المـوارنــة.. حكاية فى حب مصــر

المـوارنــة..  حكــايــة فــى حــب مصــر
المـوارنــة.. حكــايــة فــى حــب مصــر

تتعدد الطوائف المسيحية وتتنوع بتنوع الشرايين الموصلة إلى قلب الوطن الواحد؛ وفى هذه الأيام تمر على إخوتنا المسيحيين الموارنة أعياد القديس مار مارون، وهو الأب الروحى للطائفة المارونية وشفيعها، وإليه ينتسب (الموارنة)، ويجعلون من يوم (9 فبراير) من كل عام عيدًا له، حيث يُقام القداس الاحتفالى، والترانيم الروحية، ويتبادل أبناء الطائفة التهانى: «بـاسمك دعـينا يـا أبـانـا، وعـلـيك وطّـدنـا رجـانـا، كـن فى الضيقات ملجانا، واختم بـالخير مسـعـانـا».. ويحتفل الموارنة فى مصر بعيد القديس فى أربع كنائس: كاتدرائية القديس يوسف فى الظاهر، وكنيسة القديسة تريزا فى الإسكندرية، وكنيسة القديسة تريزا فى الإسماعيلية، وكنيسة مارمارون بمصر الجديدة، وهى الكنيسة الوحيدة فى مصر التى تحمل اسمه.


ثلاث ساعات قضتها مجلة «آخرساعة» العريقة فى ضيافة المطرانية المارونية وكنيستها بحى الظاهر بالقاهرة، لتحكى تجربة فريدة عن جذور المواطنة التى تعيش فى قلب هذا الوطن دونما افتعال ساذج أو ادعاء كاذب.


استقبلنا المطران المارونى «جورج شيحان» بترحاب كبير، وضيافة تليق بمكانته الدينية وثقافته العربية الفريدة، إذ تبادل معه المحرر أشعار المتنبى وقصته مع سيف الدولة، وكذلك العديد من المناقشات حول الأفكار الدينية والوطنية؛ كما قمنا بجولة داخل المطرانية والكنيسة، وأشعل المحرر شمعة دعوة للسلام، بعدما تبحر به المطران فى تاريخ الكنيسة وأهم زوارها من المثقفين الكبار؛ هاهنا كان عباس العقاد ومى زيادة يحضران القداس معا، هاهنا كان محمد نجيب وعبد الناصر والسادات يبادلون المطارنة الزيارات والهدايا؛ وهاهنا صليت العصر فى وقته بعدما استأذنت المطران «جورج شيحان» فأذن لى وأخبرنى أنه لا مانع أبدًا من ذلك، حيث استكملنا الحوار بعدها فى محبة ووئام،   شجرة الأرز اللبنانية والأهرامات المصرية، هو الشعار الذى اتخذه المركز الثقافى المارونى بالقاهرة رمزا له، وهو ما يكشف كيف كانت مصر ولا تزال قلب العروبة الذهبي، النابض بمختلف الثقافات والأديان والطوائف فى بوتقة واحدة، وكان هذا الملف الكاشف عن التراث الثقافى المارونى فى مصر،  وعن الموازنة كانت تلك الحكاية الكبيرة وحواديتها الفرعية فى حب مصر.

أنطوان زند:   جدى هــو المؤرخ الأول للخديو توفيق
 

الشيخ أنطوان زند، الرئيس الشرفى لـ»المركز المارونى اللبنانى للثقافة والإعلام بالقاهرة»، يحكى شهادته عن تاريخ عائلته والموارنة فى مصر فيقول: أتذكر أن أول ثلاث عائلات مارونية نزحوا من لبنان إلى مصر هم آل شديد، وآل صعب، وآل زند الذين أقاموا فى قرية «صان الحجر» القريبة من مدينة «الزقازيق» بمحافظة «الشرقية»، ويتابع: كان جدى الكومندور عزيز بك زند، الأديب والشاعر والمؤرخ، واحدا من الرجال الذين أسهموا فى النهضة الثقافية المصرية والعربية فى ذلك الحين، فقد  ترأس تحرير صحيفة «المحروسة» عام 1886، وظل يصدرها 23 عاما ثم باعها إلى إلياس زيادة (والد الأديبة مى زيادة) عام 1909، وأرخ عن الخديو توفيق فى كتابه الشهير «تاريخ الخديو محمد باشا توفيق»، كما ألف وحقق عدة مؤلفات أدبية أشهرها تحقيقه لديوان أبى العلاء المعرى، وكتاب «فاكهة الندماء فى مراسلات الأدباء»، وقد جاء تعريف بشعره فى «معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين». 


ويضيف زند: أما عن الفترة التى عاصرتها، وهى بمثابة الجيل الذهبى الثانى للموارنة فى مصر (بعد جيل الروّاد) فكنت طالبا بالمدرسة المارونية بالظاهر أيام الراحل المونسينيور يوحنا طعمة، والذى تخرجت فى مدرسته نخب ثقافية وفنية رفيعة، وكنت شاهد عيان على هذه الفترة، فكان فى المدرسة فريق لكرة السلة من أقوى فرق نوادى ومدارس مصر، وأتذكر هتاف الطلاب كلما كانت هناك مباراة: «يا محلى ذيل العصفورة مارونية هى المنصورة»، كما كان بالمدرسة أبطال لكمال الأجسام، وعلى رأسهم الراحل «تونى بولس» بطل العالم للمحترفين، و»ريمون عريضة» و»حماده مكى»، وكان فى هذه المدرسة العريقة التى تأسست عام 1906، قاعة كبيرة للسينما، وفرقة كشافة تابعة لكشافة «وادى النيل» سُميت بـ»مجموعة القديس مارون» بالظاهر، أو المجموعة الثالثة، وكنتُ عضوا نشطا فيها. 


 ويحكى زند ذكرياته القديمة فى حى الظاهر وشبرا ومصر الجديدة حيث كان شاهد عيان ومقربا من القيادات المارونية، فيقول: «أحب حى «الظاهر»، و«الفجالة» فهو من أعرق أحياء القاهرة، وشاهد عيان على نهضتها التاريخية وتنوعها الدينـــــــى بمســـــاجده وكنائســـه العريقة، وآثاره الفريدة كـ«قصر السكاكينى»، ويمثل لى ذكريات تاريخية واجتماعية خاصة، فمر به باشوات، ورموز فكرية وثقافية رفيعة من الأجداد وأبناء العمومة.

«بولس غانم» ناقل   الفلسفة الفرنسية
يحكى الأستاذ نديم غانم، عضو الهيئة الاستشارية العليا «للمركز المارونى اللبنانى للثقافة والإعلام» عن سيرة جده بولس غانم الأديب والشاعر، وصاحب الترجمات التى أشهرها العقد الاجتماعى، فيقول: «ولد بولس غانم فى بلدة بكاسين جنوب لبنان فى 16 نوفمبر 1892 وألحقه عمه الخور أسقف يعقوب غانم بمدرسة الفرير فى بيروت فأجاد اللغتين الفرنسية والإنجليزية، نشأ فى أسرة عربية النزوع، ثقفه أبوه وعمه بعيون التراث الأدبى، ولقّناه قدرًا كبيرًا من المعلقات ومقامات البديع ونماذج البلاغة، وألف رواية «الإسكندر الأكبر» وهو لم يتم العشرين من عمره، وقام بتمثيلها جورج أبيض فيما بعد. 


هاجر إلى مصر عام 1908 والتحق بمدرسة الحقوق الفرنسية ثم ذهب إلى جامعة «أكس أونبروفانس» فى فرنسا لنيل شهادة الحقوق، عاد إلى مصر معلما للفلسفة والبلاغة والبيان فى كلية الآباء اليسوعيين فى القاهرة، ثم انتقل للعمل فى محكمة مصر المختلطة بعد مسابقة كان الأول فيها وتدرج حتى بلغ منصب رئيس كتاب محكمة مصر، وبعد إلغاء القضاء المختلط عام 1949 عمل على ترجمة القوانين من اللغات الأجنبية إلى العربية كما عمل مستشارا للأمير ميشيل لطف الله فى دائرته الكائنة بقصره بالزمالك (ماريوت حاليا)، وقد زامل فى دراسته الكاردينال بولس المعوشى بطريرك الموارنة وصادق خليل مطران وطه حسين وسليمان البستانى وصديق شيبوب وكان من تلامذته الأمير محمد عبد المنعم والكاردينال إسطفانوس سيداروس بطريرك الأقباط الكاثوليك والأب هنرى عيروط مؤسس جمعية الصعيد ومؤلف كتاب «الفلاح». 


اشتهر غانم ببلاغته وبراعته فى الشعر ونشرت دار المعارف فى 1961 أهم مؤلفاته «الوفاء» الذى قدم له الأستاذ أحمد حسن الزيات وتناوله بالنقد الأدبى تلميذه الأديب عادل الغضبان، وبه القصائد التى ألفها ونشرت فى «الأهرام» و«المقتطف» و«الأديب». 

مجدى الجميل: أبى كان زميل دراسة لعبدالناصر
 

يحكى الشيخ مجدى الجميل، الرئيس الشرفى للمركز المارونى اللبنانى للثقافة والإعلام بالقاهرة، أن من أوائل المهاجرين اللبنانيين الموارنة الذين وفدوا إلى مصر كان «آل الجميل»، وقد وفدوا إلى مصر أثناء الثورة العرابية وما قبلها بسنوات، وهم ثلاثة فروع كبرى وقد سكنوا فى المنصورة والإسكندرية والقاهرة. ويضيف مجدى الجميل: «كان جدى الشيخ إبراهيم الجميل ابن عم الشيخ بيار الجميل قد سكن المنصورة فى بادئ الأمر ثم نزح إلى المنيا (بنى مزار) وكانت هناك عائلة مارونية أخرى هى عائلة «سكاف»، ثم جاء إلى القاهرة واشتغل فى التجارة، وكان على صلة وثيقة بابن عمه أنطون الجميل باشا، أشهر شخصية مارونية فى ذلك العصر، ومن مشاهير آل الجميل فى مصر أيضا كان الشيخ بيار الجميل وزوجته جينفياف الجميل، وموريس الجميل». 


ويستكمل الجميل شهادته عن عائلته العريقة بقوله:» كان أبى الشيخ ميشيل الجميل زميل دراسة للرئيس جمال عبد الناصر فى مدرسة النهضة فى حى الظاهر، وكان يحكى لى بأنه كان دائم الثورية، ومحبا للمظاهرات الوطنية ولا تفوته مظاهرة بل كان من حين إلى آخر يخرج قائدا لطلاب المدرسة فى تظاهرات تجوب المنطقة ضد الاحتلال الإنجليزي»، ومن أشهر الشخصيات المارونية التى عاصرها الشيخ مجدى الجميل كان المونسينيور يوحنا طعمة رئيس المدرسة المارونية، يقول عنه «الجميل»: كان شخصية قيادية وتمتع بكاريزما كبيرة وكان محبا لمصر وللرئيس عبد الناصر الذى سلمه كأس التفوق لمدرسته؛ وكان طعمة رجلا نهضويا ارتقى بجودة التعليم والأنشطة الفنية الطلابية داخل المدرسة التى كان يرأسها. 
 

«الأبراشية».. والكونت خليل دى صعب

 فى البداية يوضح لنا الخورى د. ميخائيل قنبر مؤلف كتاب: «البطريرك الحويّك.. حائك أساسات أبرشية القاهرة المارونية»: الفارق بين الكنيسة المارونية وغيرها، قائلا: إن الكنيسة المارونيّة هى كنيسة إنطاكيّة مشرقيّة كاثوليكيّة، استمدّت هذه الكنيسة اسمها من اسم الراهب الناسك القديس مارون الذى تنسّك فى القورشيّة من أعمال سوريا، وقد تبع نهج مارون فى النسك جماعة رهبانيّة اقتدت به، وتبعتها جماعات علمانيّة تكوكبت حول رهبانه المنتشرين على ضفاف نهر العاصي، بعد موت القديس مارون حوالى سنة 410م، تابع تلاميذه نهجه النسكى، وكلّفهم موقفهم هذا اضطهاد الإخوة فى الدين، فبدأت هجراتهم المتلاحقة إلى الجبل اللبنانى التى اكتملت مع وصول البطريرك الأوّل لكنيستهم يوحنا مارون إلى بلاد البترون وإنشائه مقرًا بطريركيًّا فيها هو دير (ريش مورون) أى رأس مارون فى بلدة «كفرحى»، عاش الموارنة بعد ذلك فى الجبل اللبنانى، وابتداء من القرن السادس عشر بدأوا فى الانتشار فى العالم، فأصبحوا اليوم كنيسة من أهم الجاليات اللبنانيّة شرقًا، الموارنة جزء من الكنيسة الكاثوليكية التى تقرّ بسيادة بابا الفاتيكان، إلّا أنّ لهم بطريركهم الخاص وأساقفتهم وليتورجيّتهم الشرقيّة الخاصّة والقريبة من ليتورجيّات الكنائس الشرقيّة الشقيقة. 


ويضيف «قنبر»: إن وجود الموارنة فى القُطر المصرى كجالية ‏ابتدأ بهجرة بعض الأفراد والعائلات إليه للتقيّد بخدمة قناصل الدول المسيحيّة، و‏يُستدل على ذلك من سجلّات العماد القديمة عند اللاتين، وأبرزها سجل الزواج فى دير الآباء الفرنسيسكان فى الموسكى، المبتدئ سنة 1618 والمنتهى فى سنة ١٧٥٤، ويُذكر فى هذا السجل أسماء قناصل دول كعرّابين فى رتب العماد ‏لأولاد عائلات مارونيّة، ‏وأقدم عائلة مارونيّة ورد ذكرها فى السجلات عائلة بيت البُرج التى ‏لا يُعرف أصل موطنها، وهى لا تزال معروفة فى القُطر حتى 1927 بحسب المطران عبدالله الخورى، أمّا الراهب الأوّل الذى توجّه إلى القُطر المصرى فكان القس موسى هيلانة الذى أرسلته الرهبنة المريميّة إلى مدينة دمياط سنة ١٢٥٤..  تزايد الموارنة فى مصر يعود إلى ثلاثينيات القرن التاسع عشر، مع تزامن التحوّل المهمّ الذى حصل فى الجبل اللبنانى على صعيد إنتاج الحرير والذى أثّر إيجابًا على تنمية مهارات الفلاحين اللّبنانيين، وفى الوقت نفسه أراد محمد على، بموازاة تحالفه مع أمير لبنان بشير الشهابى، إدخال هذا الإنتاج إلى مصر فاستقدم عمّالا موارنة لبنانيّين بارعين فى الزراعة وتربية دودة الحرير إلى أرض الكِنانة. 


واستمر توافد الموارنة بعد ذلك إلى القطر المصرى فى زمن الخديو إسماعيل (1863- 1879) الذى استقدم المثقّفين والمتعلّمين من لبنان وعلى رأسهم الموارنة، وفتح أبوابًا لمن شاء من خرّيجى الجامعات الغربيّة فى بيروت كى يكونوا موظفين فى الأعمال التى أرادها لتنمية مصر وإدخالها طور الحداثة، وكان للموارنة مشاركة فعّالة فى النهضة المصريّة الاجتماعيّة، ومنهم يوسف شكور باشا، ‏وأوغست أديب باشا، ‏وعبد الله باشا صفير، وجبران بك موسكات، ‏وسليم بك باخوس، وأمين بك محفوظ، ويوسف بك ميرزا، وأنطون بك الجميل وغيرهم. . تمّ بعدها على يد المطران يوسف دريان موفد البطريرك الحويّك إلى مصر إنشاء الأبرشيّة المارونية والكنائس والمدارس التابعة لها، وذلك بدءًا من سنة 1904، وبهمّة وتمويل أبناء الجالية المارونيّة، وبالأخص الكونت خليل دى صعب.