ما تبقى من الليل .. رواية اليونان

ما تبقى من الليل
ما تبقى من الليل

كانت الأرض مسطحة كما هى وحلّ الليل فجأة وامتد إلى آخر الدنيا حيث سيتمكن شخص محنى الظهر فى ضوء أحد المصابيح، بعد قرن من الزمان، من رؤية شمس حمراء تغرب من فوق الأطلال. سيقدر أن يرى، من وراء البحار والموانئ المهجورة، بلادًا تائهة فى الزمن تعيش فى وهج النصر، فى العذاب البطيء للهزيمة.

 فكر فى أن التاريخ يُعيد ذاته، رغم أنه لم يكن متيقنًا من أن الأمر يتعلق بالتكرار. بموهبته وإصراره سوف يتمكن من التأكد من ذلك. حمل القلم وأصغى. أصوات، أضواء، روائح. تدفق كل ذلك من جديد.

من جديد حلّ الليل على الأرض المسطحة. تناهت الأصوات إلى مسمعه. أنغام موسيقى هابطة من سوق العطارين، حيث تظل الدكاكين مفتوحة إلى وقت متأخر، صندوق موسيقى يبعث ألحانًا عذبة تملأ المكان وتصعد السلم الطينى. فى غرفة الطابق الأعلى تتشابك الأطراف على الأغطية البالية. خلال نصف ساعة من اللذة التامة، نصف ساعة من اللذة الجسدية المطلقة. أطراف، شفاه، جفون، على السرير الوسخ. قبلات، أفواه تتأوه. بعد ذلك سوف يغادران كلٌ على حِدة مثل هاربين، وهما يعرفان أن هذا، النصف ساعة، سوف يٌخيم عليهما بقية حياتهما، وأنهما سوف يسعيان وراءها من جديد.

ولكن الآن كل ما كانا يرغبان فيه هو أن يخفيهما الليل. وحين نزل كل واحد منهما من السلم استقبلته تلك الأنغام الثقيلة من الموسيقى مرة أخرى. خبطات مدوية تسخر من دقات قلبه. سيقف هنيهة على عتبة الباب ومن ثم يعقد أزرار معطفه ويمضى سريعًا، محتضنًا الجدار، محنى الرأس، وقد رفع ياقته. 

 وقد حدث فى بعض المرات، بالفعل حدث، أن التقت عيناه بعينى رجل آخر يتلمس طريقه مثل فأر فى عتمة الليل.

رجل متوتر، متأنق، قادم من الجهة الأخرى، يمشى مثل منوم مغناطيسى نحو ذلك السلم بعينه، نحو تلك الغرفة بعينها، كى يتمرغ على تلك الأغطية القذرة بعينها.

  تساءل فى سره، ماذا لو أن العشاق لم يستجيبوا للمساتك؟ ماذا لو كانوا تماثيل دافئة، رقيقة الجلد

تستقبل كل المداعبات ببرودة أعمال فنية؟ هذه الفكرة الأفلاطونية أغرته. ولكن فقط إلى درجة معينة. ما نشتهيه هو فى الآن ذاته بعيد وقريب جدًا. شفاه، أطراف، أجساد. شفاه، أفواه متأوهة. سوف يكتب عن ذلك.  تلك هى غاية الفن. إلغاء المسافة.

  تذكر صورة شاب من سنوات ماضية. هل كان فى القسطنطينية؟ «ينى كوي»؟ فتى أمرد كان يعمل مساعدًا لأحد الحدادين. كان جسمه نصف العارى ينحنى على السندان وتتقافز الشرارات إلى صدره اللامع. رأى وجهه يشع بإباء وتخيله متوجًا بالغار. لم يتبادلا الحديث ولم يره ثانية قط. من سيكتب عنه؟ من سينتشله من النسيان، نسيان التاريخ؟
  بعد سنوات، سيكون فى مقدور شخص محنى الظهر فى ضوء مصباح أن يرى شمسًا حمراء تغرب من وراء مدن أسطورية، ويرى أعشابًا محترقة من خلل الحديد الصدئ، حيث كانت تقوم، فى يوم من الأيام، نافورة مرمرية توزع الماء، وكانت القطرات الأخيرة تجف فى ضوء المساء.

سوف يرى الأشعة القرمزية تتوهج على الجسد الفتى للصانع فى «ينى كوى»، وتتيح، خلسة، الفرصة، أجل الفرصة، التى ستبدو متاحة بشكل ملموس، كما لو كانت شيئًا ماديًا، إذ أن ذلك الفتى سوف يتمايل فى تلك اللحظة بين أعمدة ساحة قديمة وسط حشود فى أنطاكيا أو سلوقيا، وسيجذب بجماله أنظار الكثيرين.

  تلك الـ  «بعد سنوات»  هى الآن. هذا ما فكر فيه. هو وحده يرى ذلك. لولا أنه ليس مستعدًا بعد. إلحاحه الداخلى أثاره وجعله يجترح قصيدة بائسة تافهة سرعان ما مزقها وهو يؤنب نفسه. قصيدة تعيسة تقلد الآخرين…كومة من النعوت، وعبارات متأنقة وغنائية سخيفة. كان يكرهها ولكنه لم يكن يعرف كيف يتخلص منها. تساءل فى سره: كيف يمكننى التحرر من نير العاطفة؟

فى الكثير من الأحيان كان ينتابه شعور باللاجدوى والتردد والفشل. الإسكندرية هى المشكلة، فهذه المدينة تخنقه. حياته المحصورة، الدائرة الضيقة من الناس الذين يحيطون به، ممن يعانون من ثقة مفرطة  بالذات. الشغيلة والفلاحون، الأرض التى تشبه شبكة العنكبوت وتنخر رطوبتها العظام كل هذا كان يفتت من عضده.

وهو كثيرًا ما أكد، من دون قناعة، على أنه بحاجة لأن يشطب الإسكندرية من داخله إن أراد التفرغ للكتابة.  ولكنه الآن فى مدينة غريبة تسحره وتنفره فى الوقت ذاته.

عاصمة كوسموبوليتية تشع أناقة وينضح كل ركن فيها، مهما صغر، بالعظمة والأبهة. كان عليه أن يتغلب على مزاجه السيء ويجد طريقة يستمتع فيها بهذه الأيام الأخيرة من رحلته. قال لنفسه أن كفى تذبذبًا، وأنه يجب عليه أن يضع جدول عمل ويتقيد به. عدل ياقته وهو غارق فى التفكير ونزل الدرجات الثلاث إلى بهو الفندق.

«سيد كافافى»، سمع أحدهم يناديه
 كان البهو الواسع فارغًا، وكانت الثريا المركزية تُلقى بضوءها على أرضية رخامية تسطع مثل صفحة بحيرة. أخذ البواب الكهل يخطو ببطء فى اتجاهه.
«سيد كافافى، لقد انتظرك أخوك. غادر منذ دقائق وراح إلى مقهى لابيه».كان مساء صيفيًا دافئًا بلغت الحرارة فيه نحو ثمانين درجة فهرنهايت.

طقس معتدل، هواءه طيب، مناسب للكنزة الخفيفة التى كان يرتديها. شعر بالراحة لأنه لم يقرر ارتداء الجاكيت الكتانى الثقيل. أمر مريح بالفعل أنه لم يقرر ذلك، ثم أسرع الخطى.

ولكنه شعر وهو يسير بخفة، ماشيًا فى أثر الجمع على طول البولفار، حيث كان الحوذيون يتجهون نحو دار الأوبرا ملوحين بسياطهم. شعر بالكآبة، التى عذبته من قبل، وهى تداهمه من جديد، وأدرك أن القلق المعتاد سيغمره عاجلاً أم آجلاً.


«كوستيس، لقد فرغت منه»، قال جون ما إن رآه.بدا فى مزاج رائع. كان يحمل المخطوطة فى يده وأخذ يلوح بها فى الهواء مثل ميدالية.

وضع النادل كوبين يتصاعد منهما بخار من الشوكولاتة على الطاولة.
«شكرًا  لاهتمامك بي».

قال ذلك على الرغم من أنه كان يفضل الشاى البارد.
«والآن؟» سأل جون مع ابتسامة عريضة.
«جئت متأخرًا، لا بد أننى استغرقت فى النوم».
«أنا متأكد أن ذلك أراحك كثيرًا».
رأى امرأة كبيرة فى السن تتجه إليهما، وقد مدت يدها، وهى تجر قدمًا واحدة. كان شعرها متبلدًا، وكانت تتعثر فى سيرها.
«ناولها شيئًا، لا أتحمل رؤيتها».
وصلت المرأة إلى طاولتهما، وألقت نظرة جائعة على صحن البيتيفور.
«اعطها شيئًا»، قال مرة ثانية. ألقى نظرة على المخطوطة التى كان أخوه يحملها فى يده بعد أن طواها وجعلها ملفوفة. كان يجد صعوبة فى تمييز بعض الحروف، التى تميل قليلاً إلى الانحناء مع نهايات حرفى الباء والياء اللذان يتمايلان بجلاء نحو الأعلى.
وقف جون ووضع بعض النقود فى يد المرأة.


«ليباركك الرب»، قالت. كانت هناك أسنان مفقودة فى فمها.
« يبدو أن الرب لم يباركك أيتها المسكينة».
سحبت نفسها مثل صرة بالية إلى الطاولة المجاورة ومدت يدها بتضرع.

«و لكن لماذا؟»، تساءل جون، «لماذا يترتب علينا أن نتقبل القذراة حين تكون مرسومة فى لوحة، بل وأن نشيد بقيمتها الجمالية، فيما نرفضها فى الحياة الواقعية. كان فى وسع هذه المرأة أن تكون جميلة. أى شيء يمكن أو لا يمكن أن يكون جميلاً. هذا يعود إلى نظرة المرء… أو، بدقة أكبر، الحالة الذهنية للمشاهد…».

«لا يمكن أن ندعو كل شيء جميلاً».
«بالطبع بلى، كل ما يخلق فينا الشعور، لم لا؟»
«حتى الحيوان؟ تلك المرأة لديها جمال خنزيرة متمرغة فى الوحل».
« ليس ثمة نوع واحد وحسب من الجمال». بدأ جون، ثم لاذ بالصمت. كما هو الحال دومًا، حين يحاول العثور على كلمة دقيقة تعبر عن فكرته، غرق فى نهر أفكاره. ارتشف الشوكولاتة ثم حركها ببطء بالملعقة الصغيرة. «لماذا تريد أن تتشبث بالمطلق؟» قال ذلك كما لو لم يكن سؤالاً. «أحيانًا أتعجب… ليس من العدل، فى نهاية الأمر». لم يكن ينظر إليه، كان كمن يخاطب شخصًا عابرًا بالصدفة فى الشارع، أو يخاطب باريس كلها.

«دعنى أقرأها»، قال، ومد يده ليأخذ المخطوطة.
  كانت هذه لحظة فراغهما فى فترة ما بعد الظهر. كانا اتفقا أثناء العشاء فى مطعم «لوبروكوب» على أن ينتهزا هذه الفرصة كى يستريحا ويتبادلا الأفكار، وأن يستعيدا لحظات قضياها معًا شهرًا ونصف، كى ينفضا الغبار عن بعض التفاصيل المنسية. كانا يستمتعان بالتسابق فى سرد حكاياتهما، وكانا يفعلان ذلك أغلب الوقت، مبتهجين لتذكر تلك الحظات التى كان أبسط شيء فيها يظهر فى قالب غريب.

هى برهة مفاجئة إلى حد ما حيث كانت الكلمات التى تصف تلك اللحظات تتشكل فى فم كل واحد منهما فى الوقت عينه. عند تلك النقطة كانت تتراكم فى ذاكرتهما كومة كاملة من الأحداث التى تلح عليهما كى يرويانها ويضحكا بسببها، وتتشكل عندهما صورة عن ردود الفعل التى ستخلقها هذه الحكايات عندما يأتى الوقت ليلقيا بها على المسامع حين يرجعان إلى الإسكندرية، فيسخران من العثرات التى واجهتهما فى هذه الرحلة، مثل انتفاخات بطن خالتهما فى مطعم «هولاند بارك»، حيث أطلقت دوى ثلاث ضرطات فخمة، متلاحقة بشكل سريع. لا واحدة ولا اثنتان، بل ثلاثة. حاول الآخرون أن يسعلوا كى يغطوا على الصوت ولكن ذلك لم يفلح فى حل المشكلة لأن الرائحة الكريهة التى لا تطاق كانت سريعة الانتشار ونهض الجميع عن الطاولة، واحدًا بعد الآخر، غير آبهين لاحتجاج خالتهم التى كانت ترتدى عباءة سوداء ذات طوق. «ولكن لماذا تنهضون يا أعزائي؟ آمل ألا يكون السمك أثقل عليكم. لا بد أنه السمك».

 ومن ذلك الحين صاروا، كلما حدث شيء غريب أو منفر، يقولون لبعضهم بعضًا: لا بد أنه السمك».
حكاية الضرطة ستعجب الماما كثيرًا. ستلح علينا كى نرويها مرة بعد الأخرى. فكر لنفسه. لابد أنه السمك، كرر ذلك فى داخله وكاد أن يضحك بصوت عالٍ. بطرف عينه رأى جون ينظر إليه وينتظره.

«أحبها»، قال وأطلق سعلة خفيفة جافة. «إنها قصيدة قوية جدًا. أحب أن أقرأها مرة ثانية».
بدت له نبرة صوته مزيفة.

ولماذا سعل بحق الشيطان؟ لقد كانا دومًا صريحين مع بعضهما البعض بشكل تام، أو هذا على الأقل ما كان يعتقده. اليوم وحسب بدا له أن عليه أن يلاحظ كلماته. لم يكن شيئًا بسيطًا زلة اللسان التى حدثت أمس. فى منتصف العشاء وبينما كانا منهمكين فى تناول الحمام المشوى مع البازلاء، وهما يتحدثان بهدوء عن موضوع أدبى لم يعد يتذكره، قال بشكل عابر: «ليس ثمة مكان لشاعرين فى عائلة واحدة». ثم ندم على ذلك فورًا. فى البدء تظاهر جون بأنه لم يسمع ولم يبد أى ردة فعل.

ولكن بعد لحظات رفع نظارته وقال: «فى هذه الحالة أظن أننى سأزيح جانبًا، بصحتك… آ تا سانتي».
  بذل محاولات لرأب الصدع استمرت إلى وقت متأخر من الليل، وهو اقترح على أخيه أن يُعيد كتابة قصيدة قديمة ويركز حبكتها على الحريق الذى نشب فى بازار الشاريتيه، الذى بقيت آثاره تُخيم على باريس حتى ذلك الوقت. مناسبة النسخة القديمة كانت حوارًا سمعه أحد أصدقاء جون فى افتتاح عمل فنى فى الإسكندرية. سيدة مجتمع يونانية، زوجة تاجر ناجح لم يذكر الصديق اسمها كانت تُحدق فى لوحة غروب الشمس، رُسمت بلمسات حمراء وقرمزية، وهى تميل إلى كتف الرجل بجانبها، وهو شخصية معروفة فى المجتمع اليونانى، ومتزوج لم يذكر الصديق اسمه أيضًا ـ  وهمست بآهة عميقة: «أفضل أن أغرب بين أحضانك». لم يستغ ذلك، التشبيه أو الاستعارة، أيًا يكن، ولكن جون ضحك ودوّن ذلك فى دفتره. فى ما بعد كتب قصيدة عن قصف الإسكندرية عام 1882 والحريق الذى تسبب به. فى القصيدة تقوم كلمات السيدة اللطيفة مقام الطباق الساخر للمأساة والخراب الذى عمّ المدينة. «القصيدة ضعيفة وعديمة التماسك»، قال لشقيقه. العبارة التى كان يشير إليها غابت عن النسخة الحالية للقصيدة ولكن بدلاً منها حضرت عبارة لا تقل تفاهة وهى « غروب الصداقة والأحاسيس». فقط اسمع ذلك، غروب الصداقة والأحاسيس.
«هل لاحظت الشطر الثاني؟» سأل جون. «سأتلوها عليك باليونانية. لقد ترجمتها، والقافية غدت أفضل». برم شاربه قبل أن يبدأ فى القراءة:
تفحمت المشدات والأحزمة
تحول الوشاح إلى رماد
احترقت التنانير التى مازالت رائحتها
تعطر الخزانة.

«لقد أردت»، مضى قائلاً، «أن أشدد على حقيقة أن الحريق فى السوق يشغل بال الأغنياء وحدهم. فما يهم إن ماتت العشرات من الخادمات؟ لقد احترقت الكونتيسة ميميريل وماركيزة إيزل. احترقت شقيقة الإمبراطورة أيضًا. هذا ما يهمهم. قد تحترق قرية بأكلمها فى بريتانى دون أن يثير ذلك مثل هذا الهياج الوطنى. هل فهمت؟»
«أتفق معك. مع أنى لا أرى أى فرق. المأساة هى مأساة».
«لا يعنى هذا، بالطبع، أننى كنت أريد أن أكتب قصيدة اجتماعية».
  قصيدة فاشلة. فكر لنفسه. تذكر الأيام القليلة الأولى بعد وصوله إلى باريس قادمًا من مارسيليا حين كانت رائحة الكبريت ما تزال تعم المكان وكانت الفنادق توزع مناشف رطبة على السيدات. والواقع هو أن البازار ظل يحترق لأيام حيث بقيت الأربطة والأقمشة الخفيفة المكومة فى الداخل تلفظ أنفاسها وتموت ببطء. وقد تحول، أى البازار، إلى أكثر الأمكنة استقطابًا للزوار فى باريس حيث كانوا يأتون من كل النواحى لإلقاء نظرة على الجثث المتفحمة فاغرى الأفواه.

«وقع ذلك فى الرابع من مايو، أليس كذلك؟»
«أظن ذلك. سمعنا بالأمر على متن القطار، ألا تتذكر؟»

  فى زاوية «بولفار كابوشين» ارتفعت غيمة من الدخان الأبيض، وكانت هناك جمهرة من السائقين لا يكفون عن الصراخ. يبدو أن مدخنة قد انفجرت. ظهر شخص أسود من بين الدخان واتجه صوبهم.

قال: «انظروا، عزيزتكم أفروديت الأثيرية سدت طريقنا مرة أخرى، إنها تبدو دائخة أكثر من ذى قبل».
 استدار جون كى يلقى نظرة. مرت المرأة المتسولة فى الممشى الجانبى وهى تترنح وتصطدم بالطاولات. أسرع نادل من مقهى «ديلا كروا» كى يبعدها هو يصرخ، ثم سرعان ما دفعها. سقطت المرأة على الأرض وتدحرجت على ظهرها.  بدأت تتكلم إلى السماء.


«أنت تسيء إلى فنك“، قال جون بطريقة مهذبة ولكن بحزم. فتح الصفحة التى تضم القصيدة واستند بظهره إلى الكرسى، متصنعًا أنه يقرأ.
 لا بد أن الأمر يتعلق بالعمود. هذا ما أراد أن يقوله لجونى.

خالتهما راقت له كثيرًا هذا اليوم. كل ما فى الأمر هو أنه لم يكن يعرف كيف سيكون رد فعل أخيه. يمكن أن يثير ضحكه من جديد. كان على وشك أن ينطق العبارة حين ظهر رأس كبير بشعر يشبه صوف الغنم وعينين زرقاوين تمامًا ومفتوحتين على وسعهما.
 بدأ رأس الغنم من فوره بالتكلم بصوت ناعم حنون وهو ينقل عينيه بين الأخوين. 


«أيها العزيزان، أيها العزيزان…كم العالم صغير، أليس كذلك؟»
«صدقت أيها الليليبوتى، يا للمفاجأة السعيدة». قال جون ونهض كى يستقبل الغريب بحرارة. 
«رأيتكما من على مدرج الأوبرا وقلت لنفسي: هل يعقل هذا؟ وركضت بأقصى سرعتى. أوه أيها الصديقان العزيزان القديران».
«قسطنطين»، قال جون، «سلم على نيكوس مارداراس».

كانت مصافحة الغريب قوية كادت تخلع ذراعه.
«إذًا، لقد عدتما إلى باريس؟ ياللحظ، يا للمصادفة السعيدة».
قال نيكوس مارداراس بأنه عرف بوصول الأخوين منذ فترة، وأنه حصل على اسم الفندق من أصدقاءهم المشتركين فى مارسيليا، ولكنهم أخبروه بأنهما غادرا إلى إنجلترا.


  هز خصلات شعره المجعد وأخذ يستفسر عن تفاصيل بقاءهما فى باريس، أين تناولا العشاء، التقيا بمن، مهتمًا كثيرًا بما إذا كانا ارتادا الأماكن المناسبة، «أوه، لقد زرتما الكوميديا الفرنسية ورأيتما صالون هذا العام، جيد جدًا». قال مستحسناً، وهو ينقل بصره من واحدهما إلى الآخر، كما لو كانا شريحتين من الطعام أمامه ولا يعرف أيهما يختار.

جون، الذى بدا مبتهجًا بالزيارة المفاجئة أجاب فرحًا على سيل أسئلته واندهش قسطنطين حين سمعه يقول أن من المعيب أنهما التقيا متأخرين، وأن زيارتهما إلى باريس كانت على وشك الانتهاء، إذ سيمكثان هناك ليومين أخريين وحسب، أى اليومين الأخيرين من هذه الرحلة المملة. إنه لأمر معيب بالفعل.

 هو نفسه لم يكن متأكدًا مما إذا كان هذا الاقتحام من جانب مارداراس قد أزعجه. بقى يتفحصه بفضول وهو صامت لعدة دقائق. رأسه بالتأكيد هو ما يميزه أكثر من أى شيء آخر. ذاك الشعر الكثيف، القاسى، الأشقر، المغسول، مثل تبن خارج من مخدة. شاربه أيضًا كثيف، بنى فاتح. الصدر الواسع، المنفوخ إلى حد ما، لا يتناسب مع بقية جسمه.

جلس على الجانب الآخر من الطاولة وأحاط عصاه الرفيعة بفخذيه القصيرتين فبدا مثل نعجة واسعة العينين جاءت فى زيارة صباحية. كان متأنقًا إلى أبعد حد على الرغم من أن نظرة متفحصة تكشف أن سترته بالية وأن خيوط قميصه تلمع، والوردة التى فى عروة ياقته بدأت تذبل، يبدو أن يومين مرا عليها. بدا اسم مارداراس أليفًا إلى حد ما، وحاول أن يتذكر أين سمع به.
«سمعت أنك تحقق نجاحًا باهرًا فى مقاربة فن الشعر الجميل».

قال مارداراس، كما لو أنه يتذوق شرابًا حلوًا.
كان يتقرب من قسطنطين.
«جون هو شاعر العائلة“، قال وهو يرمق أخيه. عندما رأى وجه جون تمنى لو أنه لم يتكلم. ذلك المديح السهل كان سلوكًا خاطئًا.
«طبعًا، طبعًا،  عزيزنا جون أيضًا“. وافق مارداراس سريعًا.
وسرعان ما بدا أنه استنفذ اهتمامه بالشقيقين، مؤقتًا على الأقل، فقد أخذ يجول بناظريه نحو الطاولات محاولاً التعرف إلى بعض الوجوه الأليفة.
«اعذرانى لحظة من فضلكما»، قال مارداراس ونهض من كرسيه.

«من هو بحق الله؟» وجّه السؤال بسرعة إلى جون، الذى لم يجد الوقت ليجيب قبل أن ينط مارداراس عائدًا للجلوس بجانبه.
«فولس ألارم»، إنذار كاذب، قال بالإنجليزية، ثم انفجر ضاحكًا.

 بدا متشوقاً جدًا للثرثرة. أخذ يطلق صيحات صغيرة ويخبرهم كيف أن سيدة مجتمع مشهورة وضعت عينيها عليه وأنه ظن أنه عرف أحد أصدقاءها يجلس على طاولة مجاورة فأسرع إلى إلقاء السلام عليه كى لا يحصل سوء فهم، هاها. فى كل حال لم يكن سوى إطراء عابر، هيجان شعورى صغير. ثم أنهى القول بنوع من الرضا بأن لا شيء جدى.

 كان الناس يأتون ويغادرون، سيدات متأنقات حاملات مظلات قماشية بيضاء، يجرجرن أولادًا أنيقين خلفهن، وفى أعقابهن خادمات يحملن أغراضًا تم شراؤها من جاليريهات «لافاييت»، فيما بقى مارداراس جامدًا فى كرسيه يدلى بين الحين والآخر بتعليق صغير عن ملابسهن وكيف أن مشدات هذه السنة تضغط بقوة على الصدور فتجبر النهود على الاندفاع للأمام بشهية، مثل سلال من الفاكهة، أو كيف أن صدريات الكرينولين قد اختفت بالكامل على ما يبدو، ولم يعد أحد يرتديها سوى نساء الأقاليم وربما قلة من البرابرة الأجانب، لأنه ليس ثمة شك بالطبع فى أن الموضة الفرنسية هى الرائدة فى العالم. بضربة واحدة من الفرشاة يستطيع الفرنسيون تغيير الطلة النسائية.

بالتأكيد يعرف الإنجليز أيضًا الكثير فى هذا الشأن ولو أنهم لا يفصحون عن ذلك، «ولكن ليس باليد حيلة يا صاحبى، اعذرنى على القول أن الحضارة تتوقف عند القنال الإنجليزى». سرد أسماء العديد من الشعراء والرسامين، وتوقف بشكل خاص عند كاتب شاب يدعى مارسيل بروست. لم يكن هذا الاسم معروفًا لى.  يبدو أن أناتول فرانس هو مثله الأعلى، وقد أصاب هذا البروست بعض النجاح. أشاد مارداراس بشاعر آخر، أيضًا، لم يكن سمع به هو الآخر. كان الاثنان مشهورين يتلقيان الدعوات من أرقى الصالونات.

  بعد ذلك بقليل هرع مارداراس نحو طاولة أخرى فمال جون ليقول إنه لم يكن يعرفه جيدًا على الإطلاق.  لقد التقيا مرة واحدة فقط فى القاهرة، أثناء زيارة قام بها علماء آثار فرنسيون. كانوا ثلة غريبة، معظمهم هواة. لا يتذكر الآن تفاصيل تلك المناسبة. ولكن الشىء الذى لم يغب عن باله بالفعل هو أن مارداراس كان يعيش فى باريس منذ سنوات بفضل ميراث حصل عليه من خاله.

«يبدو أنه ترك انطباعًا جيدًا لديك».
«أنت تبالغ قليلاً. ولكن فكرت فى أن نتناول العشاء معه غدًا.  يبدو أنه يعرف الجميع فى باريس. وهو مسلٍ إلى حد كبير».
«مسل؟ هل أنت جاد فى قول ذلك؟»
«حسنًا، فى وسعه أن يكون مضجرًا أيضًا، على ما أظن».

«إنه بالأحرى لا يطاق“، قال، مقلدًا مارداراس فى طريقته بالجلوس على الكرسى منتصبًا بعينين محملقتين وقد أحاط عصاه بردفيه.
ضحك جون.

«أنت كاريكاتورى ممتاز. على أى حال، يستحق الأمر أن نجرب. فى مقدوره أن يعرفنا إلى الفنانين المشهورين، الذين لن نستطيع من غير ذلك الحصول على فرصة للالتقاء بهم.  سمعت أنه صديق جان مورياس. نوع من صديق وسكرتير بدون راتب».

أثار اسم جان مورياس قلقًا غامضًا ظل يرافقه فى الأيام القليلة الماضية من رحلته وسعى جاهدًا لأن يتخلص منه.
تساءل فى سره عما إذا كان جون يعرف أنه أرسل قصيدتين إلى عنوان مورياس فى باريس. «جدران» و «خيول آخيل». لا بد أن يُطلع جون على ذلك فهو كان على الدوام يخبره بكل شيء يقوم به.

لقد بعث الرسالة منذ شهرين ولكنه لم يتلق أى رد حتى الآن. فى هذا الوقت عاد مارداراس إلى طاولتهما، وقبل أن تصل مؤخرته إلى الكرسى، شرع فى القول إن الشيء الأكثر بذخًا وبهاءً مما يمكن لأى شخص أن يتخيله قد حدث توًا. شيء لا يمكن التنبؤ به، لا يمكن أن يحلم به المرء، شيء إلهى.

«معلومة تساوى ألف فرنك»، قال بلهجة ظافرة.
«هل تتعامل مع البورصة؟» سأل جون.
«لا، لا شىء من هذا القبيل». أجاب مارداراس.
لزم الصمت لحظة، مقطبًا ما بين حاجبيه وماطًا شفتيه. اكتسى وجهه ملامح رجل يقاوم إغراء الكشف عن شىء مثير للغاية.
«لا أستطيع الإفصاح عنه، إنه سر».  قال أخيرًا.

ياله من مهرج. قال فى داخله. يريد أن نتوسل إليه قبل أن يتفضل بالكشف عن واحدة أخرى من سخافاته.  جون المسكين ساذج للغاية يتعلق بكل كلمة يتفوه بها. ما كان يشغل باله فى تلك اللحظة أكثر من أى شىء آخر هو القصيدتين اللتين أرسلهما إلى مورياس.

متى بالضبط وضع المغلف فى البريد؟ لا يستطيع أن يتذكر. لربما كان مورياس أرسل إليه الرد فى الوقت الذى كان غائبًا فيه عن البيت، وأن الرد هناك فى الإسكندرية ينتظره. هذا احتمال غير وارد للأسف، فأمه وأخوه بول يتفقدان البريد يوميًا، وكانا أخبراه لو حصل ذلك. هما يفعلان ذلك دومًا.
«الحكومة على وشك السقوط». سمع مارداراس يقول.
«بسبب تلك المعلومة السرية التى تلقيتها للتو؟»
«أعتذر، فأنا أقفز من موضوع إلى موضوع آخر. هذه نقيصتى الكبرى». قال مارداراس. «تلك المعلومة تحمل طابعًا شخصيًا، كيف يمكننى توضيح ذلك… إنها مسألة شخصية، تنتمى إلى ميدان المتعة، التسلية. أما هذه فإنها تتعلق بالقضية».
«كنا نتحدث عن القضية»، قال جون غامزًا.

«أى قضية؟»
«القضية، ياعزيزى، قضية درايفوس. باريس كلها فى عراك بشأنها. درايفوس ضابط المدفعية اليهودى الذى جرى نفيه بتهمة الخيانة. كانت هناك أدلة. ثبت أنه باع أسرارًا عسكرية للألمان. ولكن ارتفعت الآن مجموعة من الأصوات الغاضبة التى تشكك فى الأمر».
«سمعنا عن الموضوع من الصحف فى الإسكندرية“، قال بحزم.

«آه، بالطبع، صحف الإسكندرية. الأرجح أنك تجهل الحجم الذى اكتسبته القضية فى هذه الأرجاء. أخوة السلاح لا يتبادلون التحية. الأزواج يتواصلون عبر الرسائل. الحكومة ستسقط بالتأكيد، يا عزيزى قسطنطين، أؤكد لك ذلك».
«ما موقف أناتول فرانس فى هذا الشأن؟» سأل.

لم يكن مارداراس يتوقع هذا السؤال.
«لا أظن أن ثمة أى شك فى موقف أناتول فرانس»، قال جون: «آراؤه معروفة لنا». كما تذكر فهو شرح جذور اللاسامية فى إحدى قصصه، «وكيل يهودا».
«وما هو موقفك؟» سأل.

سيتضح الأمر لك، فكر فى داخله. مارداراس بالطبع لا رأى له. حرك رأسه الذى يشبه رأس الغنم وفتح فمه كى يبربر ثم سرعان ما أغلقه.
  انتقل الحديث إلى موضوع آخر: «لو توـ باريس». شرح مارداراس معناه لجون.  قال إنه معنى فريد لأن «لو توـ باريس» لا يشبه قرائنه فى أوساط النخبة فى أثينا والعواصم الأخرى. الفئات الأرستقراطية والطبقات العليا فى باريس ترعى الفنون بجدارة ولم يكن أمرًا غريبًا أن يحظى شاعر من خلفية اجتماعية دنيا بالاهتمام بين لحظة وضحاها وتتم دعوته إلى أرقى الصالونات، طبعًا بشرط أن يتمتع بالموهبة وبمن يقدمه إلى الآخرين.
«يعنى ليس مهرج بلاط»، قال.

«أبدًا»، قال مارداراس بحدة. «هؤلاء فنانون حقيقيون، من الدرجة الأولى. أستطيع أن أسرد لك الأسماء إن شئت».
ولكنه استدرك وقال:  «ومع ذلك، إذا شاء فنانك هذا أن يحظى بالدعم لابد له من القيام ببعض التنازلات، وهى تنازلات من شأنها أن تلحق الأذى بفنه».

«اسمح لى أن أذكر لك بعض الأشخاص كى تفيدك فى تكوين رأى».
«ما الفائدة من ذكر الأسماء؟ فيم يختلف شاعرك عن أولئك المتزلفين الذين يركضون خلف الإمبراطور العارى وهم يكيلون له المديح؟»
قال ذلك دفعة واحدة، واستغرب كيف أنه سقط فى فخ النزال مع هذا الأحمق.
«أى إمبراطور عار»، قال جون. «أظن أننا ابتعدنا عن موضوعنا».

«يهمنى أن أشير، مع ذلك»، قال مارداراس، «إلى شىء يردده مورياس دومًا. إنه شيء يتفق مع الأفكار التى تتبنونها. يعتقد مورياس أن موهبة الفنان فى أيامنا هذه أقل أهمية من قدرته على الوصول إلى الأوساط ذات النفوذ».

تظاهر بأنه لم يسمع. كيف يستطيع مورياس أن يضع مصيره فى يد شخص مثل مارداراس؟ سكرتير من دون راتب. من دون راتب؟ هذا يفسر الأمر.

رمق جون ثم نهض عن الكرسى.
قال إن جسمه تصلب وأنه بحاجة لأن يتمشى قليلاً. لن يبتعد كثيرًا. انسل من بين الطاولات بخطوات واسعة تضع مسافة بينه وبين الجالسين. وصل إلى زاوية شارع «كابوشين» وتوقف لحظة واضعًا يديه فى جيبى سترته. فكر فى الذهاب إلى البازار ليعاين ما تبقى من جثتها. ولكن ذلك سيأخذ وقتًا، الطريق طويل إلى هناك. من دون قصد أخذته خطواته إلى الجهة الأخرى. ياله من مهرج. ياله من شحاذ. قال لنفسه.  لقد أسقط أكثر من خمسين اسمًا فى أقل من نصف ساعة. لقد أفسد حضور مارداراس مزاجه.

ولكنه فى الوقت نفسه أدرك أن رد فعله كان مبالغًا فيه، وهذا ما أزعجه أكثر. فى موقف كهذا كان عليه أن يكتفى بالابتسام على تلك السخافات بانتظار أن ينقضى الأمر ويبقى هو وجون لوحدهما فيترك العنان آنذاك لدعاباته. ماذا جرى له؟ لماذا أصبح مفرط الحساسية على هذا النحو؟ انسل من بين المارة غير آبه للوجهة التى تقوده قدماه إليها.

  شعر بالتحسن. كانت أمواج المارة تمضى باتجاه الجادات الكبيرة، وهى تسير فوق الأرصفة العريضة التى تكتظ جنباتها بالمقاهى، وفى الأعلى تمتد المظلات القماشية، وتدخل فى أروقة تتخذ فيها الأجسام أشكالاً متماوجة قبل أن تختفى.

أخذ نفسًا عميقًا وتبع ذلك الموج الهادر نحو الصخب والغبار. الحشود تتجمع فى التقاطعات قبل أن تفترق ثانية وتتوزع على واجهات المحلات أو تسير بمحاذاة حافلات أنيقة أو عربات تجرها أحصنة تطرق  وتمضى فى ضوء النهار الأرجوانى.

باعة الصحف الصغار فى زوايا الشوراع ينادون بآخر الأخبار. عند مفترق شارع الأهرام توقف بغتة كما لو أن سحرًا نزل عليه. الوجوه تأتى نحوه بسرعة ثم تعبر متفرقة، أصبح السير لا يطاق فى شارع ريفولى حيث تنحنى أقواس اللوفر مثل جدار بحرى مقبب.

جموع من الأصدقاء يتسللون إلى الشوارع الجانبية. لا بد أن خطواتهم ستأخذهم، فى ما بعد، إلى أماكن أبعد، خلف الطريق المألوف. أسرار. جيران سيئو السمعة. مداخل بيوت مظللة وغرف فى القبو. فكر فى ذلك وشعر برجفة فى أعماقه.

اقرأ ايضا | الجالية اليونانية وكرة القدم