محمد المخزنجي يكتب : غرفة عزل منزلي للوباء القادم

محمد المخزنجي يكتب : غرفه عزل منزلي للوباء القادم
محمد المخزنجي يكتب : غرفه عزل منزلي للوباء القادم

(1)

فى الأسبوع الأخير من يوليو، بعد شهرين من اختفائه الغامض والساحق لقلبها، غادرتها ابنتها والحفيدان الصغيران، لكن الابنة كانت تمر عليها كل يومين أو ثلاثة، منفردة، وتحادثها بالتليفون يوميا. أما الابنان فكانا يتناوبان زيارتها كل بضعة أيام، منفردين أيضا، ويحادثانها هاتفيا بين الزيارات.

فى البداية أحست بالوحشة والخوف، وألح عليها نداء غامض لاستحضار طيف الغائب كى يؤنسها، فنقلت حياتها إلى غرفة مكتبه، تكاد لا تغادرها نهارا،وتبيت فيها ليلا.

تقضى النهار جالسة فى مكانه وراء المكتب، تقرأ ما تتابعه عن الجائحة وتشاهد محطات التلفزيون على شاشة حاسوبه، وتتناول وجباتها الصغيرة فى المكان نفسه.

وما إن يتمادى الليل حتى يضنيها الأرق، تغالبه حتى تشعر بالتعب ويسحبها إلى النوم، فتنتقل إلى الكنبة الصغيرة بالغرفة، تتوسد إحدى خُدَّادياتها وتتغطى بكوفرته خفيفة، تلتم على نفسها فتبدو كفتاة صغيرة نائمة، تتذكر أنه كان يميل عليها بحنان عندما يراها فى هذا الوضع، فيفرد ذراعيه كلتهما حتى يحتويها كلها وهى تحت الغطاء ويقبلها متمنيا لها «أحلى الأحلام»، كانت فى تلك اللحظة تشعر بأنه كل الرجال فى واحد، حبيبها وزوجها وأبوها وصاحبها، فلماذا كانت تقف معه «على الواحدة»؟


 تظل تحت الغطاء تتذكر ملاطفاته وتلوم نفسها، وتحاول التماس بعض العذر لنفسها مستعيدة لحظات عناده واندفاعات «جنونه»، فتفشل فى لومه، وتناديه أن يعود، أن يعود، حتى يغلبها النوم.

تنام تتذكره، وتصحو تتذكره، وتجد نفسها فى كل مرة ترجع إلى تلك البداية المشئومة، فى ذلك الصباح من أوائل يونيو، بعد شهور «الإغلاق» الكئيبة ومع بدء تخفيفها.. وجدته يقفز من السرير إلى جوارها بنشاط شاب متحمس، وكأنه لم يبلغ السبعين، حسبته يمزح وهو يشرح لها دون مقدمات أو تمهيد كيف يجب أن يتغير وضع السرير ليتوسط الغرفة وتكون رأس السرير لصق الجدار، ومن نقطة تنصيف رأس السرير يصعد خط عمودى، ينتهى إلى نقطة فى الجدار تحت السقف بحوالى ثلاثين سنتيمترا، تكون مركز فتحة دائرية بقطر 25 سنتيمترا، تخترق الجدار ويُثبَّت فيها شفاط بسيط طارد للهواء، مثل شفاطات المطبخ، لكن من نوعية حديثة موجود بالفعل ولا تُحِدث ضجيجا، يسحب الهواء المتراكم فى الغرفة ويطرده إلى الخارج من جهة، فيشكل ضغطا سالبا بالغرفة يزيد من جذب الهواء إليها من الجهة المقابلة، وربما يُستحسَن عمل كُوَّة مقابلة للكوة الأولى، بشفاط عكسى يسحب مزيدا من الهواء الخارجى المتجدد، ويدفع به إلى داخل الغرفة سالبة الضغط التى تتلقفه.

 


مندهشة التفتت إليه بكل ملامح الاستغراب من هذه البداية للصباح، ولمحت ذلك البريق فى عينيه عندما تتلبسه فكرة مفاجئة ينوى تنفيذها.

بادرته: «حسين. . قول صباح الخير الأول»، فرد بآلية وسرعة «صباح النور صباح النور»، ثم واصل يشرح كيف أن ما يقوله هو خلاصة بحث استغرق منه أكثر من شهر لتحويل غرفة منزل عادية، بأبسط الإمكانيات، إلى «غرفة ضغط سالب» negative pressure room، يتجدد فيها الهواء بزيادة واستمرار التهوية، فتقل كثافة الميكروبات داخلها عند انتشار الأوبئة ولا تُحقق مستوى الجرعات المعدية، كما يمكن استخدامها كغرفة عزل مصاب بالوباء لحماية مخالطيه. ويُستحسن لو يضاف إلى المنظومة لزيادة فعاليتها فلتر «هِبا» HEPA،»high efficiency particulate air ، فهو بالفعل مرتفع الكفاءة فى التقاط دقائق الهواء، وقد صار متوافرا بتكلفة محتملة، وثبت نجاحه فى التقاط الجُسيمات الدقيقة غير المرغوب فيها، وبدِقة تصل إلى 3.0 ميكرون، وهذا يحتجز كثيرا من الفيروسات، خاصة التاجية مثل «سارس كوف 2» المسبب لجائحة «كوفيد 19 «والذى يُعتبَر فيروسا كبير الحجم نسبيا. 


 كانت بالكاد تبدأ يقظة غائمة، ولم تتناول بعد «فنجان قهوة الصباح» الذى ينعشها ويجعلها تستوعب مايقوله وهو يتكلم بسرعة وشرود، كأنه يحادث نفسه.

فقط فهمت أنه يريد تغيير مكان سريرهما من موضعه الذى ألفته منذ أربعين عاما، منذ أول ليلة ضمتهما فى فراش واحد. وأكثر من ذلك يتكلم عن حفر كوة فوق السرير وبها شفاط مطبخ، بل كوتين وشفاطين، يريد تشويه الغرفة.سألته وهى ترفع رأسها بالكاد لتنهض، وكانت نبرتها تشى بالقهر، مع لمسة استنكار لم تستطع إخفاءها «واشمعنى يعنى الأوضة دى، والبيت فيه تلاته غيرها؟

اعمل اللى انت عايزه فى أوضة مكتبك».
ودون أن يتوقف عن إدارة بصره فى الحيطان والتحديق فى تلك النقطة قرب السقف، أجابها بنبرة ثابتة وكلمات متسارعة: « لأن دى أوضة ماستر بحمام مستقل، يعنى وِحدة متكاملة، مناسبة جدا لتحويلها غرفة عزل منزلى بضغط سالب»، واستطرد يشرح أن هذا سيكون مناسبا جدا لمريض يجد كل احتياجاته فى مكان واحد، دون أن يتنقَّل فى الشقة ويعدى غيره.

أدركت أنه ماض فى «جنونه» إن لم توقفه قبل أن يشرع فى تنفيذ هذا الجنون، مُستعيدةً الذكرى الأليمة لنسف حيطان واجهة الشقة واستبدالها كلها بزجاج شفاف كاشف وفاضح للخصوصية.حينها فى البداية أخذ يتكلم عن تحويل الواجهة إلى «بانوراما زجاجية» تطل على الحديقة التى تتوسط مجموعة عمارات المربع السكنى الذى تقع شقتهما فى الطابق الثانى بإحدى عمائره. كان يردد أن هذه البانوراما ستضعهما عبر شفافية الزجاج فى جزء مبهج من جمال الطبيعة التى صارت نادرة فى مدينة  «أسمنتية أسفلتية ترابية» كالقاهرة. 


 حاولت يومها أن تفرمل اندفاعه بذريعة أن مايريده سيشكل مخالفة بناء تُدخله فى قضية وسجن وأقلها دفع غرامة للمصالحة بالآلاف، فأجابها بأنه درس كل شيء.

وأن السجن مُستبعَد مادام سيحافظ على الأعمدة والمخطط الأساسى للبناء، أما الغرامة فجهَّزها وسيدفعها بكل ارتياح لأن المقابل عظيم، «عظيم جدا للنفس والروح»، ويصحح غباء تصميم واجهات عمياء، أو أقرب إلى العمى، تطل على «حديقة بديعة» بنوافذ ضنينة وشرفات بخيلة، تخنق البصر وتُزهِق الصدر.

وتحرم السكان من فرصة الاستمتاع بجمال هذه الحديقة. عندها، انتقلت إلى حجة أخرى لتبرير رفضها ما ينتويه، قالت له إن هذه «البانوراما» ستفضح أكثر مكان يتواجدان فيه ويستقبلان زوّارهما، ستكشف الريسبشن كله، حيث يوجد الأنتريه حول التليفزيون، والصالون، والسفرة. فأجابها بأن أغصان الأشجار التى صعدت حتى شرفة الطابق الثالث تشكل أمامهم ستارة طبيعية خلابة تجعل كل مافى الريسبشن أجمل وأنضر دون هذا الفضح الذى تتكلم عنه.


خاصمته يومها حتى يرجع عن «جنونه»، لكنها فوجئت به يُحضِر عصر اليوم نفسه مهندسا معماريا يعاين المكان ويضع معه مخطط التنفيذ، تركت له الشقة ولجأت إلى بيت ابنتها. مكثت خمسة أيام حتى قبلت التصالح بضغط من البنت وشقيقيها، ورجعت لتُبهَت بحيطان واجهة الشقة كلها وقد «نُسِفت»، عدا الأعمدة، واستُبدلت بألواح زجاجية داخل أُطر من الألوميتال من السقف حتى الأرضية.عادت من حيث أتت، وكان شعورها بقهره لها يضعها على حافة انفجار كبير.


كانت ابنة أسرة موسِرة محافظة، تربت فى فيلا وسط حديقة كبيرة يحيط بها سور بارتفاع ثلاثة أمتار، وداخله سياج شاهق من أشجار السرو والحور بارتفاع خمسة أمتار، تؤمن أن مسكن الإنسان كثيابه لابد أن يحمى خصوصيته واحتشامه، فلا يسمح بأن ينتهكه متلصص ولو من نافذة بعيدة.

وكان ابن أسرة مستورة تعيش فى بيت بسيط، يتذكر أن باب بيتهم لم يكن ينغلق أبدا فى النهار، مثله مثل كل بيوت الحى من حوله.جادلها بأن ليس لديهم فى شقتهم خصوصية يمكن أن تفضحها الواجهة إن انفتحت، فغرف النوم والمطبخ والحمامان مستورة كلها فى ظهر الشقة، ثم إنهما حتى والواجهة شبه مغلقة لم يعتادا الجلوس فى أى مكان بالريسبشن إلا بثياب لائقة حتى لو كانت بيتية.

وهو ما سيتكرر بعد فتح الواجهة، لكنه سيكون أجمل خاصة فى الشتاء الذى تتسلل أشعة شمسه لطيفة الدفء عبر الزجاج، وفى الصيف سيفتحون الشُرَّاعات المغطاة بالسلك فينساب منها هواء الحديقة النقى الذى تجعله نباتاتها أبرد بخمس درجات من الحرارة داخل الشقق!


ولم يستَمِلْها هذا كله، طال لجوؤها الثانى إلى بيت ابنتها،وتكاثف الجفاء بينها وبينه إلى حد الخطر، لولا تقديم البنت والابنين حلّاً وسطاً يُبقى على ماتم تنفيذه وصار عسيرا تغييره، لكنه يُبطِل أثره الذى يزعجها فى الوقت نفسه: هدية من ستارة شاملة جميلة أنيقة،تغطى كل تلك البانوراما متى أرادت، فتحجب الريسبشن كله عن أى مسترق للنظر من قريب أو بعيد.قَبِلت وهى لاتزال تشعر بالقهر، لكنه لم يتركها تعانى هذا القهر طويلا، مكث يدللها حتى رضيت، وضحكت.


 لكنها بعد ذلك الصباح المشئوم من أوائل يونيو كورونا، لم تقبل ولم ترض، ووجدت الغضب يتصاعد داخلها حتى يوشك على الانفجار. قالت له فى تحدٍ ألا ينسى أن غرفة نومهما التى يريد أن يشوهها ليست له وحده ليتصرف فيها كيفما يشاء، فهى غرفتها أيضا، فأجابها بأن هناك ضرورات تقتضى التنازل، وأنها بهذا التغيير ليست وحدها من يتنازل.

هو أيضا تُمثِّل له هذه الغرفة جزءا عزيزا من عمره، من عمرهما معا. لانت مع لمعة دمع لاحت فى عينيها وهى تقول له بهدوء إنه هو من أخبرها فى الشتاء بأن «الكورونا» ستبدأ فى الانحسار مع دفء الربيع، ويُرجَّح أن تختفى فى ذروة حر الصيف، وكل ما سيكون مطلوبا لمجرد الحرص والاحتياط إجراءات وقائية كالتباعد وارتداء الكمامات فى الأماكن المزدحمة وغسل الأيادى. كررت أنه هو من أخبرها بكل ذلك، فلماذا يفكر فى وجود غرفة عزل منزلى الآن؟
 أجابها حانيا وهو ينظر فى عينيها المترقرقتين، بأنه كان يقول ذلك ليس بصوت حدسه ومعرفته وقناعاته، بل بتوهمات البشر فى انتصارهم المظفر على ذلك الفيروس، لكنه عندما رجع إلى مصادر علم الفيروسات والأوبئة الأكثر نزاهة وعراقة.

والأبعد عن التلاعب السياسى والاقتصادى، ثاب إلى الحقائق الأعمق، وأيقن أن مسار الجائحة هذه المرة، وهى ثالث أوبئة ذلك النوع من فيروسات كورونا التى تتعاقب بتقارب زمنى غير مسبوق، حتى صارت تُنعت بأنها «الفيروسات حديثة الظهور»، لن تنقشع بسهولة، ولا عن قريب.

بل حتى مع انقشاعها لن تكون آخر الأوبئة التى يتوقعها العِلم الجاد والحكيم. ثم إنه وهى مثله، يوغلان فى العمر الذى يضعهما فى بؤرة الاستهداف بالعدوى ومضاعفاتها، وأن العزل المنزلى سيكون أقرب وأيسر وأرحم من أى مستشفى للعزل، سواء من وباء كورونا المستجد الذى لم ينقشع بعد، أو ما سيليه من أوبئة مُتوقَّعة.

 


وأخذتها إشارته إلى مسألة «العمر» التى تفزعها، فردت عليه بنبرة تشى بالتهكم تسأله إذا ما كان أستاذا فى كلية الآداب أم أستاذا فى كلية الطب. فرد عليها وقد استفزته نبرة تهكمها، ضاغطا على كل كلمة بأنه «أستاذ.. أنثروبولوجيا.. طبية»، مضيفا بتحد يكاد يكون ثأريا وممرورا، إنه ولكى يصير خبيرا دوليا فى هذا التخصص داخل التخصص، وبعد بكالوريوس علم النفس والاجتماع ودكتوراه الأنثروبولوجيا، درس بكلية الطب كورسات مكثفة فى العلوم الطبية الأساسية، الفسيولوجيا والتشريح والباثولوجيا والميكروبيولوجيا، وقضى فى معهد باستير للوبائيات سنة كاملة، بعدها أعد رسالة الدكتوراة الثانية فى «الأنثروبولوجيا الطبية» وكانت فى مجال «البعد الأنثرولولوجى للأوبئة» وحصل عليها بامتياز.

وكان من أصغر الحاصلين عليها سنا فى العالم. وسكت. 
سكت على غيظ، فسكتت على حيرة. ثم استأنف بأسى أن كورونا لن يكون آخر الأوبئة أو الجوائح، وأقربها هو الوباء xأو «الحدث الكبير القادم» الذى تذكره كتب الفيروسات دائما ويحذر منه علماء الوبائيات فى كل مؤتمراتهم التى شارك فى بعضها، وكانت هى بصحبته فى عدد منها، وتعرف مدى الجهد والجدية التى كان يشارك بها فى هذه المؤتمرات. سكت فى وجوم، فانسدل بينهما ستار فاصل، معتم، سميك، وإن يكن غير مرئي.


(2)

على الغداء امتد بينهما صمت موحش. كانت قد انزوت فى المطبخ تعد ما قدمته على السفرة بهدوء حزين، وراح ينظر إليها فتستدعى ذاكرته صورة البنت التى أحبها يوم كان مدرسا فى قسم علم النفس والاجتماع.

وكانت طالبة فى السنة الثالثة بقسم اللغة الإنجليزية، تُعَدُّ إحدى أجمل جميلات كلية الآداب بكل أقسامها، بل الجامعة كلها، وأكثرهن هدوءاً وأناقة محتشمة. أربعون سنة مرت أخذت منها الكثير، لكنها ظلت صبوحة الوجه ورقيقة القوام كما هى «منيونة حلوة» كما كان يصفها لأصحابه قبل الارتباط بها. وانتبه إلى أنها أعدت للغداء طبق المسقعة مع الفلفل الملون الذى يحبه مع أرز بالشعرية وسلطة خضار مشكل متبلة بالمستردة وقليل من صوص الشيلى الحار. وجبته المفضلة. كان هذا يعنى أن الغيمة المعلقة بينهما منذ الصباح لم تستطع حجب حرصها على إسعاده.

ووجد عينيه تنظران إلى يديها، اللتين لم تستطع السنوات الأربعون تشويه نضارتهما وجمالهما الانسيابى الرقيق. رفع وجهه إليها هاتفا «عاشت الأيادى الحلوة» التى أعدت الأكلة التى لم يتذوق أطيب منها فى أربعة أرجاء الدنيا التى طاف بها. فابتسمت تمازحه بأنه ربما يقارن ذلك بطعام البدائيين ساكنى غابات الأمازون وصحراوات البوشمان وجبال الإنديز! فانفجر يضحك.

 

وهى تضحك معه، لكنه لملم صخب ضحكته وبدا موشكا على حديث مهم، أجله متمتماً «بعدين. بعدين. مع شاى العصارى»، تلك الساعة التى يتشاركان فيها احتساء الشاى أمام التلفزيون بعد القيلولة التى اعتادها هو،واعتادت هى أن تكون «الملاك الحارس لنومه» خلالها، إذ لم تكن تنام فى النهار.


كان ما إن يستيقظ من قيلولته ويغتسل، يطل عليها وهى أمام التلفزيون تشاهد فيلما من الأفلام العالمية التى أصبحت خبيرة فى العثور عليها بين عشرات القنوات، يبادرها مبتسما منتعشا «شاي؟»، فتجيبه هازة رأسها بتدلل «طبـ عا». يعد هو الشاى الذى يحبه وصارت تحبه معه فى «أكواب بلورية» صافية.

وتُحضِر هى البسكويت الذى يحبانه معا، وما إن يضع صينية الشاى بينهما على ترابيزة الأنتريه الخفيضة، حتى تُحوِّل ما كانت تشاهده إلى قناة إخبارية، لأنه يكون راغبا فى معرفة ماحدث فى العالم «من ورا ضهري وأنا نايم»، كان دائم المرح مع «شاى العصاري»، لكنه فى ذلك اليوم لم يكن مرحا، ولم يكن غاضبا، بادأها بالقول «على فكرة» ثم استرسل يقول لها إن هؤلاء «البدائيين»، تحديدا، هم من يجعلونه متأكدا أن جائحة كورونا لن تتلاشى سريعا، وأن قدوم وباء عالمى جديد، وفيروسى على وجه الخصوص، قريب أقرب من المتصور.

ولن يكون هؤلاء البدائيين هم ناقليه، بل الاحتمال الأقرب أن تحميهم عزلتهم. وسكت محركا يديه كمن يبحث عن شيء هائم بقربه يحاول الإمساك به، وكانت هى صامتة تنتظره.


 قطع الصمت قائلا إن هذه البكارة المعزولة ستحميهم من جوائح العالم «المتمدين» حتى يخترق «المتمدينون» بكارتهم، لغاية القنص أو النهب أو حتى الفُرجة، فهؤلاء «البدائيون» نادرا ما تقتلهم الأوبئة أو الأمراض المزمنة، بل يرحلون خِفافا وبسرعة، بالطريقة نفسها التى ترحل بها كائنات عالمهم الفطرى، محيطهم الحيوى الذى يضمهم جميعا فى توازن دقيق يضمن استدامته.

فبرغم أنهم صيادون وجامعو ثمار مهرة، إلا أنهم لا يصطادون أكثر مما يسد رمقهم، فليست هناك ثلاجات أو فريزرات تضمن لهم حفظ أكثر مما يحتاجونه، وبالمثل لا يجمعون من الثمار البرية إلا القليل الكافي. أقوات بسيطة طازجة تؤكل نيئة أو مشوية، وموائل تسودها القناعة فلا تتراكم نفاياتها أكثر من قدرة الطبيعية على تدويرها، بيئة تنظف نفسها بنفسها، وأولا بأول، فتتجدد.

هكذا استطاعوا أن يعيشوا على سجيتهم الأولى لعشرات القرون. خمسون ألف سنة عمر بقاء قبائل البوشمان فى صحراء كاليهارى ولا يزالون على سجية أسلافهم، وإن كانت «المدنية» الأنانية والمغرورة تصر على انتزاعهم من هذه البيئة بزعم تمدينهم وتحضيرهم، بينما الحقيقة هى الطمع فى نهب كنوز المواد الخام، خاصة اليورانيوم لمفاعلات المقامرة وقنابل الفناء.

يريدون اقتلاعهم من بيئة حافظوا على براءتها وسلامتها لآلاف السنين، ليلقوا بهم فى معازل «فرجة سياحية» تدر على مستثمريها الملايين، وتمنحهم الفُتات وموات الروح.


كانت تصغى إليه بإرهاف فى ذلك العصر من ذلك اليوم المشئوم من أواخر يونيو، تصغى برصيد الطمأنينة والفرح اللذين طالما غمراهما مع «شاى العصاري»، وكان فى استرساله لا يخوض مبارزة بل يُسرِّ إليها ما بنفسه، وما يحب أن تبادله الشغف به، فكانت تسمع ملتفتة إليه بكيانها كله. سألها إذا كانت تعرف أن البوشمان لا يعانون من تصلب الشرايين ولا مرض السكر ولا السرطان.

وأن مناعتهم الطبيعية أفضل ألف مرة من ساكنى المدن الحديثة، وهم رشيقون رشاقة لا تترهل، لا تسحقهم الأمراض المُستعصية ولا يعذبهم الاحتضار الطويل المرير، شأن «المتقدمين المتحضرين» فى غرف الإنعاش والعناية الحرجة، باذخة التقنيات ومتوحشة التكاليف.

كان قد عبَّر لها عن ذلك من قبل، وأكثر من مرة، وكانت تعرف أنه يمكن أن يسترسل طويلا فى ذلك، فابتسمت وهى تقول له بود وغمز عن هذه القبائل البدائية التى تفتنه:» وبشرة بناتهم أصفى وأنعم بشرة فى العالم من غير كريمات ولا ماساجات ولا غيره».

ألجمته مبتسما وهى تُذكِّره بفلتة لسان قالها مرة وهو يحكى لها عن رحلته البحثية وهو شاب إلى صحراء كاليهارى حيث عاش لستة أشهر مع آخر قبائل البوشمان هناك. سكت مرتبكا.

وكان سكوته وارتباكه يعززان لديها الشك فى أنه أحب قبلها بنتا من بنات هذه القبائل، وربما تزوجها. ووجدت نفسها دون أن تُعدّ لذلك أو تريده، «ينفلت كلامها» فتجابهه بخفوت، طالبة منه ألا يغير أى شىء فى غرفة نومهما، فتغيرت ملامحه.


(3)

كانا يتشاجران وسرعان ما يتصالحان، ويعقب تصالحهما ألوان من الحميمية والود كأنهما يعودان إلى أيام حبهما الأولى، وكانت شجاراتهما تشتعل حول خلافات تبدو بسيطة، لم يرها هو كذلك، ولا هى، مرة عندما اشترى حقيبة ظهر كالتى يحملها الشباب وأراد أن يتنقل بها لأنه جربها واكتشف أنها أفضل وأريح للحمل، وتترك ذراعيه حُرَّين فى الوقت نفسه، فيصير ولعه بالمشى أمتع وأنفع. ارتعبت من ذلك وظلت تردد على سمعه أنه أستاذ جامعة كبير ولا يصح أن يبدو كالصغار، فأراها صورا لكبار ومسنين يحملونها فى الخارج، فردت عليه بأنهما لايعيشان فى الخارج، ولما أصر على استخدام هذه الحقيبة، أقسمت ألا تكون بصحبته وهو يحملها على ظهره.

ومرة أخرى، أراد أن يخرج فى الصيف الحار ببنطلون قصير وتيشيرت خفيف وحذاء رياضى، فكررت احتجاجها، ولما أصر، أصرت أيضا ألا تظهر معه وهو بهذا «المنظر». أما عندما فاجأها بشراء دراجة ليقضى بها ما أسماه «المشاوير الصغيرة فى الحي»، تعجبت ولم تعلق، وعندما سُرقت الدراجة التى كان يركنها تحت السلم بمدخل العمارة، ظلت تضحك، فخاصمها حتى صالحته فى اليوم التالى.

 

وصارت «حكاية» الدراجة مما يضحكهما معا، لكن الضحك بدا أبعد ما يكون عنهما هذه المرة.
كان مخطوفا بتصميمه لغرفة عزل للوباء القادم، ولا ينتبه إلى ماعداه.مرت دقائق من الصمت المتوتر الذى جثم ثقيلا بينهما عصر ذلك اليوم من أوائل يونيو، وبدلا من الاقتراب منها والتودد إليها ومداعبتها، كما كان يفعل عندما يريد إقناعها بما ترفضه، قفز بحيوية مُستغرَبة دبت فى كيانه السبعينى، و بسرعة خاطفة أحضر من غرفة مكتبه ورقة بيضاء كبيرة بمقاس A3، بسطها على ترابيزة الأنتريه المنخفضة بينهما، وراح يرسم فيها «مخطط تحويل غرفة عادية إلى غرفة ضغط سالب». التزمت الصمت ساهمة حزينة. وعندما انتبه إلى صمتها والتفت إليها، التفتت إليه بوجهٍ لائم، وصارحته:لن تقبل أبدا بتشويه غرفتها، ثم انطلقت غاضبة إلى هذه الغرفة. 

(4)

عادة ماكان يتركها فى مثل هذه الحالة تدخل غرفة نومهما وتنفرد بنفسها لبعض الوقت حتى «تَروق» ويتحول حزنها الممزوج بالضيق إلى شجن وديع، يعرفه من سماع صوت خطواتها الهادئة وحركتها الهامسة فى الغرفة، فيدخل ويطوق كتفيها مداعبا، تنظر إليه بعتاب متسامح أو حتى تبكى دامعة فى صمت، ثم توليه بسمة عتاب تجعله يعتذر عما تشاجرا بشأنه، أو تبادره هى بالاعتذار، لكنه هذه المرة لم يكرر ذلك، مضى إلى غرفة مكتبه وقد استبد به يقين أن البشرية تنزلق إلى عصر يموج بالأوبئة، بسبب العبث البشرى الفظ بتواشج وتكامل شبكة الحياة.

وأن لا سبيل إلى مواجهة هذه الأوبئة والجوائح التى وضح أنها ستتلاحق طالما استمر غلاة البشرية فى انتهاك البيئات الفطرية بأطماعهم التوسُّعية والتربُّحية، ولن يبقى لعموم البشر إلا التعايش مع هذه الأوبئة وقائيا، وتخفيف جرعتها المعدية بزيادة كفاءة التهوية عن طريق الضغط السلبى، ليس فى غرف عزل وفقط، بل فى كل الأبنية المغلقة، المقاهى، المولات، المسارح، قاعات السينما، قاعات المحاضرات.

وفصول المدارس. انقلاب كامل على جدوى أجهزة التكييف والتكييف المركزى المعتادة فى زمن الأوبئة الماثل بعناد، والقادم باجتياح، فهذه التكيفات لا تجدد الهواء فى الأماكن المغلقة بل تدوِّره، وتدير معه توزيع الميكروبات خاصة الفيروسات على جميع من تضمهم هذه الأماكن. عالم مختلف التهوية لابد أن يولد. 


خسائر ضخمة سيسببها تغيير القديم المعتاد، ونفقات ليست هينة سيكبدها اللجوء لمواجهة ما يستجد، وهو، وراء مكتبه راح يدون باستغراق كامل تفاصيل مخططه لتحقيق نموذجه الخاص، غرف عزل منزلية سالبة الضغط للحصول على تهوية فعالة غير مكلفة. وكان بكل ذلك منفعلا محموما، ينساب ما يُفكِّر فيه مباشرة من دماغه إلى أطراف أصابعه فأزرار الكمبيوتر، يجرى سطورا على الشاشة أمامه فيلاحقه بالمزيد. وكان يترك مساحات بيضاء للرسوم الإيضاحية فضَّل أن يرسمها باليد بعد اكتمال طباعة ما كتبه، ثم برم الأوراق التى تضمنت ذلك كله فى لفة رفعها عاليا بتهلُّل..بتهلُّل صامت!

(5)

استدار مواجها باب غرفة المكتب، وقُبيل أن يخرج تمطى ودار حول نفسه مفككا تيبس عدة ساعات من العكوف على مايُدوِّن ويطبع ويرسم. وفى متعة التمطى لمعت فى خاطره لمسة حنان جعلته يلوم نفسه لترك زوجته كل هذا الوقت فى غرفتهما مطوية على نفسها وحزينة، فأسرع إليها باشاًّ يسترضيها ويعرض عليها أوراقه حتى يتيسر لها فهم مشروعه والموافقة عليه.

كان نشطا منشرحا كأنه لم يغضبها ولم يتركها غاضبة لأكثر من أربع ساعات، فرشقته بنظرة كان فيها من الأسف والاستنكار أكثر مما فيها من العتاب. وفى محاولة لمعابثتها حتى تبتسم، لم تبتسم. أربعون سنة من زواج حميم كانت تكفيها للتنبؤ بما ينتويه من مجرد لمحة، وقد لمحت لفة الأوراق التى يشهرها بيمينه فبادرته سائلة بصوت هادئ ومكبوت إن كان لايزال مُصِرَّا على «تخريب» هذه الغرفة؟ فتغير مزاجه وهو يفلت الإجابة «تخريب؟ طبعا مُصِر». ردت عليه بما يشبه الكراهية إنه لو نفذ ذلك ستترك له البيت.

ووجد صدره يضيق دفعة واحدة ورأسه يغلى، فأطلق رصاصة الرد: إنه هو من سيترك البيت! وبسرعة حلول الكوارث طوَّح بلفة الأوراق فى يده، وانطلق يخرج كما سهم مُشتعل.

 


تناثرت لفة الأوراق فى الهواء وهبطت عليها كغيوم مربكة فتعثرت فيها وهى تحاول اللحاق به لا تعرف لماذا تلحق به، لكنها لم تكد تصل إلى باب الغرفة حتى سمعت دوى باب الشقة ينصفق بعنف.فتحت باب الشقة فلم تجده، كان الأسانسير يهبط به.

هرولت إلى الواجهة وأزاحت طرفى جناحى الستارة لتطل عليه وتناديه وتدق على الزجاج ليلتفت إليها ويرجع. لكن ظلمة أول المساء وهامات شجر ونخيل حديقة المربع السكنى كانت تخفى ما تحاول متابعته. وعندما استدارت هامدةً مُحبَطَةً لمحت ساعة الحائط فى ركن التلفزيون تعلن الثامنة وعشر دقائق.

(6)

 لقد اعتادته عندما يخرج غاضبا، أن يغيب ساعة ساعتين، ثلاثا، لكنه فى النهاية يعود، وتكون مقاومتها قد ذابت تماما، تراه فى غيابه كأنه شرط من شروط حياتها، تفتقده، ليس مجرد افتقاد زوجة لزوجها، عِشرة أربعين سنة من العمر الحلو فى معظمه، بل افتقاد أم لابنها العصبى العنيد والعطوف مع ذلك، وأكثر، افتقاد بنت لأبيها حاد الطبع والحنون فى الوقت نفسه.

تظل وهى تنتظره تتذكر صفاته الطيبة وعنايته بها. تحس أنها بغير وجوده ضائعة والحياة من حولها مخيفة. تنسى عصبيته وتلوم نفسها على عنادها فى التمسك بأشياء يمكن التنازل عنها. تعرف أنه سيعود، سيشفق على وحدتها وتحملها مخاوف غيابه حتى يعود، تعرف أنه سيعود ليس لأنه يريد أن يئوب إلى بيته فقط، بل لأنه يفتقد وجودها معه، هكذا أخبرها بعد تصالحهما فى أعقاب «زعلة وخصام» بينهما، وهى تصدقه.

تظل تنتظره مبددةً الوقت الثقيل بتقليب محطات التلفزيون باحثة عن فيلم يشدها بعيدا عن قلقها عليه. وكثيرا ما كان يغلبها النوم فتغفو جالسة أو نائمة. تلتم على نفسها على كنبة الأنتريه أمام التلفزيون الذى تتركه مفتوحا. وعندما يأتى ويُرجِّح أنها نامت، يفتح الباب برفق ويغلقه برفق، ويراها نائمة ملتمة على نفسها كما توقع فيذوب حنانا عليها.

يوقظها بتقبيل خدها أو جبينها فتفتح عينيها باشة برجوعه. يساعدها على النهوض ويخطو بها وهى فى ثمالة النوم لتغفو فى سريرهما ثم يشد عليها الغطاء فتتظاهر بالنوم بينما تكون يَقِظة بكل حناياها.

فَرِحة بعودته إليها. ومستريحة لذوبان الخصام دفعة واحدة، ودون حاجة لِذرَّة من عتاب. وهذه المرة، وعلى كنبة الأنتريه أمام التلفزيون قاومت النوم فهزمها، وكانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل.


لم يأت وهى نائمة، لم يفتح الباب ويغلقه بهدوء، ولم يتساحب إليها بلا صوت ويفاجئها بقبلة على خدها أو جبينها ليوقظها. بل أيقظها نور الشروق المرعب الذى داهم الريسبشن الذى فتحت ستارته على وسعها، وانتشر النور المفزع فى الشقة كلها. طردت بقايا النعاس من عينيها ونهضت مرتبكة مسرعة تنادى «حسين. حسين. يا حسين»،

وابتلع الصمت صوتها الملهوف، فهرعت تهرول بين الغرف الأربع لعله يكون أتى وفضًّل النوم فى غرفة منها لأنه غاضب لايزال. وبرغم أنها لم تجده فى أى مكان بالشقة إلا أنها ظلت تنادى وإن بخفوت وذعر «يا حسين. يا حسين». مكثت لدقائق تدور فى الشقة وهى تناديه، دقائق أنهكتها كما لم ينهكها جهد من قبل. وارتمت على أقرب فوتيه فى ذروة إجهادها وهى فى ضباب، تمرق برأسها عشرات الأفكار فى لحظة واحدة، أن يكون ذهب إلى بيت ابنتهما أو بيت واحد من الابنين ليبيت هناك، «يستحيل» فهى تعرف غلو كبريائه وعزة نفسه.

أن يكون قصد فندقا قريبا وقضى الليلة فيه؟ لم يفعل ذلك أبدا من قبل. ولم يتبق إلا احتمال أن يكون سافر إلى دمنهور وقضى الليلة فى بيت أهله القديم الذى أصر على الاحتفاظ به من ذكرى أبويه وحنانهما عليه وتدليله كابن وحيد، مثلها، ابنة وحيدة؟ رجَّحت ذلك، فقد فعلها مرتين فى زعلتين خلال سنوات زواجهما الأربعين، وكان ينتظر حتى تطلبه هى.

وكانت تطلبه، فيتصالحان على الهاتف، ويعود إليها بعد ساعات قليلة وكأنه أمضى الليلة على جمر الاشتياق إليها.
ارتاحت للاحتمال الأخير، وقررت أن تطلبه، لكن هل تتماسك ولا تترك صوتها يضعف وهى تطلبه، أم تترك نفسها على طبيعتها واثقة أنه سيقدر ضعفها إن ضعفت؟

أحضرت هاتفها وفتحته فظهرت صورته بين صور ابنيهما والابنة وأحفادها الخمسة. هؤلاء هم كل من لها فى الدنيا. لكنه يظل أقربهم. تأملت صورته على الهاتف، فقبض قلبها خاطر أرعش أصابع يدها بينما طرف سبابتها يقترب للمس صورته، رنين رنين نين، رنين طال كثيرا فجعل قلبها يخفق وأنفاسها تتلاحق، ثم سكت الرنين وحل الصمت، صمت طويل ثقيل، فكررت طلبه وانفتح الخط لتناديه ملهوفة برغم أنه لايرد: «حسين. ياحسين». لعله غاضب منها هذه المرة أكثر من أى مرة مضت، فكَّرت.

ووجدت نفسها تضعف وتتضاءل فراحت تناديه باسم تدليله الذى كانت تحبه ويحبه منها فى أولى سنوات زواجهما:«حسونة. حسونة»، وإذا بضحكة صوت خشن قبيح تصعقها، ثم انطلق الصوت القبيح نفسه يغنى برقاعة «حسووووونه ماتحن عَليَّه. حسوووونة أنا زيك غاوية»، وصرخت فى الهاتف مرعوبة تسأل: من يتكلم؟ من يتكلم؟ وانغلق الخط، فكاد يُغشى عليها.


 كان الصوت القبيح نذير شر وشؤم، وقاومت هواجس تشاؤمها حتى لا تتجسَّد. ثم لم تستطع الصبر على هذا النذير فكررت طلب النمرة مُحتمِلةً أن تكون أخطأت، ضغطت طرف سبابتها بعصبية على الصورة، صمت. كررت المحاولة، وتكرر الصمت. دارت بها الدنيا وهى تطلب ابنتها، لا تعرف لماذا ابتدأت بها، ربما لأنها ستتعاطف مع ضعفها وتساعدها دون أن يعرف الولدان أن والدهما لم يبت فى منزله بعد خلاف مع أمهما. أكدت على ابنتها أنه «خلاف صغير» ولم تزد. وهجست البنت من ارتعاش صوت أمها أن هناك خطباً ما، لكنها بُهتت من أن يكون أبوها قد ترك البيت وأمضى الليلة غائبا، ثم، من هذا الذى رد على مكالمة الأم بدلا من أبيها. ولم تمر ساعة حتى انقلبت الدنيا وتحول ريسبشن الشقة إلى غرفة عمليات للبحث عن الغائب.

(7)

هلع البنت على والدها دفعها للاستنجاد بشقيقيها وزوجها ليكونا معها فيما تخافه، بل أخذت إجازة من الجامعة التى تعمل بها مُدرِّسة فى قسم اللغة الإنجليزية لتنضم إلى أمها بصحبة طفليها، ولم يكن انضمامها للأم لمجرد الدعم والايناس، فقد حوَّلت غرفة والدها الغائب ومعها أمها إلى مركز اتصالات محلية ودولية لاستنفار الدنيا بحثا عن أبيها.

جهاز الأمن وبتعقب مسار الهاتف قبض على سمكرى سيارات فى التوفيقية أنكر علاقته بصاحب الهاتف الذى اشتراه من سوق المستعمل فى شارع عبدالعزيز، ولم يسفر «الضغط» عليه أكثر مما اعترف به.

مزيد من التعقب أتى بسائق توكتوك فى منطقة «المطبعة» بالهرم زعم أنه عثر على الهاتف فى أحد أزقة المنطقة وباعه فى شارع عبد العزيز. وثبت عدم سفر الدكتور حسين إلى بلدته فى دمنهور. راجعت الأجهزة قوائم نزلاء كل فنادق القاهرة من ذوات النجوم الخمس حتى النجمة الواحدة واللانجوم.

وأكدت المراجعة أن المختفى لم يبت فى أى منها. شمل البحث جثامين من لم يُستدل على شخصيتهم فى كل مشارح الدولة، أو بين الغرقى المجهولين الذين طفت جثثهم على مياه النيل والترع. انتهى دور وزارة الداخلية، واعتُبر الدكتور حسين سيف الدين أستاذ الأنثروبولوجى بجامعة القاهرة مفقودا، «حتى ظهور معلومات أخرى». وبدأ دور وزارة الخارجية.


 من البوح بالأسرار التى تتبادلها الأمهات مع بناتهن اللائى صرن زوجات وأمهات بدورهن، عرفت الابنة أن والدها فى الخلافات الصغيرة مع أمهما، كثيرا ماكان يلوِّح بأنه يمكن أن يختفى من حياتها ومن مصر كلها ومن كل هذا العالم.

ويذهب ليعيش بصفاء مع قبائل البوشمان فى صحراء كاليهاري الذين عاش بينهم فترة ظل يصفها بأنها «من أجمل وأصفى أيام عمره».عندها وجَّه جهاز اتصالات الابنة دفة البحث إلى وزارة الطيران ووزارة الخارجية. روجعت رحلات الطيران إلى بلدان إفريقيا جنوب الصحراء كلها مع التركيز على ناميبيا ولم تسفر المراجعة عن أنه سافر إلى هناك.

واهتمت سفارة مصر فى العاصمة الناميبية «وايندهوك» بشأن الغائب الذى كان على علاقة طيبة لم تنقطع بجامعتها، وباللجنة الناميبية الوطنية لبحث أحوال قبائل البوشمان التى ظل واحدا من منتسبيها الدوليين، ولم يثبت دخوله إلى ناميبيا، لا عبر البر أو البحر. بل وسَّعت الخارجية من دائرة بحثها فى كل البلدان المحيطة بصحراء كاليهارى، زامبيا وزيمبابوى وبوتسوانا، لعله يكون قد انتقل إلى تلك الصحراء عبر واحدة منها.

ولم يثبت ذلك. مضى شهران وتبدد أمل الابنة والأم فى العثور على أبيها حيا أو ميتا فى مصر أو خارجها، وكانت إجازتها من الجامعة تجاوزت أقصى حدودها التى تسامحت فيها الجامعة كثيرا، ليس فقط تقديرا لشدة وطأة هذا الغياب الغامض والمر على ابنة بارة، ولكن أيضا لمكانة والدها الذى كان أحد أعلام هذه الجامعة ذوى السمعة العالمية، وكان رئيس الجامعة نفسه معيدا فى قسم علم النفس والاجتماع الذى رأسه والدها لعقد كامل قبل تقاعده. 

(8)

طوال شهور الصيف التى شهدت إعادة «فتح» الحياة والتفاؤل بتراجع الجائحة، وحتى بوادر الخريف، لم تغادر شقتها، بل لم تغادر غرفة مكتب زوجها الغائب. ظلت تحاول البحث عن طرف خيط مجهول لا تعرفه يمكن أن يوصلها إلى مكان اختفائه.

وكانت تبعد عن خاطرها لحد الصراخ وحدها «لا لا لا» احتمال أن يكون قُتل أثناء مقاومته لصوصا حاولوا سرقته فى تلك الليلة، أو داهمته نوبة قلبية برغم أنه لم يشكُ من قلبه، أو.. ما لا تعرف.

وتكره أن تعرف. فهو لديها حى، وسيظل حيا حتى يظهر له أثر. وفى مستقر حياتها الجديد، قرأت من مكتبته ما لم تقرأه من قبل، وتأملت طويلا أرشيف صور مهماته فى أصقاع الدنيا المجهولة وبين بشر يعيشون كما ظَلَّ أجدادهم يعيشون لآلاف السنين.

هؤلاء الذين فتنوه وصاروا يفتنونها وهى تشاهد صوره معهم. وفى تلك الرحلة اليومية معه، على مكتبه وفى مكتبته وبين دفاتره وأرشيف أعماله، طاف بها طائف أن يكون زوجها قد عاد إلى بيئة من تلك البيئات التى لم يكُفّ عن التغنى بها والافتتان بالبشر الذين يعيشون فيها، عيشة طليقة خفيفة، طلاقة وخفة الطيور التى تستوطن هذه البيئة، تُحلِّق فى سماواتها التى كان يصفها بأنها «أصفى وأقرب سماوات الدنيا».

هل يكون قد عاد بطريقة غامضة ما إلى إحدى هذه البيئات وتزوج واحدة من بناتها وتناسى كل ما له خارجها؟ شعرت بأن غيرتها «الحمقاء» أنستها افتقاد أى منطق فى هذا الاحتمال، فقد كبر زوجها مثلما كبرت، صار فى الحادية والسبعين وهى فى الخامسة والستين. لكنها لم تعد تراه فى غيبته إلا شابا، وترى نفسها شابة معه.


 تتذكر كيف تعرفت عليه. كانت فى السنة الثالثة بقسم اللغة الإنجليزية وكان هو مدرسا شابا بقسم علم النفس والاجتماع متخصصا فى الانثروبولجي. كان نجما لامعا نتيجة اختياره لمهمات بحث دولية فى أماكن قصية وغريبة من العالم تعيش بها القبائل البدائية. غابات الأمازون. سهول التوندرا قرب القطب المتجمد الشمالي. إقليم السافانا فى الجنوب الأفريقي.

الغابات المدارية فى أقاصى آسيا. الصحراء الكبرى الإفريقية. وإفريقيا جنوب هذه الصحراء. تتذكرها كلها فقد كانت تواظب على حضور الندوات المفتوحة التى يُدعى للتحدث فيها بعد عودته من كل مهمة دولية شارك فيها.

كان أحد ألمع نجوم الجامعة، تكتب عنه الصحافة وتستضيفه برامج التلفزيون، وتجتذب ندواته المصحوبة بعروض الفيديوهات والصور الميدانية ما يزدحم به المدرج الكبير بين جلوس ووقوف. وكانت تحرص على الذهاب مبكرا لتحجز مكانا يُمكِّنها من الإصغاء إلى كلماته عن ذلك العالم الغريب الساحر الذى كان يفتنه وينقل الافتتان به إلى حضور ندواته.


كان جذابا أكثر من كونه وسيما ولعلها لذلك انشدت إليه. خاصة عندما أحست، أو توهمت، بعد عدة مرات من حضورها ندواته أنه يتعمد الالتفات نحوها وكأنه يوجه حديثه إليها، إليها وحدها. ولم تستطع الهروب من نظرات عينيه الذكيتين اللامعتين، ثم، ودفعة واحدة، اختطفها جنونه عندما لحق بها فى حديقة الجامعة وهى تمضى منفردة، استوقفها وخلال خمس دقائق صرعها بأنه يريد أن تكون زوجة عمره، فى أقرب وقت، وأنها لن تكون إلا له، ولن يكون إلا لها! وقررت هى لحظتها ودون تفكير، أنها لن تكون إلا له.

ولن يكون إلا لها، وبأسرع مايمكن! كيف؟ لاتعرف، لكنها كانت تدرك أنها ستمضى فى هذا المدى مهما كلفها «القتال»، وتعجبت حينها وهى من توصف بالوداعة والمسالمة تقف أمامه مسحورة ويستخدم خاطرها كلمة «القتال» فى مواجهة قرار والدها بعدم تزويجها إلا بعد حصولها على الليسانس. لم تحتمل خمس دقائق حتى أصابها بعدوى جنونه. ما كان أحلى جنونه! رددت ذلك، ووجدت نفسها تبكى وتضحك بينما تستعيد ذكرياتها معه، بينما هى فى غرفة مكتبه، تنتظره.


(9)

تباعدت زيارات أحفادها لها مع ابنتها وولديها، وقدَّرت أن ذلك خوفا على الصغار من نزلات برد الشتاء والسلالات الجديدة من فيروس الجائحة التى باتت لا تستثي حتى الأطفال. لم تعد تحظى من أحفادها الخمسة، خاصة الأصغر منهم، بمتعة ضمهم إلى صدرها، كانوا يدفئون قلبها المرتعش من برد الوحدة، ويفعمون كيانها المستوحش الواهن ببراءتهم الأنيسة وحراك أجسامهم الصغيرة الغضة فى حضنها.

وهاهى وحدها إلا من مكالمات متباعدة خاطفة منهم، يتأكَّل قلبَها فراغُ البيت وطيف الغائب، تجد نفسها تهذى منادية إياه «حسين. ياحسين» وكأنه عاد وتجسد أمامها. تفكر أنه كانت هناك دائما نقطة وسط بينهما لم ترها.

وكان هو مثلها، لكنه كان فيما يريده ويصر عليه يستند إلى مبررات ملموسة بينما لم تكن هى تنطلق إلا من انفعالاتها. وهاهو كل ماكانت تجادله فيه يتحقق.

وتتضح حقائق ما توقعه مبكرا وتثبته تعليقاته فى هوامش الكتب التى كان يقرؤها والخطوط التى وضعها تحت سطور رآها مهمة وفقرات أشار إليها بسهام يعلو كلا منها الحرفان NB اللذان يختزلان العبارة اللاتينية «نوتا بيني»، لاحظ جيدا...


وهاهى جيداً تلاحظ.. كورونا تعاود الارتداد كما توقع منذ شهور، ثمة موجة ثانية، بل ثالثة، وثلاث سلالات جديدة من الفيروس حتى الأسبوع الثانى من ديسمبر، واحدة فى إنجلترا ترغم لندن على إغلاق تام، وأخرى فى جنوب إفريقيا مثلها، وثالثة فى اليابان التى بدت محصنة ضد انتشار كورونا. أوروبا تعود إلى الهلع الأول وإغلاق مواضع البؤر حديثة الانتشار السريع للفيروس فى موجته الجديدة وبسلالات مغايرة.

لقاحات تظهر وتثير نشوة فرح بالخلاص، وسرعان ما يدركها التراجع بالشكوك فى سرعة وشمول تأثيرها، بل احتمال ضعف تأثيرها مع السلالات المستجدة. وفى هذا الخضم، يعود يطفو الحديث عن الوباء المنتظر الذى أعطاه علماء الوبائيات الرمزX )، بل الأوبئة المنتظرة.

وقد عَدُّوا منها عشرة، كلها تشابه كورونا فى كونها فيروسات ذات منشأ حيوانى، خرَّب الإنسان بيئة عائليها المتعايشين معها من الخفافيش والقوارض وغيرها، بل قتل وحرق وشتت هؤلاء العائلين فانتقلت الفيروسات إلى عائل آخر، وسيط، وهذا بدوره روعه الإنسان، بالقنص والحرق والسلق والسلخ والالتهام.

ولم يعد للفيروسات موئل إلا أن تمارس تلك «القفزة» الانتحارية إلى مدمر بيئات تعايشها الفطرى مع الفطريين، وكان الإنسان هو مهبط هذه القفزة، ملاذها الأخير ومعركتها الأخيرة، مَهلَكته، ومَهلَكتها، إبادة الكثير منه، والكثير منها، لكنها حتما تخرج فائزة، فهى أكثر أمم الأرض عددا. وأسبقها وجودا قبل البشر بمليارات السنين. «فماذا يفعل البشر لتحاشى تلك المهالِك التى تصنعها أياديهم بما طمعوا؟»، سؤال كتبه زوجها مرتين بالقلم الرصاص الذى لم يكن يغيب عن يده وهو يقرأ، كتبها فى هامش فصل «الفيروسات حديثة الظهور» من كتاب «الفيروسات» لدوروثيكروفورد.

وفى نهاية فصل «الوصول إلى الفيروسات» من كتاب «الفيض. أمراض الحيوانات المعدية وجائحة الوباء التالية بين البشر» لديفيد كوامن. وها هو السؤال يترجع فى داخلها المستوحش، بينما تحاول دفع هذا الاستوحاش بأن تقرأ ماكان يقرؤه أو يتابعه..


وعلى حاسوبه فى هذا الصباح توقفت عند موقع «هارفارد»، وصدمتها خلاصة دراسة تنبئ بأن الجائحة «ستظل معنا حتى نهاية العام 2022، ولا خروج إلى الوضع شبه العادى إلا فى العام 2024».

أما القادم من الأوبئة، وتبعا لما ظلت تقرؤه، فمنذر وغامض ومخيف بأن يكون أقسى وأشمل. وأقرب ما يكون. يضيق صدرها بالانقباض والإضاءة الخافتة فى غرفة المكتب، فتخرج إلى الريسبشن، وتتذكر أنه وحتى لا يزعجها كان كثيرا ما يدخل بين ستائر الواجهة فى الصباح ومعه كوب الشاى بالنعناع ليحتسيه «بروقان» ـــ كما كان يترنم فيما يطل على الحديقة عبر الزجاج.

لماذا لم تجرب معه ذلك «الروقان» الذى كان يعود منه منتعشا وودودا، حتى إنها كانت تحتفظ بطلباتها منه لهذه اللحظة، ضامنةً موافقته عليها، ليس بالترحيب فقط، بل بدندنة الغزل: «أمرك ياجميل. ياجميل أمرك. وباخطِّى الصعب. علشان خاطرك». تدمع عيناها وهى تبتسم، ثم تزيح مابين جناحى منتصف ستارة الواجهة، وتحضر أحد مقاعد «الرُكنة» الصغيرة خفيفة الحمل، تضعه أمام الواجهة الزجاجية الصافية والرحيبة المطلة على أغصان الشجر بالقرب منها، ثم تختفى لدقائق وتعود حاملة فنجان قهوتها لتأخذ مكانها لصق زجاج الواجهة.

تأخذ رشفات صغيرة متمهلة وهى ترنو إلى العالم الذى كان يراه مع رشفات الشاى بالنعناع، فتحس بوداعةٍ مُهدهِدة مريحة، بحزن شفيف، وشجن رائق.
تسرى فى كيانها طاقة حلوة تحس أن مبعثها ذلك الضوء الأنيس لأشعة شمس الشتاء الحانية المتسللة عبر الأغصان القريبة، وتلوح فى مرمى البصر عمائر المربع السكنى التى تطل بواجهاتها على الحديقة، تلاحظ أنها واجهات تكاد تكون صماء إلا من نوافذ وأبواب شرفات كلها ضئيلة، وتتذكر أن الأبنية التى عرفتها فى طفولتها وشبابها.

والتى صارت قديمة، من الفيلات حتى العمائر والبيوت، كانت تُرصِّع واجهاتها وجوانبها قمريات دائرية قرب السقوف للتهوية، كما كانت هناك أنصاف قمريات بأعلى الأبواب والشبابيك الطويلة القديمة، مزيَّنة بالزجاج الملون الذى يشكل لوحات جميلة عندما يعبرها الضوء. تتذكر أنها كانت وهى صغيرة تمسك باليد الطويلة لفرشاة «راس العبد» التى يزيلون بها أعشاش العنكبوت، إذا تكونت فى زوايا السقوف العالية، لتدير أغطية القمريات، بدفعة صغيرة يدور الغطاء فاتحاً جانبى القمرية لانسياب الهواء.

وبدفعة يعود منغلقاً كاشفاً عن وميض النور فى الزجاج الملون. تسائل نفسها: ألم تكن هذه القمريات نوعاً من كوى التهوية لتجديد الهواء داخل البيوت؟ وتستدرك، صحيح أنها لم تكن بها شفاطات تجعل ضغط الداخل سالباً ليسحب الهواء المتجدد من الخارج، لكن تلك التهوية اللطيفة كانت تدعمها النوافذ والأبواب الرحيبة الطويلة ذات الشيش الذى يُقيِّد بهرة الضوء ويطلق للنسيم العنان..


 تداعى إلى خاطرها كل ذلك، فوجدت نفسها تكرر التساؤل الذى لم يكن زوجها يكف عن ترديده: هل البشرية تتقدم حقاً وتصير بتكنولوجياتها المتقدمة بعيدة النظر.

أم أن هذه التكنولوجيات تضخم غرورها، فتعمى عن بداهة بُعد النظر القديم، الحكيم؟ ووجدت نفسها تتنهد مغمضة عينيها تناديه «آااه ياحسين»، فيتمثَّل أمامها كأنها تراه، وتفيض عيناها بالدمع، فتموج الدنيا التى تطل عليها عبر بحر شفيف الخُضرة.. ناعم الضياء.

اقرأ ايضا | فى الأسبوع الأخير من يوليو، بعد شهرين من اختفائه الغامض والساحق لقلبها، غادرتها ابنتها والحفيدان الصغيران