ضياء جميل
آخر ما كان يتخيله أو يتوقعه سكان عقار شارع طه حسين بالزمالك؛ أن تدق الساعة التاسعة مساءً وبدلا من أن يفرض الهدوء نفسه مع برد الشتاء القارص مع احتساء شراب دافئ في ليلة صقيع حذرت من برودتها هيئة الأرصاد الجوية؛ فجأة وعلى غير انتظار تدوي طلقات الرصاص في أرجاء البناية تثير الرعب بين سكان العقار؛ يخرجون من شققهم وعلى شفاههم سؤال واحد؛ من أين تأتي طلقات الرصاص هذه؟!، كانت مصدرها الطابق الثامن تحديدًا شقة المستأجر الجديد شمس وأسرته.
كانت جريمة بشعة مرتكبها رجل أعمال شاب قتل زوجته وشقيقته وزوجها وحماته بطلق ناري ثم أطلق الرصاص على نفسه، بعد جلسة صلح مع زوجته بعد أشهر قليلة من حفل الزفاف، انتهت حياة أسرة كاملة في لحظة مجنونة؛ التحريات أكدت أن الأسرة تتمتع بسمعة طيبة، إذن لماذا حدث هذا؟!، تفاصيل أكثر إثارة في السطور التالية.
شمس شاب في منتصف العشرينات من العمر رجل أعمال من أسرة ثرية بمحافظة المنصورة.. يوم الجمعة الماضى أصبحت قصته حديث مصر كلها بسبب الجريمة البشعة التى ارتكبها؛ هو في الواقع شخص مسالم يكره المشاكل ويبتعد قدر ما يستطيع عنها حياته كلها تنحصر بين تجارته وأسرته.. ولكن كيف كانت بدايته؟!، ربما البدايات تخبرنا بالأحداث ونتائجها.
قصة حب
تعود قصة حياة شمس عندما تخرج من الجامعة وقرر أن يعمل مع والده في التجارة.. فهو من أسرة معظمها تجار بدأ عمله من الصفر مثل أي شاب لم يساعده أحد سوى والده الذى كان يقدم له العون في معظم الأوقات.. استمر شمس في التجارة حتى استطاع أن يكون مبالغ كبيرة وبمرور الوقت كان والده يطلب منه أن يلتفت لمستقبله، وأن يكمل نصف دينه إلا أن شمس اخذه العمل فصار لا يفكر في شيء سوى التجارة وكيف يصبح يوما ما من كبار رجال الأعمال والتجارة في مصر.. استطاع أن يكون ثروة طائلة ولم يبق أمامه عائقا سوى أن يتزوج من بنت الحلال.. بالفعل بدأ يبحث عن فتاة أحلامه، طلب من أقاربه وأصدقائه أن يرشحوا له فتاة مناسبة من أسرة عريقة محافظة تقدس الحياة الزوجية.. استمر على ذلك عدة أشهر باحثًا عن الفتاة التي تكون متوجة على عرش قلبه وحياته كلها، وفي يوم ما أثناء حضوره فرح أحد أقاربه وقعت عيناه على فتاة وبمجرد أن شاهدها أدرك بأنها فتاة أحلامه التى ظل يبحث عنها منذ فترة كبيرة.. اقترب منها وتبادل معها نظرات الإعجاب.. عرفها بنفسه فأخبرته بأنها تدعى نور أخذ رقم هاتفها المحمول وأخبرها بأنه سوف يتصل بها في أقرب وقت، مر على ذلك يومان وفوجئت نور بشمس يتصل بها يطلب منها تحديد ميعاد مع والدها لأنه يريد أن يتقدم لخطبتها فلا داعي لتضييع الوقت في مقابلات ولقاءات غرام فقد تعود أن يكون عمليًا هكذا علمته التجارة.. وبالفعل تمت مراسم الخطوبة وسط حضور الأهل والأقارب.. جمعت بينهما قصة حب جميلة الكل كان يتحدث عنها، وبعد مرور أقل من عام كان الأثنان في عش الزوجية.. استقر شمس في الحي الراقي بالزمالك حيث عمله، واصل الليل بالنهار بكل جهد لكي يؤمن مستقبل زوجته لدرجته أنه يعمل في اليوم أكثر من 15 ساعة والزوجة بدورها تشجع زوجها باستمرار على العمل والتجارة.. كانت حياتهم تسير بشكل طبيعي مثل أي أسرة الزوج يخرج إلى عمله صباح كل يوم يترك زوجته بمفردها.. وبمرور الأيام بدأت الخلافات الزوجية تعرف طريقها إليهم، تركت نور المنزل أكثر من مرة وفي يوم ما اتصل شمس بحماته طالبا منها أن تحضر إليه لعمل جلسة صلح مع زوجته بسبب تكرار الخلافات الزوجية بينهما.
صوت رصاص!
عقارب الساعة تجاوزت التاسعة مساءً بينما كان العميد محمد البتانوني مأمور قسم شرطة قصر النيل يتابع الحالة الأمنية بدائرة القسم فجأة تأتيه إشارة من شرطة النجدة بسماع صوت إطلاق رصاص داخل عقار بشارع طه حسين بالزمالك بدائرة القسم.. على الفور أخطر المأمور اللواء أشرف الجندي مساعد وزير الداخلية مدير أمن القاهرة الذى أمر بسرعة الانتقال لمكان البلاغ.. دقائق قليلة ووصل الرواد إسلام عز ومحمود وهدان ومحمود جبريل وأحمد وائل ومروان عثمان ضباط مباحث قسم قصر النيل والرائد روني رأفت ضابط مباحث تأمين حي الزمالك إلى مكان البلاغ، وبإجراء التحريات وجمع المعلومات تحت إشراف اللواء نبيل سليم مساعد وزير الداخلية مدير الإدارة العامة لمباحث القاهرة؛ تبين أن طلقات الرصاص مصدرها العقار رقم 2 بشارع طه حسين، تحديدا داخل شقة بالطابق الثامن، وبكسر الباب عثر على جثة كل من «شمس.ش» الزوج، «نور.غ» الزوجة، «شرين.ش» شقيقة الزوج، و»خالد.م» زوج شقيقة الزوج، كما اصيبت حماته «منى.م» حماة الزوج بطلق ناري وتم نقلها إلى المستشفى لتلقي العلاج، ومن جانبها قالت حماة المتهم- قبل لحظات من أن تلقى مصرعها هي الأخرى- في حديثها أمام اللواء عبد العزيز سليم نائب المدير العام؛ «بنتي وجوزها كان فيه مشاكل بينهم زي أي اثنين متجوزين وفي يوم قررنا اننا نعمل جلسة صلح ونحل المشاكل بينهم وقعدنا في شقتها في الزمالك، وكانت اخت شمس وجوزها موجودين معانا، واحنا بنتكلم حدثت مشادة كلامية بين شمس وبنتي ولقيناه في حالة عصبية شديدة، وفجأة لقيناه طلع مسدس من جيبه وحاول يقتلنا، ساعتها جوز اخته تدخل وحاول ياخد المسدس منه، وأثناء ذلك طلعت طلقة بالغلط في جوز اخته ووقع سايح في دمه.. وتضيف منى في حديثها بعدها لقينا شمس في حالة هياج وضربنا كلنا بالنار وبعدين قعد يعيط وراح ضرب نفسه بالنار هو كمان».
تحرر محضر بالواقعة، وأحاله اللواء حازم البدوي مدير قطاع الغرب واللواء أحمد شوقي مساعد فرقة الغرب والمقدم محمد دخان نائب المأمور والرائد مصطفى بركات معاون الضبط إلى النيابة العامة التي أمرت بانتداب رجال المعمل الجنائى لفحص مسرح الحادث، وتحريز فوارق الطلقات لمضاهاتها بالطلقات التي قتلت الجناة وفحص محتويات الشقة ومنافذ الدخول والخروج، كما استعجلت بسرعة التحريات عن الحادث وملابساته واستمعت بشكل مبدئي للشهود من الجيران، ونقل الجثامين الأربعة إلى مشرحة زينهم لتشريحها وعمل تقرير مفصل بأسباب الوفاة.
داخل عمارة الزمالك .. الحارس: صوتهم كان عالي بعدها سمعنا صوت الرصاص
محمود صالح
.. على أعتاب العقار الذي يحمل رقم 2 في شارع طه حسين بالزمالك كانت الأجواء طبيعية مستقرة حيث لا اضطراب ولا أصوات مستفزة، عمال المحلات المتواجدين بكثافة في المنطقة يعرفون طبيعتها جيدًا، وعلى الرغم من كثرتهم الملحوظة إلا أنهم يدركون تمام الإدراك أنهم يعملون في إحدى أرقى أحياء القاهرة. لكن لم يكن في الحسبان أن جريمة القتل التي حدثت في الطابق الثامن من العقار سوف تغير من خارطة المنطقة. وتجعلها لأيام قليلة محل توافد الكثير عليها لمعرفة ما حدث، ناهيك عن التواجد الأمنى المكثف حول العقار.
لا أحد يعرف شيئا، هذا لسان حال جميع من يعمل في هذا الحي، كل ما يعرفوه أنهم سمعوا بعد التاسعة مساءً أصوات طلقات رصاص مفزعة، انتبهوا جميعا إلى أنها قادمة من الطابق الثامن، وعليه ابلغوا النجدة بما سمعوا.
حتى وصول قوات الأمن كان الوضع مضطربًا، والأعين جميعها تتجه نحو العقار وناحية الطابق، لكن ما دار داخل الشقة كان المجهول بعينه، حتى أن البعض من أصحاب المحلات والمارة أخذهم الخيال إلى أن هناك مشاهد من فيلم سينمائي يتم تصويرها داخل إحدى الشقق بالعمارة، ولكن ما هي إلا ثوان معدودات وكان الجميع قد عرف الحقيقة وعدد القتلى بل ومرتكب الجريمة ذاتها، لكن السبب ظل غامضًا، وحدها تلك السيدة الخمسينية هي التي تدرك طبيعة تلك الساعات الأخيرة من هذه الجريمة وتفاصيلها، وحدها هى التى تحمل أسرار جريمة بشعة أرتكبت في الحي الهادئ.
«نزلوا جثث»!
كانت بدايتنا بعد كشف تلك الواقعة، وأسماء ضحاياها، وقاتلهم الذي انتحر، وحماته التي لحقت بهم بعد الواقعة بيومين ، عند حارس العقار، رجل خمسيني ملامحه متجهمة، يبدو سبب ذلك واضحا بعد تلك الجريمة، يرتاب في كل المتواجدين، يسأل بحذر من هم يصعدون إلى الطوابق العلوية، ويلح في سؤالهم أكثر من مرة، ونظرته تحيط بالسائل من قدميه إلى رأسه.
وقبل سؤاله عن الواقعة كان جوابه حاضرًا، «أنا معرفش حاجة ومعرفش إيه اللي حصل»، وبالرغم من غرابة هذا الرد إلا أن الرجل من كثرة ما سُئل ما الأمر برمته، وأصبح يتمنى لو أن تنشق الأرض وتبتلعه.
لكن أثناء حديثه التقطت عبارة قالها دون انتباه، «دي كانت تأجيرة شؤم، دا يدوب لسه مأجرها من أقل من شهر من الدكتورة مديحة لكن في يوم الواقعة صوتهم كان عالي بعدها سمعنا صوت الرصاص».
فتحت هذه العبارة الأفق نحو مسارات مختلفة، في بحثنا عن تلك الجريمة المروعة، وبهذا يتضح أن الرجل فعلا يجهل هؤلاء السكان الجدد، الذين صعدوا إلى شقتهم من أيام قليلة على أرجلهم ونزلوا منها جثث!
لكن أكمل كلامه قائلا: «تعرف.. أنا مكنتش بشوف منهم تقريبا حد، يدوب راجل كبير شفته طالع الشقة وسألته، وقالي إن ابنه اللي أجر فوق في الشقة اللي في الطابق التامن، وطالع له، ومكنتش أعرف عنهم غير إن الراجل اللي أجر ده راجل أعمال، وجايب مراته وأسرته فترة هنا يقعدوا معاه جنب شغله في الزمالك، وعرفت بعدها إنه كان فيه مشاكل بينهم في الأسرة خلته يعمل كده عشان يصلح بينهم ويحل المشاكل دي، وأهو سبحان الله، جايبهم يصلح بينهم ويجمعهم قتلهم وقتل نفسه».
سألته عن الدكتورة صاحبة الشقة، لكن كان جوابه أنها دائمة السفر خارج البلاد، وغير متواجدة في الوقت الحالي، لكن استطرد قائلا: «الله يكون في عونها دلوقتي، أجرت الشقة لناس جايين يموتوا يتقتلوا فيها، ونزلوا منها 5 جثث آخرها الست الكبيرة حماته اللي كانت بين الحياة والموت حتى لقيت ربها هي الأخرى».
بمجرد ما أن أنهينا حديثنا معه، لمحت سوبر ماركت في البناية من الداخل، توجهت إليه باحثًا عن أى معلومة تقودنا إلى معرفة طبيعة ما جرى، لكن كان الرجل غاضبًا جدا مع ابنه الذي يعمل معه، وغضبه هذا ظهر جليًا في رده علينا بعد سؤاله عن تلك الواقعة، لكن وبمجرد ما أن هدأ باله قليلا استطرد قائلا: «أنا شوفت الأستاذ «شمس» قبل كده، جه يشترى مني حاجات وهو طالع شقته، كان شاب باين عليه إنه محترم، ملامحه بشوشة ومبتسم دائما، لكن سبحان الله، عرفت إن هو اللي قتلهم وقتل نفسه».
لم يضف صاحب السوبر ماركت جديدًا حول ملابسات الواقعة، خصوصا بعدما قال أنه في يوم الحادث لم يكن موجودًا في المكان، لكن كان الشاب الذي يعمل في السوبر ماركت الآخر، الموجود في العقار لكن هذه المرة من الخارج عنده ثمة ما يضيفه لنا، حيث قال: «كنت موجود ساعتها، وسمعنا صوت طلقات الرصاص، المنطقة دي هادية قوي، سهل تسمع فيها دبة النملة، فما بالك بطلقة الرصاص، علشان كده كلنا اتفزعنا وخرجنا نشوف إيه اللي جرى، وبعدين دي مكانتش طلقة ولا اتنين، دي كانت طلقات كتيرة ورا بعض، تفصل بينهم ثواني قليلة، وعرفنا من آخر طلقتين إن ده بيحصل في الدور التامن في الشقة اللي لسة متأجرة جديد».
وأضاف: الشقق هنا غالية قوي، وتأجيرها بيتحسب باليوم مش بالشهر، واليوم بيوصل لـ ألف وألفين، والأستاذ شمس اللي أجر فوق دا لسه جي مكملش شهر، حالته المادية جيدة ورجل أعمال، لكن كأنهم كانوا جايين يموتوا هنا»!