هكذا حدّثنا عيسى بن هشام فترة من الزمن( 4 )

محمود الورداني
محمود الورداني

أنتقل هنا لتناول النص الذي طالما وصفته بالنص الخلاب فى السطور السابقة، نص عيسى ابن هشام، ليس فقط  بسبب ريادته واعتباري إياه من أكثر النصوص تعبيرا عن عصره وزمانه، بل للموهبة الحوشية لكاتبه، وتصديه لتشييد جدارية كبرى، مازالت حتى الآن، وبعد مرور أكثر من مائة وثلاثين عاما، محتفظة بألقها وتوهجها.


 من جانب آخر، إذا كان المويلحي قد استمد الشكل الذي اختاره، أى شكل المقامة، من بديع الزمان الهمذاني، وجعل الأحداث جميعها تدور على لسان عيسى بن هشام، وهو نفسه راوى الهمذانى ، إذا كان ذلك كذلك، فإن المويلحى بدأ عمله على نحو مختلف وأكثر جموحا من كل من سبقوه.
ويبدأ النص بضمير المتكلم، عيسى بن هشام، الذى رأى فى المنام، كأنه فى صحراء الإمام، يمشى بين القبور فى ليلة زهراء قمراء، فيفاجئه شبح يقوم من بين القبور عارى الجسد، يزعق ويرتجف، وبعد أن تمالك الراوى نفسه بادر بخلع سترته وغطى الشبح العارى الذى قام من بين القبور.
لاأظن أن الأدب العربى وصل إلى ذروة كهذه فى إحدى افتتاحياته، ولعلى هنا اتفق مع محقق النص البروفيسر آلن، الذى يرى أن المويلحى نفسه لم يدرك مدى جسارته واقتحامه وجموحه.


وهكذا بدأ النص بحلم، سرعان مايتحول إلى حقيقة على مدى مايزيد على ثلاثمائة صفحة. كُتبت على مدى عدة سنوات.

ونُشرت تحت عنوان خادع فى حياديته، وهو « فترة من الزمن»، ثم خضعت لسلسلة من التعديلات وإعادة الكتابة، سواء بسبب رغبة المويلحى نفسه بتجويد نصه وإعادة النظر فيه، أو بسبب التعديلات التى فُرضت عليه عندما قررت وزارة المعارف تدريس عيسى بن هشام فى المدارس الثانوية، وهى خطوة جبارة تُحسب للوزارة على الرغم من التعديلات التى فُرضت على النص، وكان أغلبها يتعلق بالموقف من الاحتلال الإنجليزي، أو مظاهر الفساد والهنك والرنك فى مناحى الحياة المختلفة، وفى بلد كان يحكمه الإنجليز بالحديد والنار.


وسرعان مايتم التعارف بين الشبح الذى يقدّم نفسه باعتباره أحمد باشا المنيكلى وزير الحربية فى عهد ساكن الجنان محمد على باشا، أى أنه- المنيكلي- مات منذ أكثر من خمسين عاما، أما عيسى بن هشام فيقدّم نفسه باعتباره من أرباب القلم والدواة، أى أنه يشتغل كاتبا دون أن يفصّل مايقصده بأنه كاتب، وأظن أن المويلحى قصد أن يكون الأمر عموميا إلى هذا الحد، ربما من أجل أن يمنح راويه الحرية فى التجوال مصطحبا الباشا فى كل ربوع مصر، بل والإسكندرية، وأكثر من هذا إلى باريس لحضور المعرض الدولي، حيث يختتم المويلحى نصه.


وعلى الفور تبدأ الدراما الكبرى، فأولا لا الباشا ولا عيسى بن هشام مندهشين أو يبدو عليهما أى عجب.. ما يجرى أمر طبيعى جدا: الباشا قام من بين الأموات، وعيسى بن هشام يصطحبه فى جولة طويلة تستغرق عدة شهور!!


وثانيا لن يعود ابن هشام إلى تذكر أنه سبق أن ذكر فى السطر الأول للنص أنه» رأى فى المنام» وتناسى تماما حتى النهاية أنه رأى الباشا فى الحلم وأن ما يجرى من أحداث جسام من المفروض أنها تحدث فى الحلم، مثلما تناسى ضرورة أن يعود الباشا إلى قبره، وتناسى أيضا أن ينتهى حلمه ويستيقظ من النوم.


الضرورة الفنية وحدها هى مافرضت كل هذا التجاوز والتجاهل للمنطق الواقعي..
فى الأسبوع القادم إذا امتد الأجل أواصل قراءة عيسى بن هشام..