الصين وروسيا تواجهان أمريكا فى تلك المنطقة .. اللعبة الكبرى فى كازاخستان

دخول قوات روسية إلـى كـــــــــــازاخستان من أجل فرض الأمن فى العاصمة ألماتى
دخول قوات روسية إلـى كـــــــــــازاخستان من أجل فرض الأمن فى العاصمة ألماتى

دينا توفيق

موارد وثروات معدنية طبيعية وإمكانات اقتصادية هائلة؛ تمتلك 3% من احتياطى النفط العالمي، فضلًا عن الفحم والغاز.. تتمتع بموقع جغرافى واستراتيجى مميز مكنها من لعب دور هام فى استقرار آسيا الوسطى؛ تلك الدولة الواقعة بين فكى روسيا والصين، جزء من مجال نفوذهما فى المنطقة؛ جعلها مركزًا لأطماع الغرب ومنطقة للصراع بين واشنطن وموسكو وبكين. خلال الشهر الماضى، اندفعت كازاخستان فجأة إلى بؤرة الاهتمام الدولى؛ ماذا حدث؟ وما تداعيات الأحداث على الدول المجاورة؟ ويتساءل كثير من المراقبين عن سبب الاهتمام الأمريكى بأحداث كازاخستان والتى تكتسب أهمية جيوسياسية استثنائية.

بدأت الاحتجاجات فى الثانى من يناير الماضى فى مقاطعة مانغيستاو بغرب كازاخستان، سرعان ما امتدت إلى العديد من المناطق الأخرى بحلول الرابع من يناير الماضى، وكذلك إلى أكبر مدن البلاد والعاصمة السابقة، األماتىب. وسرعان ما تحولت المظاهرات المدنية هناك، والتى كانت سلمية، إلى محاولة استيلاء الجماعات شبه العسكرية على هياكل الدولة. كان التخريب متعمدا، ما دفع الرئيس الكازاخستانى اقاسم جومارت توكاييفب، للاستجابة إلى مطالب المحتجين وسحب ارتفاع أسعار الغاز، وأرسل طلبًا للمساعدة إلى منظمة معاهدة الأمن الجماعى (CSTO). استجاب التحالف العسكرى، وفى غضون ساعات بقرار تاريخى، قرار إطلاق أول انتشار خارج الحدود الإقليمية لقوات التحالف منذ تأسيسه. 

الأحداث الأخيرة فى كازاخستان لا تتعلق فقط بمسألة مستقبل البلاد من حيث التنمية الداخلية، والقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية للسكان، بل إنها تتعلق أيضًا بمسألة الاستقرار الإقليمى فى آسيا الوسطى، وهذا الجانب بدوره له أهمية جيواستراتيجية عليا. كان وزير الخارجية الروسى اسيرجى لافروفب واضحًا فى قوله إن زعزعة استقرار كازاخستان سيكون مخالفًا جوهريًا ليس فقط لمصالح روسيا، ولكن أيضًا مع مصالح أوروبا، كما أكد وزير خارجية الصين اوانج ييب، عزم بلاده على منع حدوث تطور فوضوى لا يمكن السيطرة عليه لأعمال الشغب فى كازاخستان، وأظهر نشر منظمة معاهدة الأمن الجماعى فى كازاخستان أن موسكو وبكين قوى أساسية للنظام فى آسيا الوسطى وبالتالى عنصر أساسى فى أوراسيا، لديها القدرة على تهدئة النزاعات دون تدخل الغرب، وفقًا لمجلة اوول ستريت انترناشيونالب الأمريكية. 

فيما كان انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، الذى اكتمل فى أغسطس 2021، بمثابة بداية فترة جديدة من عدم الاستقرار فى المنطقة الأوسع، واتفق العديد من الخبراء على أن أفغانستان فى ظل حكم طالبان ستطلق تطورات جديدة، وسيتحول مركز الثقل حتماً إلى آسيا الوسطى على الحدود مع الصين وروسيا وإيران، إلى الشمال من أفغانستان تقع جمهوريات آسيا الوسطى التى نالت استقلالها بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، كازاخستان وأوزبكستان وتركمانستان وقــيرغيزستان وطاجيكســــتان- أعضــــاء فــى الاتحاد الاقتصادى الأوراسى (EAEU)، جعل المنطقة تكتسب أهمية استراتيجية فى مشاريع الاقتصاد والطاقة والاتصالات والبنية التحتية التى تؤثر على قارتى أوروبا وآسيا بأكملها. كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان أعضاء فى منظمة معاهدة الأمن الجماعى (CSTO)، فى حين تسيطر روسيا على هاتين المنظمتين، إلا أن الدول الخمس جميعها انتهجت باستمرار سياسة خارجية تهدف إلى ضمان سيادتها وتطورها الاقتصادي. وفى هذا الصدد، تعتبر كازاخستان وأوزبكستان من الدول ذات الثقل الكبير فى المنطقة، على الرغم من أن الأخيرة تحافظ على انخراط أقل نسبيًا فى السياسة الخارجية.

بالنسبة لروسيا، فإن الاستقرار فى آسيا الوسطى هام بشكل خاص، لا سيما فى ضوء المواجهة الجيوسياسية المتصاعدة بشأن أوكرانيا. من بين جمهوريات الاتحاد السوفيتى الخمس، كازاخستان هى الوحيدة التى تشترك فى حدود مباشرة مع روسيا، التى يزيد طولها عن 7600 كيلومتر، ومن ثم تلعب دورًا هام فى السياسة الأمنية الروسية، حيث إن أى اضطرابات فى المنطقة، وخاصة فى كازاخستان، ستشكل مخاوف أمنية على موسكو. لذلك، مع اندلاع الاحتجاجات الشهر الماضى، ردت موسكو على الفور وبشكل مباشر، وألقت باللوم على تورط قوى خارجية، ما دفع الروس إلى التدخل بعد قيام الرئيس الكازاخستانى توكاييف بدعوتهم وهى تحركات أدت إلى قلق الدول الغربية، بما فى ذلك الولايات المتحدة، لطالما اعتبرت كازاخستان محصنًا للاستقرار السياسى، إلا أن أزمة يناير أوضحت مدى السرعة التى يمكن أن تحدث بها التقلبات، وأعاد تدخل منظمة معاهدة الأمن الجماعى بقيادة روسيا تشكيل سياسات كازاخستان، وخلق فائزين وخاسرين، حيث أثبت الكرملين قدرته واكتسب نفوذاً كبيراً على كازاخستان، وفقًا لمجلة اذا ديبلوماتب. 

ويرى الدبلوماسى الأمريكى الارى نابرب الذى عمل سفيرًا فى كازاخستان من 2001 إلى 2004، وهو الآن أستاذ فى جامعة تكساس، أن الأسباب التى تجعل الولايات المتحدة تشعر بالقلق إزاء الأحداث الأخيرة فى كازاخستان، ليس فقط إلى أنها الأكثر مأساوية من الخسائر فى الأرواح وتعطيل السلام فى البلاد، ولكن أيضًا لأن الرئيس الكازاخستانى توكاييف قرر دعوة منظمة معاهدة الأمن الجماعى التى تهيمن عليها روسيا لإرسال ما يسمى بقوات حفظ السلام. بالإضافة إلى مشاركة الحدود مع روسيا وعدد كبير من السكان ناطقين بالروسية. وعلى هذا النحو، فقد سعت دائمًا إلى إقامة علاقات وثيقة مع الاتحاد الروسى، لأسباب استراتيجية وسياسية، تحتاج كازاخستان إلى تقوية العلاقة مع روسيا. 

ومنذ الاستقلال قبل 30 عامًا، اتبعت كازاخستان سياسة خارجية، حيث تسعى إلى إقامة علاقات مثمرة ليس فقط مع روسيا ولكن مع الصين أيضًا، التى تشترك معها فى حدود طويلة، وكذلك محاولة التقارب مع الولايات المتحدة. ووفقًا لموقع اذى كونفرسيشنب الأسترالى، تعد كازاخستان ذا أهمية لمصالح الولايـــات المتحــــدة الاســـــتراتيجيــة، جغـــــرافيًا وجيوسياسيًا، تقع البلاد فى موقع هام جدًا، فهى لا تمتلك حدودًا مع الصين وروسيا فحسب، بل إنها أيضًا وجود إقليمى لأفغانستان، وللولايات المتحدة مصلحة واضحة فى مكافحة الإرهاب فى المنطقة بالنظر إلى سقوط أفغانستان فى أيدى طالبان العام الماضى. وبالنظر إلى موقع أفغانستان فى آسيا الوسطى وحقيقة أنها تشترك فى حدود قصيرة مع إقليم اشينجيانجب الصينى، وكذلك كازاخستان، ومع إدراج الجيش الأمريكى فى عقيدته رسميًا ضرورة التحضير لـبصراع القوى العظمىب، احتفظت الولايات المتحدة بوكالة الاستخبارات المركزية فى البلاد. وفى السنوات الأخيرة، لعبت كازاخستان دورًا مهمًا فى مكافحة الإرهاب، على سبيل المثال، كانت واشنطن تحاول نقل الجهاديين وعائلاتهم من معسكرات الاعتقال فى سوريا إلى بلدان يمكن فيها وضعهم فى برامج إعادة التأهيل، قبلت كازاخستان هذه العائلات بناءً على طلب من الولايات المتحدة. هناك أيضًا الصين، فى السنوات الأخيرة، ازدهر تعاون اقتصادى وفى مجال الطاقة بين كازاخستان والصين، وهو أمر تراقبه الولايات المتحدة.

هناك الملايين من الكازاخ الذين يعيشون فى إقليم اشينجيانجب غربى الصين وكذلك الأويجور الذين يعيشون فى كازاخستان. يحتاج هذا التدفق العرقى عبر الحدود إلى إدارة دقيقة، وهو عامل آخر يدخل فى إدارة كازاخستان الحذرة للسياسة الخارجية. ويعد غياب الصين أكثر إثارة حيث احتلت الرهانات الصينية المتزايدة والنفوذ الصينى فى آسيا الوسطى، وخاصة كازاخستان، مركز الصدارة فى المناقشات منذ الإعلان عن مبادرة الحزام والطريق (BRI) فى عاصمة كازاخستان عام 2013، وكانت كازاخستان منذ ذلك الحين ركيزة أساسية فى المشروع الضخم، فيما أبرمت كازاخستان والصين اتفاقيات لتحويل الطاقة الإنتاجية خارج الصين ومساعدة كازاخستان على تنويع اقتصادها. ومن المتوقع تنفيذ خمسة وخمسين مشروعًا مشتركًا بقيمة 28 مليار دولار، وتم تنفيذها جزئيًا فى مجالات التعدين والهندسة والكيماويات وقطاعات أخرى. تعمل الصين للمحافظة على مكانتها الحاسمة فى كازاخستان وقد تزيدها من أجل تعزيز التنمية الاقتصادية للبلاد. ويقدم نموذج التنمية الصينى - والاستثمارات الصينية - أكبر وعد لتحديث اقتصاد كازاخستان. لذا ستواصل بكين منطقها القائم على االاستقرار من خلال التنمية.

 فيما تمتلك الولايات المتحدة استثمارات بمليارات الدولارات فى مجال الطاقة فى كازاخستان، من خلال الشركات الأمريكية الكبرى مثل شيفرون وإكسون موبيل، التى لها مصالح فى حقول النفط والغاز الكازاخستانية، حيث استثمرت عشرات المليارات من الدولارات فى غرب البلاد، المنطقة النى اشتعلت فيها الاضطرابات. كما تُعد الدولة مُصدرة للمعادن المهمة، بما فى ذلك اليورانيوم الخام، فهى أكبر دولة فى العالم من ناحية تصديره، إذ تحتوى أراضيها على 12% من المخزون العالمى وتنتج حوالى 43% من خام اليورانيوم الصناعى على مستوى العالم. ومنذ سقوط الاتحاد السوفيتى، برزت كازاخستان كقائدة إقليمية فى الإصلاحات الاقتصادية، مما جعل البلاد أقرب إلى السوق الحرة وجعلها أكثر جاذبية للاستثمار الأجنبى. ووفقًا لنابر، لم يُترجم ذلك إلى توزيع أكثر إنصافًا للموارد والمزايا للكازاخستانيين - ويبدو أن هذا سبب رئيسى للاضطرابات.

قد تكون خطة واشنطن بإشعال تلك الأحداث بمثابة قطع أقرب طريق برية أمام الصين لأوروبا، والذى يمر عبر كازاخستان، ودفع روسيا لإرسال قوات لذلك البلد، وإثارة اضطرابات هنا وهناك، لكن الحقيقة أن الهدف من الصراع فى كازاخستان تبدو غامضة، وأن معادلات الاستقرار والفوضى فى الساحة الكازاخستانية تلعب بها قوى إقليمية ودولية.