دروس من دار الافتاء في احترام الخصوصية .. تعرف عليها

صورة موضوعية
صورة موضوعية

تُعتبر قضايا الخصوصيَّة من القضايا الـملحَّة في العصر الحديث؛ بسبب التقدم التِّقَني والوسائل المستحدثة التي تعتمد على اختراق خصوصيَّة الإنسان بشكلٍ غيرِ مسبوق.

للحَدِّ الذي أصبح فيه الإنسانُ في العصر الحديث كائنًا معلوماتيًّا، يتكوَّن من معلوماتٍ شتَّى تحصُل عليها وتستخدمها أطراف عديدة؛ كشركات التَّسويقِ والبنوك والاتصالات ومواقع التَّواصُلِ الاجتماعي على شبكة الإنترنت.

وهو دائمًا مرصودٌ من آلاتِ تصويرٍ مثبَّتةٍ في الشوارع والميادين والمتاجر والمؤسَّسَات وغيرها، بل وصلت الأمورُ حدًّا جعل العميلَ مع مثل هذه الشركات والمستخدمَ لتلك المواقع شريكًا في كشف خصوصيَّةِ نفسه وأيضًا انتهاك خصوصيَّة الآخرين.


فبمجرد التعامل مع البنك أو الشِّراء من بعض المتاجر بواسطة بطاقات الائتمان أو تسجيل بعض البيانات الشَّخصيَّةِ على أحد المواقع؛ لاستخدامها وإتاحة حقِّ الحصول على بعض المعلومات الشخصيَّة الأخرى الموجودة على الأجهزة الخاصة بالإنسان، مثل أرقام الهواتف وعناوين البريد الإلكتروني للأصدقاء والأشخاص الذين يتعامل معهم، بمجرَّدِ حصول الشركات والمواقع على هذه المعلومات يتم تخزينها تلقائيًّا وتحليلها وتصنيفها من أجل الاستفادة بها وأحيانًا لبيعها،

فيُفاجأ المرء برسائل على هاتفه أو بريده الإلكتروني من جهاتٍ مجهولةٍ لا صلة بينه وبينها تعرض عليه مواد أو ترسل إليه إعلانات لم يطلبْها، أو اقتراحاتٍ بإقامة صِلاتٍ مع أشخاصٍ معيَّنين، أو عرضِ إعلاناتٍ عن أشياء سبق البحثُ عنها، وكلُّ ذلك بسبب احتفاظ هذه الجهات التي سبق التعامل معها مباشرة أو بواسطة لكَمٍّ كبيرٍ من المعلوماتِ وتتبع سلوك الإنسان في شرائه واهتماماته؛ لاستغلاله في تنمية إيرادات البنوك والشركات وتزيين احتياجه لأشياء غير ضرورية بالنسبة له غالبًا.


إن إنسان العصر يعيش في واقعٍ له سماتٌ جديدةٌ؛ من أهمِّهَا: انتهاكُ الخصوصيَّة، سواءٌ بحقٍّ أو بغير حقٍّ؛ فربما كان مقبولًا التعدي على بعض الخصوصيَّةِ من أجل توفير قدرٍ من الأمانِ للمجتمع؛ كمراقبة بعض الأماكن المهمة، أو للحفاظ على ممتلكات ثمينة، وهي أمور تحتاج إلى ضوابط من أجل التقليص من أضرارها، ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل يصل إلى حدِّ المتاجرة بمعلوماتِه الخاصَّةِ واستخدامِها من أجل تغيير طبيعة وأنماط علاقات الإنسان بأفراد آخرين في المجتمع، وإعادة هيكَلَةِ سلوك المجتمع وتغيير أولويات أفراده واهتماماتهم.


والإسلام – كعادته في مختلَف القضايا - يقدِّم رؤيةً متوازنةً لا إفراط فيها ولا تفريط؛ فنجد أنَّ الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم ينهانا عن التجسُّسِ والغيبَة: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [الحجرات: 12]؛ فنهى الله تعالى عن تَتَبُّعِ البعضِ عورةَ غَيرِه، والبحث عن سرائِره، وأنَّ علينا أن نَقْنَعَ بما ظهر لنا من أمور النَّاسِ، وبناءً على ما يظهر منهم يكون الحُكم عليهم، ولكن التجسُّسَ يكون جائزًا على الأعداء في الحروب؛ فقد كان الرسول صلى الله عليه آله وسلم يرسل عيونَه للتعرُّفِ على الأعداء وتحركاتهم في الحروب التي كانت تجري بينهم وبين المسلمين.


وعَلَّمَنا رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم أن «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» رواه الترمذي، وقال لخالد بن الوليد رضي الله عنه حين أراد أن يضرب عنقَ رجلٍ تطاولَ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنهاهُ النَّبيُّ وقال له: «لَا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي»، فقال خالد: "وكم من مُصَلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه"، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ» متَّفق عليه.


وقال أيضًا: «مَنْ سَتَرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ فِي الدُّنْيَا سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» رواه النسائي، وقال: «لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ» رواه الترمذي، وقال: «مَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ أَخِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّمَا يَنْظُرُ فِي النَّارِ» رواه أبو داود.


واجتهد الفقهاء -استنباطًا من هذه الأدلة وغيرها- على حقِّ الشخص في حرمة مسكنِه والعيش فيه آمنًا من تطفُّل الآخرين، والنهي عن اختلاس البصرِ واستراقِ السَّمعِ لبيوت الناس، وبالتالي فإنَّ حقَّ الإنسانِ في حماية حياته الخاصة ومعلوماته الشَّخصيَّة مكفولٌ في الإسلام، إلا إذا كانت هذه الحماية سيترتب عليها ضرر أكبر؛ كوقوعِ مفسدةٍ كبرى أو ضياع أموال وحقوق لآخرين، أو تدليس على الناس ومثل ذلك، فحينئذٍ يجب بيان الحقيقة حتى إذا كانت ستنتهك حقَّهُ في حماية حقِّه في الحفاظ على المعلومات الشخصية؛ لأن وصول الحقوق إلى مستحقِّيها وحمايةَ الأمة من الشرور والبلايا أولى بالاعتبارِ، ومن هنا كان من واجب الشهود الإدلاءُ بشهادتِهم بكلِّ صدقٍ وإخلاص؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: 283]، وقال جلَّ شأنه: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ [البقرة: 282].


لذا يجب على الإنسان أن يحتاط في حياته من آثار هذه السِّمات الجديدة للعصر الذي نعيش فيه، والذي أصبح انتهاكُ الخصوصيَّةِ أحدَ أبرز سِماته، بحيث يُقلِّلُ قدر الإمكان من آثارها السلبية عليه وعلى المجتمع، صحيحٌ أنه لن يستطيع التخلُّصَ منها بالكليَّة، ولكن على الأقل يحاول تقليل آثارها بمختلف الوسائل التي تُعينه على ذلك؛ من أجل ألَّا تكون حياتنا وسلوكياتنا وتفصيلاتنا مشاعًا بين الخلق وبأيدي جهاتٍ تحاول استغلالها أو التحكم فيها أو تغييرها بما يحقِّقُ مصالِحها هي بِغَضِّ النَّظرِ عن مدى مصلحَتِنا في هذا التَّغَيُّر من عدمه.
 

اقرأ أيضا: إعداد بنية معلوماتية بفرع وزارة البيئة لرصد القمامة البحرية