انتصار بوراوى يكتب : رقابة أدبية واجتماعية ودينية

انتصار بوراوى يكتب : رقابة أدبية واجتماعية ودينية
انتصار بوراوى يكتب : رقابة أدبية واجتماعية ودينية

الحرية هى أوكسجين الكتابة، ولكن الكاتب العربى يدرك بأن ثمة رقيباً سيخرج له من بين الأكمة ليحاسبه على فكره، وكتابته الشعرية أو القصصية والروائية فالكتابة فى بلداننا العربية هى كالمشى فوق حقل من الألغام.
ليبيا مثل أى بلد عربى، كانت ومازالت تعانى من الرقابة سواء كانت الرقابة رسمية من الدولة أو رقابة دينية، وفى كثير من الأحيان تكون الرقابة اجتماعية وهى فى بلاد مثل ليبيا أشد ضراوة أحيانا من الرقابة الرسمية للدولة.   
بدأ الأدب فى ليبيا بصدور رواية «اعترافات انسان» للروائى محمد على سيالة فى عام 1961م وهى رواية واقعية تتحدث عن المجتمع الليبى وتنقد عاداته وتقاليده القديمة البالية وفى مجال الشعر، كان هناك مجموعة من الشعراء الذى يكتبون الشعر المقفى والتفعيلة وكان من بينهم، الشاعر محمد الشلطامى الذى تعرضت قصائده للمنع من الرقابة ثم قامت السلطات بسجنه لاتجاهه القومى والعروبى، الذى كان يتجسد فى قصائده المتمردة على الواقع السياسى، فى العهد الملكى وللمفارقة أن قصائده تعرضت للمنع فى عهد القذافى، الذى سجنه  هو أيضا فى عام  1976م نتيجة عدم رضائه عما كان يكتبه من قصائد رافضة للظلم والقمع.
الاصطدام مع الرقابة الاجتماعية والدينية

حين بدأ الكاتب الصادق النيهوم، كتاباته فى أواسط الستينيات مع صدور صحيفة الحقيقة فى مدينة بنغازى، بدأ الصدام الأول مع رقابة المجتمع عندما نشر مقالاته الناقدة والساخرة من  تقاليد وعقلية المجتمع، ثم مقالاته التى حلل فيها  بعض الرموز بالقرآن وهى سلسلة نقدية بعنوان «الرمز فى القرآن».

والتى نُشرت  على حلقات بجريدة الحقيقة الليبية أواخر الستينيات، ولكنه توقف عن نشرها بعد الحلقة السابعة نتيجة اعتراض أصحاب الفكر الدينى،على ما اعتبروه  تشويهاً للدين ثم نشر روايته الأولى «من مكة إلى هنا» التى كانت  تحمل فى مضمونها نقدا لدور الفقيه فى المجتمع ورغم أن الرواية كانت جريئة فى طرحها إلا أنها استطاعت الهروب من مقص الرقيب.


الرقابة فى عهد القذافى
بعد انقلاب سبتمبر 1969 بقيادة القذافى، فرضت الدولة رقابة مشددة على الكتب والإصدارات ووضعت قيوداً متعددة على حرية التعبير والإبداع فلم يكن ممكناً نشر أى عمل أدبى إلا بعد أن يمر على الرقابة، قبل إصداره وفق أحكام قانون المطبوعات رقم 76 لسنة 1972 الذى قيد النشر وإصدار الصحف والمجلات، و أقفلت دور النشر الخاصة وانحسر النشر وإصدار الصحف والكتب عبر مؤسسات الدولة وبدأ التضييق على  الكتاب والأدباء.

ومحاولة حصر كتاباتهم  فى الأدب الثورى المحرض للجماهير ووصلت ذروة القمع للأدباء والكتاب فى عام  1978، حين تم إلقاء القبض على مجموعة من الأدباء، خلال إقامتهم لندوة أدبية فى مدينة بنغازى  كان من ضمنهم  القاص عمر الككلى والقاص محمد الزنتانى والقاص والروائى جمعة بوكليب والروائى والكاتب أحمد الفيتورى.

والشاعر إدريس بن الطيب والكاتب  إدريس المسمارى وغيرهم من طليعة أدباء السبعينيات فى الشعر والقصة والرواية وسجن أيضا المسرحى والروائى  «منصور بوشناف» لمدة  12 عاماً بعد عرض مسرحيته «عندما تحكم الجرذان»، و بعد خروجه من السجن منعت الرقابة نشر روايته «سراب الليل» فعمل على نشرها بدار نشر خاصة بالقاهرة ومنعت أيضا من التوزيع داخل ليبيا.


كان لهذه الأجواء الكابوسية المهيمنة على البلاد أثر فى نفوس الأدباء والكتاب فى ليبيا الذين شعروا بسيف الرقابة المسلط على رقابهم  والعيون الأمنية التى تراقب كل حرف وكلمة، ينشرونها سواء فى الملاحق الثقافية أو فى الكتب التى يحاولون إصدارها فحدثت حالة من الصمت والانعزال، والابتعاد عن النشاط الأدبى والثقافى فى ليبيا بعد حملة القبض على الأدباء الشباب من جيل السبعينيات.


وفى أواسط الثمانينيات ظهرت مجموعة شابة من شعراء قصيدة النثر حاولت الهروب من سيف الرقيب بكتابة بها كثير من الرموز التى تحاول التحايل على عين الرقيب وكان على رأس ذلك الجيل المتمرد،الشاعر الكبير مفتاح العمارى والشاعر فرج العربى والشاعر فرج العشة والشاعرة فاطمة محمود والشاعرة عائشة المغربى وغيرهم فيما كان كتاب الرواية ينسجون رواياتهم فى عالم محمل بالرؤى الجديدة التى ظهرت بتلك الفترة فى روايات الروائى إبراهيم الكونى والروائى أحمد إبراهيم الفقيه والروائى خليفة حسين مصطفى.


بعد الإفراج عن الأدباء السجناء فى عام 1988، بزغت كوة للتنفس  فظهرت منذ أوائل التسعينيات أقلام شابة جديدة، كتبت فى مجال الشعر والقصة والرواية حيث استفادت من مناخ الحرية الصغير للكتابة، ولكن كالعادة اصطدم بعض الأدباء  بجهاز الرقابة الرسمية الحكومية والدينية والاجتماعية، الروائية وفاء البوعيسى ورقابة رجال الدين .


الرقابة فى ليبيا ليست مقتصرة على جهاز الرقابة على المطبوعات والنشر وإنما هناك أيضاً رقابة اجتماعية ودينية، متمثلة فى رجال الدين الذين قد يقومون بدور الرقيب لو نجا العمل الأدبى من عين ومقص الرقيب كما حدث مع  الروائية وفاء البوعيشى، التى صدرت لها فى عام 2006 رواية  «للجوع وجوه كثيرة» عن دار المؤتمر وهى دار رسمية تابعة للدولة.

وقام بقراءتها أحد شيوخ الأوقاف، فكتب مقالاً ضد الكاتبة والرواية يتهمها فيها بالتحريض على الفسق والفجور، ونشر الدعاية للمسيحية فى البلاد وقامت وزارة الأوقاف  بتعميم خطبة على المساجد ضد الكاتبة وروايتها مما عرض حياتها للخطر نتيجة شحن العوام ضدها، فاضطرت الكاتبة للخروج من البلاد واللجوء للمنفى هربا بحياتها من القتل.


نيابة الصحافة 
واجهت القاصة والروائية نجوى بن شتوان معركة شرسة بعد أن تم تحويلها للنيابة العامة للصحافة بعد نشر قصتها «فخامة الفراغ» التى تناولت فيها قضية فساد لأحد الضباط، وتم التحقيق مع الروائية فى النيابة وصدرت بيانات متضامنة مع الكاتبة من بعض المثقفين الليبيين والمنظمات الحقوقية العربية .


ونتيجة التضييق على الأدباء، والرقابة الحكومية والاجتماعية والدينية على الأعمال الأدبية اتجه كثير من الأدباء الليبيين، إلى النشر فى الخارج بدور النشر العربية هرباً من الرقابة الرسمية والدينية والاجتماعية داخل البلاد.


الرقابة بعد عام  2011
بعد سقوط نظام القذافى، انفتحت الأبواب أمام حرية التعبير وحرية الكتابة وصدر الإعلان الدستورى الذى احتوت المادة 15 منه على البند التالى: «تضمن الدولة حرية الرأى وحرية التعبير الفردى والجماعى، وحرية البحث العلمى، وحرية الاتصال، وحرية الصحافة ووسائل الإعلام والطباعة والنشر».


وصدر الكثير من الكتب لأدباء ليبيين فى الشعر والقصة والرواية وتناولت الكثير من الروايات واقع القمع والتسلط الذى كانت تعيشه البلاد خلال حقبة القذافى وتناولت كثيراً من القضايا التى كانت الكتابة عنها من المحرمات وقامت وزارة الثقافة فى عام 2012، بالسماح بإصدار الصحف والمجلات دون قيود.

وأصدرت قراراً بإلغاء إدارة رقابة المطبوعات وتلاشت تقريباً القبضة الأمنية التى كانت مشددة على الكتاب إلا أن ذلك لم يستمر طويلا، بعد أن ظهرت أنواع  أخرى من الرقابة تمثلت فى المجموعات الدينية السلفية، التى تمتلك  تشكيلات مسلحة أضحت تراقب الحركة الثقافية والأدبية، وتسلط سيفها على رقبة الأدباء الشباب تحديدا كما حدث مع كتاب «شمس على نوافذ مغلقة» وهو كتاب جمع نصوص  مجموعة من الأدباء الشباب فى مجال القصة القصيرة والشعر والرواية وكان من بين  النصوص التى نشرت، بالكتاب نص من رواية «كاشان» للروائى الشاب «أحمد البخارى» الذى رأت إحدى  المجموعات الدينية السلفية أنه خادش للحياء ويدعو للانحلال بين الشباب، فتم الهجوم  على مقر  المكتبة  التى كان من المزمع  إقامة حفل توقيع للكتاب بها.

 وقامت  المجموعة  السلفية بتهديد حياة القائمين على نشر الكتاب مما اضطرهم للخروج من البلاد، وحدث تضامن كبير من المثقفين داخل ليبيا وخارجها مع الأدباء الشباب، فيما قامت وزارة الثقافة  وإدارة المطبوعات بالتبرؤ من الكتاب واتهمته بأنه يسىء للأخلاق العامة وقامت بمنعه ومصادرته من السوق.  


وفى أكتوبر من العام الماضى، منعت إدارة الرقابة على المطبوعات الروائى عبد الفتاح البشتى من طبع روايتين له سبق له طباعتهما فى أوائل الألفية دون أن توضح إدارة الرقابة على المطبوعات سبب المنع.


لم تتوقف الرقابة عن الترصد للأعمال الأدبية، عبر أدواتها التى تضع معاييرها الأخلاقية والدينية فى محاولة لمنع الأدباء من التحليق بخيالهم وفكرهم دون أن يتحسسوا رقابهم خوفا من أحكام الرقابة، التى قد تحكم عليهم بالسجن أو تضطرهم للهروب إلى المنفى هربا بحياتهم من التهديدات التى قد تطاولهم نتيجة كتاباتهم الرافضة للقمع السياسى والدينى والاجتماعى.

اقرأ ايضا | الحرية هى أوكسجين الكتابة، ولكن الكاتب العربى يدرك بأن ثمة رقيباً سيخرج له من بين الأكمة ليحاسبه على فكره، وكتابته الشعرية أو القصصية والروائية فالكتابة فى بلداننا العربية هى كالمشى فوق حقل من الألغام.