الإهمال الطبى فى معرض فني

الإهمال الطبى فى معرض فني !
الإهمال الطبى فى معرض فني !

كتبت : منى عبد الكريم 
منذ البداية والفنان  الشاب عمر جبر يملك جرأة فى اختياره للموضوعات التى يتناولها وفى صياغتها بصريا، جرأة تتناسب مع طبيعة شخصيته ومع نظرته للحياة، وطريقة معالجته للأمور التى تحمل قدرا كبيرا من الوعى والتى كثيرا ما يعبر عنها بأسلوب ساخر، الأمر الذى يتأكد من تجربة فنية لأخرى لاسيما من خلال معرضه الفردى الأخير الذى استضافته قاعة أوبنتو بالزمالك.

اختار جبر عنوان «منتز ABI» الذى مزج فيه بين مفردة عربى وثلاثة أحرف باللغة الإنجليزية لتتخيل للوهلة الأولى أنها اختصار لاسم المنتزه، اسم يثير توقعات بمكان ما، خاصة بعد قراءة النص المصاحب للمعرض الذى يبدو كقصة قصيرة يستهلها قائلا: «استيقظنا فى يوم لنجد أن أحد الأصدقاء المقيمين فى ذات الغرفة كان قد ذهب، بدون تردد وبسرعة ركضنا نحو الثلاجة لنأكل جميع ما ترك من مثلجات! أخذت حصتى بحماس وبدأت فى أكلها مستلقيا على سريري، ناظراً نحو النافذة لأجد أن الذبابة التى كنت أراقبها ليلة أمس الممطرة وهى واقفة منكشحة كعادتها قد ذهبت هى الأخرى.» بينما يستطرد فى مقطع آخر «فى فندق كبير، يملئه الزوار وتزيّنه الأضواء الزرقاء الساطعة من لمبات نيون مركزة جداً وباردة، تماما كليلة شتاء عاصفة، برودة زادت من حدتها المكيفات الهوائية، ولكن ما الحاجة إلى المكيفات فى مثل هذا ..الطقس؟ لا أعرف هذه، كانت إحدى قوانينه»، لكن جولة بين الأعمال الفنية التى قدمها  تترك انطباعا لا يشبه تلك التوقعات التى بعثها اسم المعرض فى المخيلة، مشاهد متفرقة تبعثر توقعاتك، كما يبعثر عمر جبر أجزاء الجسم البشرى فى مجموعة من اللوحات التى تشبه ملصقات حصة العلوم والصور التوضيحية بكتب التشريح، لكنه إمعانا فى الصدمة يغير تفاصيل تلك الأعضاء، يزاوج بين العضلات والأعصاب ومجموعة من ثمار الرمان والطماطم وشرائح الليمون وأصابع المحشى وساندوتشات البرجر وغيرها.

 أو كما يقول الفنان سمير فؤاد:  « يضعنا الفنان المتفرد المتمرد عمر جبر أمام أنفسنا من خلال الجسد .. ذلك الوعاء الذى يحتوينا  .. لوحات كأنها صور توضيحية مأخوذة من كتاب تشريح .. ولكن عندما تمعن النظر تجد أن الفنان يأخذك فى جولة فى عالم تخيلى عبثى تختلط فيه أجزاء جسد الإنسان بأشياء أخرى .. أطعمه وفاكهة وأدوات جراحية وشاشات أشعة وضعها الفنان بدون ترتيب واضح وكأنه بهذه البعثرة المقصودة يريد أن يؤكد عبثية المشهد» مضيفا «استعمل الفنان عجينة ثخينة من اللون وألوان داكنة وكأنه يريد التأكيد على انسحاب الحياة من عناصره والتأكيد على إكلينكية المشهد .. نحن هنا نواجه ذلك الجانب من حياتنا والذى نحاول دائما تناسيه ولكن الجائحة جعلته أكثر حضورا فى حياتنا آلا وهو اعتلال الجسد وحتمية فنائه.»

 


فى البداية يستدرجك عمر جبر لتبتهج، ربما تشعر بطمأنينة ترتبط بابتسامة أبطاله التى تستقبلك.. ربما تضحك من عبثية المشاهد، لكن سرعان ما تشعر بالصدمة من تلك البهجة المزيفة التى تتناقض مع كل تلك التشوهات التى أصابت أبطال اللوحات، ذلك ببساطة أن موضوع المعرض يقوم على ما تتسبب فيه الأخطاء الطبية من تشوهات لضحاياها الذين يجدون أنفسهم مجبرين على التعايش مع أوضاعهم الجديدة.


يقول جبر:  بالبحث اكتشفت أن هناك أكثر من مائة ألف حالة من ضحايا الأخطاء الطبية سنويا فى مصر، وقد تناولت ذلك الموضوع فى هذا المعرض بأكثر من زاوية، منها كيف يتسبب الأطباء بالخطأ وأسباب حدوث ذلك، وردود أفعال المرضى عندما يجدون أنفسهم ضحايا للأخطاء الطبية، وقد قسمت المعرض لقسمين، أحدهما داخل المستشفى والآخر فى البيت لإلقاء الضوء  على أولئك الضحايا بعد خروجهم من المستشفى مضيفًا: أن معظم الأخطاء التى صورتها باللوحات اختلقتها من وحى خيالى لتصبح كوميدية أكثر. 


وإضافة للوحات التى قدمها بمختلف الخامات والأحجام ، قدم الفنان عملا مجسما فى معالجة تبدو واقعية لأحد المرضى، لولا تلك الرقبة الممتدة التى تشبه رقبة الجمل، ذلك التشوه الذى لم يدفع  الضحية للتخلى عن ابتسامته التى بدت باهتة، واختار الفنان أن يغطى عمله باللون الأزرق السماوي، إذ يرتبط الأزرق بلون الحزن والكآبة من جهة.

ويرتبط فى مخليتنا بأجواء المستشفيات ولون بالطو الأطباء من جهة آخرى، لنستعيد فى تلك اللحظة لون اللمبات الزرقاء التى تزين الفندق الكبير فى النص المصاحب للمعرض، فتعيد قراءته من جديد بمفهوم آخر..

وأن ذلك الفندق ما هو فى الغالب إلا مستشفى كبيرة.
سألت عمر عن سر اختياره لعنوان «منتز ABI» ليقول إن الحروف هى اختصار لمرض Anoxic Brain Injury  الذى يعنى نقص الأكسجين بالمخ، وهو مرض يحدث عادة نتيجة خطأ طبى يتسبب به دكتور التخدير بحقن المريض جرعه زائدة، مما يتسبب فى موت كثير من خلايا المخ، وعادة ما يموت كثير من المرضى نتيجة هذا الخطأ لكن من يظل على قيد الحياة، يصاب بآثار جانبية كثيرة منها صعوبة البلع والتلعثم والصداع المزمن، والتبول اللاإرادي، وبالبحث عن الحالات المصابين بهذا المرض وجدتهم يشبهون أبطال اللوحات جدا، أما اختيار «منتزه» فلأن اللوحات بها أشجار وحدائق ويبدو الناس مستمتعين بالنزهة.


وعلى كل تلك المشاهد العبثية يختتم عمر جبر معرضه بلوحة شديدة الواقعية تجسد نمرا يفترس غزالة فى مشهد تقليدى اعتادته أعينا، يختتم بها عمر جبر معرضه ليقول من خلالها  أن الأمر فى النهاية يعيدنا لفكرة صراع البقاء، التى تتجسد بشكل كبير فى مملكة الحيوانات، والتى ربما نواجهها يوميا فى حياتنا لكننا نتجاهلها ونخبر أنفسنا أن الأمور لابد وأنها على ما يرام .. بينما تفترسنا الحياة فى تلك اللحظة.

اقرأ ايضا | منذ البداية والفنان  الشاب عمر جبر يملك جرأة فى اختياره للموضوعات التى يتناولها وفى صياغتها بصريا