رشيد غمرى
يرتبط الفن عادة بالجمال، كحالة من الانسجام، والتناغم، تثير فينا البهجة والسرور، لكن من وقت لآخر يصدمنا أحد الفنانين بأعمال تشعرنا بالنفور، وبقليل من الاطلاع على تاريخ الفنون، سنجد مدارس فنية كاملة اعتمدت البشاعة، والصدمة النفسية أسلوبا للتعبير عن الرفض والسخط، لكن ظهور القبح فى الأعمال الفنية أقدم بكثير من كل التقاليع المنسوبة للحداثة، ومن المثير أن بعض ما اعتبر فى الماضى فنا قبيحا، ينظر إليه الآن كطفرات إبداعية أدت لتطور الذائقة، ومقاييس علم الجمال.
أشهر من ارتبطوا بالقبح فى الفن هم "الدادائيون".. نشأت حركتهم كرد فعل ضد الحرب العالمية الأولى، وأعلنوا رفضهم لكل القيم الجمالية والفنية السابقة، لأنها فى نظرهم نتاج ذوق مجتمع برجوازي، تسبب فى الحرب.. تأسست الحركة فى ملهى "فولتير" فى زيوريخ، وسرعان ما انتشرت فى دول أوروبا، وعبرت إلى أمريكا.. أحد مؤسسيها وهو الشاعر "هوجو بال"، كان يلقى قصائد بكلمات غير مفهومة، ولا تنتمى لأى لغة، وأراد من ذلك السخرية مما اعتبره لغوا سياسيا، وخطابات فارغة، لم تؤد للتفاهم الإنساني، بل للدمار. أما الفنان الفرنسى "مارسيل دوشام"، فقام بالتوقيع على مبولة، كعمل فني، وأطلق عليه اسم الينبوع. ورفعت الحركة شعاراتها دون مواربة: "لا للفن". و"محاربة الفن بالفن"، ولكنه فن نقيض، يخالف المتعارف عليه فى علم الجمال، وقد أنتجوا أعمالا بصرية، وموسيقية، ومسرحية، اعتمدت على القبح الصوتي، والموسيقي، والأدائي، بشكل مثل صدمة. لاحقتهم النازية، ضمن غيرهم من التيارات الحداثية، وقتلت الكثير منهم، وبعد الحرب العالمية الثانية، استقر أغلب الناجين منهم فى أمريكا، وتشعبت الحركة إلى عدة اتجاهات، أما ملهى "فولتير" الذى شهد ميلادهم، فتحول فيما بعد إلى متحف.
ورغم تعمدهم إظهار القبح، واعتمادهم على النفايات، والحطام، والحديد الخردة، كخامات، لم يتصور أحد أن تقترن بالفن، فقد مثلوا فتحا جديدا، أدى إلى تطور الذائقة. فبعد انتهاء موجة الغضب، والهيستيريا، رأى البعض أنه بإمكان تلك المواد الجديدة أن تستخدم فى الفن، وصار من المقبول الآن مشاهدة أعمال من الحديد الصدئ، وإعادة تدوير بعض النفايات المعدنية وغيرها، دون أن تثير الشعور بالنفور. بل على العكس تثير الخيال بتناقضها، وبقدرة هذه المواد على التعبير المدهش، ومن أمثلة ذلك الأعمال النحتية للفنان المصرى الراحل صلاح عبد الكريم، العميد الأسبق لكلية الفنون الجميلة، وقد تبعه الكثيرون هنا، حتى أنه توجد عدة فعاليات حاليا لفن النحت بالحديد الخردة.
وبخلاف الدادية، نجد الفنان البولندى المعاصر "جيزلاف بيكشينسكي"، يقدم لنا القبح من منظور أكثر رصانة. كان رساما، ومصورا، ونحاتا راعته فكرة التدهور، وبشاعة المصير الإنساني، فعبر عن تلك الأفكار بأعمال صادمة، تشبه الكوابيس، ضمن ما يسمى بسيريالية الواقع المرير أو "الديستوبيا". وهو على عكس الدادئيين، كان يرسم بأسلوب الباروك، مجسدا أفكارا ومشاعر مروعة. وقد استلهمت بعض الفرق الموسيقية أعماله، خصوصا فنانى "الميتال"، وكذلك بعض السينمائيين فى أفلام الرعب.
تاريخ القبح
لكن هاجس القبح فى الفن، ظهر قبل موجات الحداثة بكثير. ففى كتاب يرجع إلى عام 1835 شرح "روزنكرانز" الأمر مفرقا بين القبح، وتصويره فنيا. وضرب مثالا بمشهد صلب المسيح. فالمشهد قبيح فى الأصل، لكنه يمكن أن يكون جميلا عند تحويله إلى فن. وقال إن مفهوم القبح لا يمكن فصله فى الأساس عن مفهوم الجمال، لأنه لابديل عنه لإحداث هزة شعورية عند المتلقي. وأبعد من ذلك زمنا نجد لوحة "الدوقة القبيحة"، للفنان "كوينتين ماتسيس"، التى رسمها مطلع القرن السادس عشر. وهى واحدة من أشهر تجليات القبح فى الفن. وتصور الدوقة الذابلة المجعدة، بوجه ذكوري. حيث يصيب هذا التناقض المخالف للطبيعة المتلقى بالاشمئزاز، وهذا بالضبط ما أراده الفنان.
فى رواية "أحدب نوتردام" لفيكتور هوجو، يقدم الكاتب الدمامة من خلال المسخ المشوه "كوازيمودو" الذى يقع فى حب الفتاة الجميلة، ويريد أن يضحى بحياته لأجلها. وهنا نرى القبح كموضوع لفن جميل.، وقد لعبت الروائية "أميلى نوثومب" على الحالة نفسها فى روايتها "اغتيال" ولكن بشكل مختلف، فالمسخ الأحدب فى روايتها، يقع فى حب النجمة السينمائية الجميلة، والتى تتخذه صديقا، لتعاطفها معه، لكنه يتجرأ، ويعرض عليها حبه فى رسالة، يطالبها فيها بأن ترى جماله الداخلي، وهنا ترد عليه مطالبة إياه بأن يبحث هو عن الجمال الداخلى لفتاة قبيحة مثله، وهو ما يستثير قبحه الداخلي، فيقوم بقتلها.
وفى قصة "القبيحة" لـ"إميل زولا"، يكتشف البطل أن المرأة متوسطة الجمال تبدو جميلة جدا إذا ظهرت بصحبة امرأة قبيحة. ولهذا يقرر العمل فى مهنة غريبة، وهى تأجير النساء القبيحات للنساء متوسطات الجمال، ليجدن معجبين. وهكذا أوجد فرصة عمل لنساء، كل مقوماتهن، هى الدمامة، وهو ما يلقى بالتساؤلات حول حقيقة الجمال، ونسبيته، واعتماده على مقارنته بشيء خارجه.
الاحتفاء بالرداءة
لكن القبح داخل عمل فنى متقن، يختلف عن القبح الناتج عن رداءة العمل، فبعض الفنانين يخفقون، وينتجون أعمالا دون المستوى، والغريب أنه حتى هذا النوع وجد الاهتمام، حيث أقيم متحف للفن القبيح، له ثلاثة أفرع فى ولاية ماساتشوتس الأمريكية. وفى بريطانيا توجد جائزة باسم "الدمامل الملتهبة"، وتمنح لأسوأ التصميمات المعمارية فى المملكة المتحدة، وهى بالطبع جائزة تهكمية، غير أن بعض الأعمال التى ينظر لها كأعمال رديئة وفقا للذائقة السائدة، قد يكتشف فيما بعد أنها كانت سابقة لعصرها، وأنها تقوم على جماليات أخرى، ولوحات "فان جوخ" أكبر مثال على ذلك.
وعلى ذكر الأعمال الفنية الرديئة، فقد مثل العرض الأول لأوبرا "تانهاوزر" لـ"ريتشارد فاجنر" فضيحة مدوية، واعتبره الكثيرون عملا قبيحا ومشوها، لأنه خرج عن المتعارف عليه فى رصانة الأعمال الأوبرالية، وكان صادما للذوق السائد وقتها. ولكن تغير الأمر فيما بعد، إذ أوجد العمل مع الوقت ذائقة جديدة تحتفى به. وهى قصة مكررة، حدثت مع معظم المجددين فى الفن.
موسيقى "الهيفى ميتال"، و"الميتال الأسود" من الألوان الفنية التى تتعمد إظهار القبح، سواء على مستوى اختيار الكلمات، أو الموسيقى الصاخبة، وحتى الأداء الذى يشبه الصراخ. ورغم هوس ملايين الشباب بها، لتحررها، إلا أنها استخدمت أيضا للتعذيب فى معتقل "جوانتانامو". والطريف أنه بعد تسرب الخبر، طالبت عدة فرق بالتعويض عن استخدام أغنياتها، داخل المعتقل، ومنها فرق "ميتاليكا"، و"أف إى إم"، و"سكينى بابي"
امتزاج
فى كتابه "ثلاث محاضرات فى علم الجمال" يقول "بوزانكيت" إن القبح فى العمل الفنى يعود للمتلقي، والذى لا تستطيع ذائقته الوصول إلى مكامن الجمال تحت القبح الظاهر. وإذا كان القبح يعنى انعدام القيمة "الجمالية"، فإنه على هذا النحو غير موجود. ويرى "ولتر ستيس" فى كتابه "معنى الجمال" أن القبح ليس مضادا للجمال، ولكنه يخلق شعورا موازيا. فإذا كان الجمال يحقق المتعة "الاستطيقية"، فإن القبح يحقق الألم "الاستطيقي" والاستياء الجمالي، وهو جزء من آلية التطهير فى التراجيديا منذ نشأتها. ويرى "ستيفن بايلي" أنه بدون القبح، لا يمكن تصور وجود الجمال.
وإذا كان معنى الجمال، يحير الفلاسفة، والفنانين منذ آلاف السنين، فإن القبح يزيد الأمر التباسا، خصوصا عند اقترانه بعمل فنى جميل. وربما تكون بعض أعمال الرسام الأسبانى "فرانشيسكو جويا" أكبر دليل على أن الحدود الفاصلة بين الجمال، والقبح، يمكن أن تنهار داخل العمل الفنى نفسه.