أحمد الجمَّال
الاهتمام بحقوق الإنسان فى السجون المصرية ليس أمرًا جديدًا، فالشرطة جهاز وطنى ترتكز عقيدته على إرساء قيم ومبادئ حقوق الإنسان، وقبل نحو 67 عامًا شهدت مصر تجربة كانت وقتذاك فريدة من نوعها وهى السجون المفتوحة التى يُسمح فيها للنزلاء الذين يتمتعون بحُسن السير والسلوك وقاربت مدة حبسهم على الانتهاء بمساحة من الحرية يمارسون فيها حياتهم بلا أسوار ولا أبواب باستثناء الباب الخارجى للسجن.. آخرساعة رصدت هذه التجربة فى تقرير بالصور عام 1955، نعيد نشره بتصرفٍ محدود بالتزامن مع عيد الشرطة الـ70 فى السطور التالية:-
تجربة جديدة بدأت فى الأسبوع الماضى (مطلع مايو 1955).. لقد نزعت الأسلاك الشائكة التى تغطى أسوار سجن الجيزة، ودخلت الحرية عبر باب السجن المفتوح الذى يعيش بلا حراس ولا قضبان.. وخلع المسجونون البدلة الزرقاء الخشنة، ووجدوا أنفسهم يتحركون فى الزى الجديد الذى يمسح الفارق الضخم بينهم وبين المجتمع.
هناك الآن 120 سجينًا يعيشون فى هذه التجربة الجريئة، بعد أن تغيَّر فجأة كل شيء فى حياتهم.. الأكل والعمل والنوم، وأصبحت الحياة فى هذا السجن هى نفس الحياة التى تسير فى معسكرات الجيش، إن حكاية التجربة المثيرة بدأت منذ ستة شهور بالضبط، حينما دخل الصاغ ضياء الدين سالم مكتب اللواء محرم عثمان، مدير السجون، وفى يده النقاط الأساسية للفكرة، وقال اللواء عثمان: إن الشيء الوحيد الذى ينقص السجون المصرية بالفعل هو نظام السجون المفتوحة والمتوسطة الحراسة.
وبدأ التنفيذ، ووقع الاختيار على سجن الجيزة لكى يكون المعمل الذى تتم فيه التجربة، وطلب الصاغ ضياء الدين من المسئولين أن يقوم المسجونون بأنفسهم بتحويل هذا السجن إلى سجن مفتوح، وكانت وجهة نظره أن المسجون حينما يصنع الحرية بيديه سوف يحافظ عليها بعد ذلك.
وكان الشرط الوحيد الذى وضع لاختيار هؤلاء المسجونين، هو سلوكهم أثناء الفترة الطويلة التى قضوها فى السجون والليمانات، وبدأ الاختيار مِمَن قضوا فى السجن فترة تتراوح بين عشر سنين وخمس عشرة سنة، ويكون قد بقى ستة شهور أو سنة للإفراج عنهم.
حكاية أول يوم
وجاء المسجونون، ووقف بينهم الصاغ ضياء الدين، مدير السجن الجديد، وأخذ يشرح الفكرة.. وقد روى قصة اليوم الأول فى هذه التجربة قائلًا: كنت أحس برهبة عجيبة وأنا أنظر إلى الطابور الطويل الذى يقف أمامى فى انتظار المفاجأة التى جاءوا من أجلها ولا يعرفون عنها شيئًا، وكانوا خليطًا عجيبًا، بعضهم قادمٌ من ليمان طرة وليمان أبوزعبل، والبعض الآخر من سجن مصر أو سجون الأقاليم.
وأشرت إلى باب السجن المفتوح الذى يقف عليه جندى واحد بلا سلاح، وقلت لهم إنهم يعيشون الآن فى معسكرٍ صغير سوف يبدأون فيه حياة أخرى قبل أن يخرجوا إلى الحياة ويواجهوا الناس.. ومضيت أتكلم.
ثم سكتُ، ونظرتُ إلى الطابور الذى يقف أمامى ووجدت الدموع فى عيونهم جميعًا، ومرت فترة صمت انطلقوا بعدها يصنعون الحرية بأيديهم.. مجموعة ذهبت تنزع الأسلاك التى تغطى جدران السجن، ومجموعة أخرى أخذت تنزع القضبان الضيقة التى تغطى النوافذ، وآخرون يزرعون أرض السجن ويحولونها إلى حديقة صغيرة.
السرير بعد البُرش
الحياة فى هذا السجن المفتوح تبدأ فى الساعة السادسة والنصف صباحًا، حينما يذهب كل مسجون لكى يأخذ حمَّامًا باردًا أو ساخنًا تحت الدُش، ثم يصلى الصبح ويؤدى بعض التمرينات الرياضية، وبعدها يذهب الجميع إلى المطعم لتناول طعام الإفطار، وبجانب الطبق توجد ملعقة وفوطة وكوب ماء.
وفى الساعة الثامنة بالضبط يبدأ العمل فى الورش وفى معمل التفريخ ومزرعة السجن، ويستمر العمل حتى الساعة الثانية بعد الظهر حينما يجيء ميعاد الغداء وبعده يصلى الجميع الظهر ثم يستمعون إلى الدرس الدينى اليومي.. وفى الساعة الثالثة يجيء دور التعليم، وهناك مدرسة صغيرة مكونة من ثلاثة فصـــول تســتقبل المســــجونين كـــل يــــوم، ويظل الجميع فى المدرسة لمدة ساعة، يبدأ بعدها النشاط الرياضى مثل الكرة الطائرة وشد الحبل والتحطيب حتى صلاة المغرب، وبعد ذلك تبدأ فترة راحة قصيرة قبل العشاء فى السادسة والنصف ويقضونها فى قراءة جرائد ومجلات اليوم والاستماع إلى الراديو، والذى يحدث عادة بعد العشاء هو أن جميع المسجونين يذهبون إلى النوم فى الحال، وفى عنبر النوم النظيف يجد كل واحد منهم سريرًا نظيفًا ودولابًا خاصًا يضع فيه حاجاته، وطوال الليل يظل كل شيء مفتوحًا فى السجن بلا قيود وبلا حراس، ما عدا الباب الخارجى الذى يُغلَق فى الساعة السادسة والنصف مساء تمامًا مثل أبواب المعسكرات والكليات العسكرية.
حفلة أسبوعية
وهناك حفلة سينمائية كل أسبوع تبدأ بعد العشاء مباشرة، وفى ليلة نصف شعبان الماضية أقيمت حفلة سمر غنى فيها هؤلاء المسجونون وشاهدوا ألوانًا من المرح استمرت حتى منتصف الليل،وفى يوم شم النسيم أخذوا إجازة من العمل فى السجن وخرجوا إلى حدائق الجيزة وأكلوا الفسيخ والبيض الملوَّن وعادوا فى آخر اليوم وهم لا يصدقون الحلم الذى عاشوه.
إن النظام الذى يطبق الآن فى هذا السجن المفتوح هو نفس النظام الذى يجرى فى الكلية الحربية، ويختلف عنه فى شيء آخر، فهناك مجلس إدارة من المسجونين أنفسهم هو الذى يتولى إدارة السجن وتسيير العمل فيه، وجميع الأوامر التى تسرى فى السجن يصدرها هذا المجلس.
والفكرة من ذلك هى ألا يتدخل مدير السجن فى الأشياء الصغيرة التى تجرى فى حياة هؤلاء النزلاء وتعتبر من شأنهم وحدهم، مثلًا إذا حدث أن اعتدى واحد منهم على زميله، يُعقد المجلس ويُسوى المشكلة بين الاثنين بطريق ودى، ولكن إذا وجد أن هذا المعتدى سوف يكون بذرة فاسدة للشر فى السجن فللمجلس أن يطلب إبعاد هذا النزيل من السجن.
أما زيارات إهالى المسجونين لهم، فقد نُظِمَت بحيث تكون كل أسبوع، ولكن لن يفصل حاجز الأسلاك بين المسجون وأهله فى هذه المرة، فالنظام الجديد يجعل الزيارة تتم فى غرفة خاصة وحول طاولة صغيرة، ويستطيع المسجون أن يقدِّم لأهله القهوة والمرطبات من بوفيه السجن،وسوف يُتّبع النظام الأمريكى بعد ذلك، وهو أن يقضى المسجون طوال اليوم مع أهله فى السجن.. يأكلون ويشربون ويمرحون معه، ويعتبر ذلك اليوم عطلة أسبوعية فى السجن.
ولا بندقية واحدة!
وكل نزيل عنده الآن طاقم كامل من الملابس الجديدة.. بدلة أخرى واكاسكيتب بُنيِّة اللون للخروج، وبدلة أخرى رمادية أو بيضاء للعمل، وملابس خاصة لطابور الرياضة والألعاب المختلفة.
إن المسئولين عن السجون المتوسطة الحراسة يقولون: إنها فترة انتقال بين السجن والحياة العامة، يستعد السجين فيها لمواجهة المجتمع، ولذلك لا يراقب الحالة فى سجن الجيزة الآن إلا 34 ضابطًا وجنديًا فقط، كل مهمتهم مساعدة المسجونين على تنظيم إدارة السجن، والشيء المهم هو أن الذى يدخل من باب هذا السجن لن يشاهد بندقية واحدة، ولا فى يد الجندى الذى يقف على الباب المفتوح.