أخناتون.. أول الموحدين أم كبير المهرطقين؟

كتاب: النبي المفقود أخناتون
كتاب: النبي المفقود أخناتون

تحتار أشد الحيرة وأنت تقف أمام تمثال أخناتون في المتحف المصري بميدان التحرير، فما هذا الجسد الغريب؟، بطن منتفخة وثديين مترهلين ورأس بيضاوي مسحوب إلى الخلف، لكن الملامح لشخص طيب مستكين، أقرب لوداعة الأنثى منها للذكر.. ملامح طفولية هادئة تخفي الكثير من الأسئلة. 


تعود إلى ذاكرة الطفولة وكلام أساتذة التاريخ الأوائل في المدارس الابتدائية والإعدادية، فتقفز إلى رأسك جملة واحدة عن هذا الشخص: «أخناتون هو أول من آمن بالتوحيد في العالم»، مهلاً، الذاكرة تهديك ما هو أكثر: أخناتون هو الذي آمن بأن هناك رب واحد وخالق واحد وهو «آتون» بعد أن تعددت الآلهة وتنوعت طريقة الاعتقاد في الخلق والخلود.


أيُعقل أن هذا التمثال الضخم لشخص تقول النقوش المتبقية إنه تولى الحكم في الـ13 عامًا من عمره ومات في سن الثلاثين من عمره تقريبًا، هو من فعل هذا الأمر الجلل.

أيُعقل أن هذا الشخص ترك عاصمة الأجداد «طيبة» وأعلن للعالم أنه سيُنشيء في «تل العمارنة» عاصمة جديدة له ولكهنته وأتباعه، ويبني مبانيها ويعمرها ويسكن فيها جنوده وكل من يؤمن به، ويحيطها بالأسوار العالية، أيُعقل أن هذا الشخص الذي غير اسمه من «أمنحتب الرابع» إلى «أخناتون» أعلن تحديه لـ«كهنة آمون» بما يمثلونه من قوة ونفوذ ديني واقتصادي واجتماعي في مجتمع «طيبة»، مستمدين من إله الشمس «رع آمون» نفاذ حجتهم على الجميع.


أيُعقل أنه بموت أخناتون ينتهى كل أمره وأمر دعوته، ويعود الجميع إلى «طيبة» محتمين بـ«كهنة آمون» الذين محوا آثار الملك العاق الشاب المهرطق الفكرية والعقائدية تمامًا، حتى ابنه «توت عنخ آتون» صار «توت عنخ آمون»!


صاحب أول ثورة فكرية في التاريخ المصري!


نسلّم أن إخناتون شخصية ملهمة، ألهمت كثير من المبدعين والدارسين في السابق، نجيب محفوظ كتب «العائش في الحقيقة» عنه، شادي عبدالسلام كان ينوي تقديم فيلم عنه بعنوان «إخناتون» أو «مأساة البيت الكبير» ولكن القدر لم يمهله، هذا غير كثير من العروض المسرحية والأوبرالية التي استلهمها صناع الإبداع عن حياته وأثره. د. شريف شعبان في كتابه الجديد «النبي المفقود إخناتون» قدم لوحة متكاملة عن إخناتون، بوصفه أحد أبرز الشخصيات إثارة وحضورًا على خشبة مسرح التاريخ المصري، بل وربما تاريخ الحضارة الإنسانية كله.


لا يميل شعبان في ثنايا الكتاب، أن يصرّح بأن إخناتون صاحب أول ثورة فكرية في التاريخ فحسب، بل كانت ثورته عامة شاملة لتغيير المجتمع ككل من جوانبه الدينية والسياسية والاجتماعية، فيعتبر إخناتون هو أول من وقف في وجه «كهنة آمون» ونفوذهم، هو أول من وقف أمام العبودية والسخرة، هو أول من وقف مع المرأة، وذلك بفضل تربيته في بلاط الملكة الأم «تي»، وقد انعكس ذلك على حياته كملم، حيث أشرك زوجته «نفرتيتي» في كل خطوة كان يخطوها.

 
أن تغير كل الموروث السابق الراسخ أمر صعب ومؤلم، ولكن إخناتون استطاع أن يفعل ذلك، استطاع أن يوقظ المعبود الشمسي «آتون» من مرقده بالتاريخ القديم، ليقدمه عن «آمون رع» الإله المعتمد في تلك الفترة، بل أنه أمر كل رجاله بتشويه كل ذكر لـ«آمون» على النقوش والمسلات. استطاع أن يصادر أملاك الكهنة، وأن يقلب كل موازين الدولة، لتأسيس دولة أخرى.


وهذا يعني أن أخناتون لم يكن موحدًا بالمعنى الذي أفهمه لنا أساتذة التاريخ الابتدائي والإعدادي، بل كان ثائرًا على دين الآخرين حينها، وقرر أن يقدم نموذجه هو للإله وشكله. كان إخناتون شخص غير عادي بالفعل، ولكن دعوته كانت تغري المؤرخين والمفكرين بعد ذلك لمساواته بواحد من أنبياء السماء، ولكن من يكون هذا النبي؟
من هو من الأنبياء؟ موسى أم يوسف أم إبراهيم 


د. شريف شعبان في كتابه الصادر عن دار الرواق، استعرض وجهات النظر القائلة بأن إخناتون في الأصل كان نبيا مرسلا أو أحد ملهمي الأنبياء الذين عاصروه، تحدث عن اقترانه بالنبي موسى (عليه السلام) وقال إن هذا الطرح كان خاصا بسيجموند فرويد في كتابه «موسى والتوحيد»، والذي يشير إلى أن النبي موسى كان أحد أتباع إخناتون، وبعد وفاة الأخير، صنع ما كان يسعى أستاذه لصنعه بالخروج بالقوم هربا من مصر. بل أن البعض أطلق على أن النبي موسى هو نفسه إخناتون، وأن المدينة الجديدة التي حاول الأخير إقامتها لم تكن في «تل العمارنة» بل في «سيناء» وفقاً للرواية التوراتية.


هناك من قال إن أخناتون هو النبي يوسف (عليه السلام) باعتبار أن الاثنين كانا بارعين في تفسير الأحلام، وهناك من ذكر إنه النبي إبراهيم (عليه السلام)، مستدلين على فكرة ما يسمونه «التوحيد» باعتبارها لصيقة بالنبي إبراهيم، بل ويسوقون دليل تحطيم أحد تمثالي «ممنون» الحادث المنسوب لإخناتون، باعتباره نفس الحادث المنسوب إلى النبي إبراهيم الخاص بتحطيم كبير الأصنام، وهو الذي أدى به إلى الحرق بالنار التي صارت بردًا وسلامًا على إبراهيم.


كل هذه الأطروحات فندها الكاتب جيدًا، ولكنه استخلص ثلاث اختلافات كبيرة بين فكر إخناتون وعقيدته، وبين ما طرحته السماوية وهي أولاً أن إخناتون لم يرمز فقط لمعبوده الشمسي، بل شكله مجسدا، وهو أمر غير موجود في الأديان السماوية، وثانياً توحد إخناتون مع معبوده أو حلوله أمر غير موجود في العقائد السماوية، وثالثاً عدم إيمانه بالحياة الأخرى، وهي أساس العقائد السماوية، بل والمصرية القديمة باستثناء إخناتون!


أمور من الحاضر


في كتاب «النبي المفقود أخناتون» فصول عن الاكتشافات الأثرية المرتبطة بهذا الملك المصري القديم، ومثلما كان أمر حياته غريباً كانت الاكتشافات المرتبطه به وبعائلته غريبة كذلك، وهو ما يعني حرص من أتوا بعده على محو آثاره وآثار عائلته، بل أن الطريقة المأساوية التي فُقد بها قناع ابنه من زوجته الأخرى كيا «توت عنخ آمون» من مقبرته العظيمة دليل - غير مباشر - على شتات هذا الملك وذكراه.