان شمس عظامنا، تخترق أبداننا، نخطو خطواتنا فى نفحة الهواء، نخور فى ماشيتنا.. كما تخور ماشيتنا فى الحظيرة، ننبح نباح كلابنا عندما تنبح نباحها فى حراسة غيطاننا. لو ظل صغيرك كما هو، كما هو، سيتحول إلى نبات عطن لا يمكنك عصر ما فيه والامساك بخاصته، كأى حبات تزدهر فى جمالها فوق غيطان حقولنا.

دع قدماه حركة.. تهرول به بين أحياء الناس قابض على كيانه بفولاذ الأصابع. سجينك.. خلف جدران سجنك، تمنع عنه رغبه حركة الحياة فيحيا لو حررته. تعطل مجرى الحياة المتدفقة فى مسارها العادى فيه ككل الناس. أما نحن سنغمره بكل الحنان يتدفق منا عطايا وافدة. فى اللحظة الآتية، هى وان كان الوقت ضئيل الحجم يمكثه معنا، بعيداً قليلاً عنك لحظات قلائل، اخترناها من أجله، من أجل أن نخلصه، لصالحك أنت وهو. أنت الأب العاشق لصغيره، حبه عميق، حب من أنجبه.

ومع ذلك نحبه، نحن كذلك نشاركك حبه نحن منه دم الأشقاء، إخوته يا أبى يا أبوه، منك جئنا، ومنك جاء. اطمئن عليه معنا، نخاف نحن عليه كما هو حادث خوفك عليه. حتى نحن على أكثر من خوفك أنت عليه، هو الجزء منك، مثلنا نحن الأجزاء منك، قطعتك الأثيرة عندك، قطعتنا الأثيرة لنا. إخوة من الأب.. لا تقلق مرة فى حياتكما.

دعه يغادر مكانه المزمن بارد الحشايا والجدران، المعتاد عليه، ألف الرقاد فى فراش حياته بجوارك، اطلقه فى أمان حراسة الأخوة له، أمانة يحتويه داخلنا. دعه للانطلاق يختلس لحظات طيبة يشاهد فيها لأول مرة فى عمرة أشياء مدهشات غريبات على مرآة سمعه وآذانه غير المعتادات رآها وعرفها من قبل، أدرك محتوياتها فى بيتك القابع فيه معك. سيرى كل شىء يفحصه، هو المختلف عما هو فيه شديد مختلف. ستراه بعدها متغيرا، مختلفا، سيرى نورا مغايرا لنور عتمة بيته تعود عليه بجوار قعدته معك، أنت تحرسه. سينزل فى عنفوان حركة مغايرة لكل ما فى الحياة المريرة حوله. سيجول فينا، فى داخلنا، داخل الساحة.

كل شىء فيه يتغير.. ستورق أوراق نباته شجيرات مزدهرة بالغات العطاء بجوار حقول بيوتنا، كما هى تورق أوراق شجيرات حقولنا التى نعمل منها. وبجوارنا، عند عودته سيفاجئك، يقفز أمامك، يقفز لأحضانك ستندهش تراه طائرا فى هواءك، حيث مكانك. ستندهش دهشتك القريبة، وهو بين يديك يتحرك حركته فى روعة مخلوقك صار ناضرا، ستضحك من أعماقك كثيراً لما ترى، مرة وشوقاً لتكرار التجربة. سيضحك قلبك، تراه يحلق فوق الدار حولها فى الزرع فى الشمس والهواء والشجر النضر. ستحمله بين أحضان أياديك وأيادينا، وفى الساحة سيكون ابنك وليدنا، فى حماية رجالك. هؤلاء الرجال الأشاوس الأبناء الكثار العدد.. إخوة صغيرك المقترب كثيراً من حدود مدائنك، نحن الأبناء لك أيها الأب الشفيق بنا. 
اقرأ ايضا | سريعًا؛ مرّ عام على رحيل المبدع الكبير محمد حافظ رجب رائد التجديد فى القصة العربية فى يوم الجمعة 12 من فبراير2021م، رحل وقد شفاه الله من غصة مُرّة كانت تنغص أيامه بتذكره لمن حاربوه أو تجاهلوه او نفوه من الحياة وهو على قيد الحياة والإبداع