من صولجان الفراعنة إلى «النبوت» و«العوجاية».. ظلال «العصا» في تراثنا الثقافي

الرئيس الراحل أنور السادات كان يحرص على اصطحاب العصا
الرئيس الراحل أنور السادات كان يحرص على اصطحاب العصا

لا تعيشُ المُفردةُ اللفظيةُ في لغتِنا العربيةِ بمعزلٍ عن الحياة، إذ كلما طال استخدامُها مع كرِّ الأيام والدهور أصبحت حُبلى بمعانٍ جديدةٍ ودلالاتٍ طريفةٍ تُكسبها ثقلا ورموزًا وإيحاءاتٍ تُناسب المُستخدم الجديد والعصر الذي يعيش فيه؛ وبقدر ما تكونُ طيعةً لينةً بين يديه يتحدد مدى قدرتها على البقاءِ والخلودِ في مواجهةِ اشتقاقاتٍ أخرى تُنافسها في الاستخدام وتعملُ على سدِّ مكانها إن أصابها الوهنُ في تلبيةِ الحاجاتِ اللسانيةِ لعصرها.


ومن الألفاظ التي استطاعت الصمودَ والمحافظةَ على جانبٍ كبيرٍ من حيويتها وقدرتها على التعبير عن مدلولات الإنسان العربي الذي يلوكها كثيرًا، لفظة (العصا).. حتى أصبحنا نستخدم اللفظة الآن في الإعلام، ونقول: "إن الرئيس الجديد لا يملك عصا سحرية لحل المشاكل"، للتدليل على حجم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهه وقصر ذرعه عن علاجها، وللبحث عن دفاعات مضادة مسبقة لاتهامات منتظرة.. وفي الأدب وجدنا رواية هارى بوتر بأعدادها المُتتابعة تستخدم العصا السحرية للترميز إلى قوة الساحر حيث يُصبح من غيرها بلا حولٍ ولا طولٍ، إذ تُقاس قوته بقوة السحر المنضغط في عصاه؛ وهو مدلولٌ نجده أيضًا في عالم السيرك حين يستخدم الساحر البسيط العصا لصرف أنظار الأطفال عن ألعاب الخفة مدبجًا ذلك بعددٍ من التمتمات التي يستعينُ بها لإثبات قدراته الإمتاعية التي على أساسها يتحدد حجم النقود الموضوعة في طاقية الرأس الطويلة.
نبوت أبويا!
ولأن الطبيعة فرضت على الإنسان الاتكاء على نفسه في تأمين وسائل الدفاع ووسائل الصيد كذلك، فقد كان لزامًا عليه تذليل المُتاح أمامه وتطويعه للاستفادة القصوى منه، فبعد أن عرف أنواع الأشجار ودرجات صلادتها وأيها يصلح للتدفئة وأيها يصلح أعمدة لبيته وسقفا، استقر أيضًا على أنواع متينة خفيفة تصلح سلاحًا باترًا في مواجهة غوائل الدخلاء من الحيوان والإنسان، كما استخدمها في الاعتداء إن كان من ذوي النزعات الآثمة.. وإلى عهدٍ قريبٍ كان الأبناءُ في القرى يتناوشون على مدى أحقية كل منهم في الحصول على "نبوت" الوالد الذي كان يعتني به ويطليه بالزيت كل فترة ليحافظ على صلادته، ويزينه بأنواع من الدبابيس أو يُعمِّمُ رأسه بالقار ويضع حديدة صفراء في نهايته؛ وفي بعض الأحيان إن كانت العصا "سودانية" أصيلة وقد ساعدته في بعض معاركه يضعها مُعلقة في "منظرة" العائلة، افتخارًا بانتصاراته واستعادتها في أذهان المشاهدين؛ وإرهابًا أيضًا لمن يُفكر في معاداته.
"عوجاية" الأدباء
ومصر تحديدًا نالت النصيبَ الأوفر من استخدام العصا، على طول تاريخها، بدءًا من عصا الصولجان عند الفراعين إلى "العوجاية " التي يتكئ عليها كبار السن والمعوقون، أو طلبًا للأناقة الشاعرة كما كان يفعل عملاق الأدب العربي عباس محمود العقاد، أو تلميذه وأستاذي الشاعر الكبير عبد اللطيف عبد الحليم أبوهمَّام- رحمه الله- إضافة إلى رمز الفتونة الذي  نراه جليًّا عند عمنا نجيب محفوظ سواء في "أولاد حارتنا" أو "زقاق المدق" أو"الحرافيش" أو "الشيطان يعظ".. وغيرها، حيث أوجد وصفًا دقيقًا للفتوة، الخيِّر أو الشرير ومدى مهارته في استخدام العصاـ النبوت- إذ يتوقف على ذلك غناه من فقره، بل حياته نفسها مرهونة بهذه المهارة في زمن لم يكن يعترف بغير القوة الجسدية وامتدادها في العصا طريقًا للعيش.. ورأينا أيضًا في رواية "الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوي طرفا من أهمية العصاـ النبوت- وإن كانت هذه المرة في أيدي الفقراء يذودون بها عن أرضهم وأعراضهم دفاعًا لا فتونة.
عبيدُ العصا!
لم يخل الأدب العربي من إدراك لأهمية العصا منذ أن عصى بنو أسد سيدهم حُجرًا آكل المرار والد الشاعر الجاهلي الشهير امرئ القيس، حتى أغار عليهم وقتل منهم عددًا كبيرًا بالعصا إهانة لهم، حتى سُموا عبيد العصا، وقد اعترف شاعر بني أسد عَبيد بن الأبرص بذلك حين قال:
أنت المليكُ عليهم * وهم العبيدُ إلى يوم القيامهْ
وعلى الرُّغم من أن قبيلة بني أسد قتلت حُجرًا بعد ذلك فإن صفة "عبيد العصا" ظلت تُلاحقهم آمادًا بعيدة، حتى إن صديق المتنبي حين حذّره من أن فاتكًا يطلبه مع عصابته تعجَّب منه المُتنبي وأنِف أن يحسب حسابًا لرجلٍ من عبيد العصا، فجاءته المنية من حيث أنِف !
والمُتنبي نفسه هو الذي غضب على كافور الإخشيدي وهجاه بعيديته الشهيرة التي قرن فيها العبد والعصا وكأنهما العلة والمعلول:
لا تشترِ العبدَ إلَّا والعصا معه * إن العبيدَ لأنجاسٌ مناكيدُ
عصا الخطباء
قمينٌ بنا التعريجُ على النثر برهة ليُطالعنا بابٌ كاملٌ في البيان والتبيين للجاحظ عن العصا وأهميتها عند خطباء العرب، بتلك الأهمية التى وصلت إلى أن يقول الخليفة عبد الملك بن مروان إن الخيزرانة لو سقطت منه لذهب شطر كلامه، أو أن يهتر "سحبان وائل" أمام معاوية لأنه لا يملك عصاه التي تدور معه في مجالس الخطابة، وكأنها امتدادٌ للسانه خارج جسده.. إلى أن يتخذ الجاحظ منحى آخر حين يجعل "غنية"، تلك المرأة الفقيرة المُعسرة تمدح ابنها الهزيل الذي يضربه الناس وتحصد هي منهم الديات تقتات عليها إلى أن تصبح "غنية" بالفعل:
أحلفُ بالمروةِ يومًا والصفا * أنك خيرٌ من تفاريق العصا
ومن قبلِ هذا استخدم القرآن الكريم العصا في قصة سيدنا موسى عليه السلام بمدلولاتٍ مختلفةٍ لإثبات القدرة الإلهية والتدليل على رسالة النبي موسى عليه السلام حين أصبحت "العصا" التي يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه معجزةً كبرى، فهي هي العصا نفسها التي تحولت إلى حية تسعى أكلت عصيَّ السحرة فأدركوا أن موسى ليس ساحرًا، ومن ثمَّ آمنوا برسالته وخرُّوا له سُجَّدًا، وهي هي العصا نفسها التي فلقت البحر لموسى وأتباعه المؤمنين وحولته إلى طريقٍ نجَّاهم من الغرق، وبالمقابل هلك فرعون وقومه.. وهي هي التي استخدمها موسى حين عطش وضرب بها الصخر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا.. فكانت أشهر عصا في التاريخ، فقيل: "عصا موسى".
لعبة التحطيب
وبعيدًا عن العصا المكهربة في أيدي قوات الشرطة الآن للسيطرة على المُجرمين، يحفل التراث الشعبي المصري بعددٍ وافرٍ من حكايات العصا من خلال لعبة التحطيب التي لم يكن ليخلو منها فرحٌ في القرى والنجوع المصرية؛العقاد مع العصا.. ومعه صديقه المازني والتي كانت كذلك أهم أدوات المعارك بين الفلاحين.. ولعل أهم شاعر تحدث عن المُفارقة بين الاستخدام المُبهج للعصا من خلال لعبة التحطيب ذات الأصول والقواعد المُتعارفة إذ الانتصار فيها لا يكون إلا بالمواجهة وتكافؤ الخَصْمين، والعصا التي تجيء من الوراء على أم رأس مسجونٍ أعزل لا يملك مندوحة الردِّ بالمثل.. وآه لو كانت معه عصاه.
إنه الشاعر المصرى محمد عفيفي مطر صاحب "هلاوس ليلة الظمأ"، تلك القصيدة التي قالها في سجن طرة 1990 حين سُجن دفاعًا عن رأيه السياسي فتعرض للاعتداء بالعصا من سجانيه، فتذكر أقاربه ومهاراتهم في لعبة التحطيب، مشددًا على تلك الأصول والأعراف التي تشملها هذه اللعبة الشعبية ومُعرِّضًا بالمخنثيْن اللذين يقعيان على باب زنزانته: "هل رجلٌ وضربتُه تجىءُ من الوراء ؟!".. هكذا يتساءل مطر، مقررًا حقيقة السجان ـ المرأةـ الذي نزلت عصاه على رأسه كالصاعقة:
قال المُخنث للمُخنث:
إن هذا الأهبل المجنون يهرف بالكلام 
فعرفت أنهما هما
والجسر بين الصالحية والرشيد
 مُرجِّعٌ للبلغم الدهني في صوتيْهما
قال المخنث للمخنث:
إن نوبة نومي اقتربت،
فأخرس صوته بعصاك
فانفجرت برأسي الصاعقهْ  
ثم يهرب من واقعه المُؤلم ويعيش هناك مع عبد العليم ووالده الذي كانت العصا تدورُ بين يديْه كمغازل الأفلاك، حيث يجتمع الحشدُ مُهللين حتى إذا بدأ اللعب تنكسر العصيُّ على عصاه والذي يطمطم كالجمل من ضراب الرقص في أعضائه؛ ومثنيًا بعمِّه مُعوض، ذلك الرجل الذي هجرته زوجته وفرَّ بنوه في تسعينه الأولى وأفردته العائلة، فأصبحت زوجته الزجاجة والعصا والذكريات مع النساء.
وهكذا تدورُ العصا في تراثنا الأدبي ما بين انتصاب اللسان وإعجاز النبوة؛ إلى رمز للبلطجة والجبروت، بل ورمز لمُواجهة الظلم في بعض الأحيان.. فإلى أيِّ الجانبيْن تميلُ العصا في الأيام المُقبلة؟!