زعيمات مصر 1919.. زوجة قاسم أمين تتمسك بالحجاب وطبيب يفحص «امرأة الوزير» من تحت «اللحاف»

مشاركة نسائية في ثورة 1919
مشاركة نسائية في ثورة 1919

كتبت: رباب محمود 


القصة ليست الحجاب وحده ولا العند النسوي منذ بدء الخليقة بل «مخلوق» اسمه المرأة يتنفس ويفكر ويبدع ويطلب ويتحمل.. مخلوق يبهر من حوله بقرارات شديدة الصرامة.. أهلا بكم في عالم «نساء مصر 1919» وما صاحبها من مواقف لا تختار على بال ولا خاطر.

 

كان سعد زغلول كثيرا ما يدعو صديقه عبدالرحمن فهمي – وزير الحربية الأسبق وأحد أقطاب الحركة الوطنية المصرية- لتناول الغداء معه في بيته مع أفراد أسرته؛ لكن الطفلين كانا يلاحظان دائما شيئا غريبا، وهو أن عبدالرحمن لم يجئ مرة واحدة إلى بيت سعد مع زوجته.

 

صداقة من نوع خاص رغم أن يكبر عبدالرحمن بعشر سنوات، لكن لم تكن السن وحدها الفارق بينهما، بل كانت في عبدالرحمن خشونة العسكري القديم بينما زغلول حزم القاضي القديم.. سعد يجب المناقشة ويهوى المجادلة ويجد لذة في مقارعة الحجة بالحجة كلاعب السبق العبقري يلاعب خصمه حتى يسقط السيف من يد منافسه إلى أن يسقط السيف من جديد.

 

 

كان عبدالرحمن فهمي متزوجا للمرة الثانية وكان يلاحظ أنه عندما يحضر للغذاء كان يتم إخلاء المقعد الأول في المائدة على يسار سعد ويتأخر مكانا الطفلين مصطفى وعلي أمين من أجل الصديق، وكانت صفية تجلس في المقعد المقابل له عن يمين سعد، وكان عبدالرحمن عندما يجلس يضع عينه دائما في الطبق الذي أمامه ولا يرفعها في وجه صفية ولا في وجه والدتهما رتيبة زغلول .

 

لا يوجه عبدالرحمن الحديث إلا لـ«سعد» باعتبار أن صفية ورتيبة غير موجودتين على الإطلاق، وكان غريبا في تلك الأيام أن يدعي رجل من غير أفراد الأسرة للجلوس على مائدة واحدة مع سيدات الأسرة ولكن الفلاح الأزهري القديم سعد زغلول كان لا يجد غضاضة في أن يجلس أصدقاؤه المقربون مع أسرته لتناول الغداء والعشاء.

 

معاناة قاسم أمين 

 

وكانت هذه ظاهرة غريبة في بيت سعد زغول!.. إن معاصريه ما كانوا ليسمحوا لزوجاتهم برؤية أصدقائهم ولا يذكر أحد من أصدقاء عدلي يكن باشا أنه رأى وجه زوجته بل الأغرب من هذا كله أن قاسم أمين زعيم تحرير المرأة كان يتردد باستمرار على بيت سعد زغلول ويتناول الغداء معه ومع صفية ولكن زوجة قاسم أمين لم تحضر هذا الغداء الدوري مرة واحدة  !

 

يذكر الطفلان مصطفى وعلي أنه بعد وفاة قاسم أمين بعشر سنوات كانت زوجته تأتي بين وقت وآخرلزيارة صفية زغلول، فلا تكشف وجهها أمامها؛ بل إنها إذا تناولت الغداء مع صفية كانت تعد لها مائدة في غرفة أخرى بينما يتناول سعد زغلول الطعام وحده. 

 

هل تتخيل أن قاسم أمين الرجل الذي دعا المرأة المصرية إلى نزع الحجاب فشل في إقناع زوجته بأن تنزع حجابها؟!.. نعم هذا ما حدث لقد ظلت زوجته متمسكة بوضع الحجاب على وجهها إلى ما بعد أن نزعت أغلب المصريات حجابهن.. نعم هذه التفاصيل ذكرها الأستاذ الراحل مصطفى أمين في كتابه «من واحد لعشرة».

 

إن أكثر ما كان يؤلم قاسم أمين أنه لم يفلح في إقناع زوجته التي تقيم معه في بيت واحد بالرسالة التي آمن بها ولم يكن موقف الزوجة شاذا في ذلك الوقت عند المجتمع الذي عاشت فيه، فقاسم كان يروي أنه حضر ذات يوم اجتماعا في بيت سعد زغلول كان يحضره الإمام الشيخ محمد عبده.

 

وفجأة دخل أحد رجال الدين يلطم خديه ويشق عباءته حزنا على ما يجري للإسلام، وطلب رجل الدين من الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية في ذلك الحين أن يفتي بأن يحل دم إبراهيم الهلباوي بك نقيب المحامين، بعد أن ثبت عليه الكفر والإلحاد وحلت عليه لعنتا الأرض والسماء.. فلماذا؟

 

لقد أقسم شهود عدول أنهم رأوا إبراهيم الهلباوي يركب عربة حانطور بجوار زوجته في محطة مصر! ذلك أن رجال الدين اعتبروا ركوب رجل مع زوجته في عربة حانطور فعلا فاضحا في الطريق العام، والمفروض أن يركب الهلباوي بك في عربة حانطور بينما تركب زوجته في عربة «كوبيل» مسدلة الستائر ومغلقة النوافذ  !

 

زوجة الوزير !

 

وروى قاسم أمين أيضا أن زوجة أحد الوزراء في ذلك الحين مرضت فدعا الزوج الوزير أحد الأطباء لفحصها، ودخل الطبيب الغرفة فوجد سريرا وبجواره أحد الأغوات، ورأى السرير مغطى بعدد من الألحفة والبطاطين .

 

ولم يتبين الطبيب من السيدة مكان زوجة الوزير إلا بعد أن أشار الأغا إلى السرير وطلب الطبيب من السيدة أن تحرج يدها من تحت الأغطية ليقيس نبضها، ولكن الأغا رفض أن تخرج الست هانم ذراعها وقدم للطبيب ذراعه هو !

 

وأراد الطبيب أن يرى لسان السيدة زوجة الوزير، وأخرج الأغا الطبيب من الغرفة ثم دعاه بعد لحظة فإذا بالطبيب يرى جزءا من اللسان من خلال الأغطية والبطاطين  !

 

وفي الوقت الذي يروي فيه قاسم أمين هذه الصورة الكئيبة عن زوجات أصدقاء سعد زغلول، كان سعد يسمح لـ«صفية» بحضور الغداء مع الشيخ محمد عبده وقاسم أمين  وعبدالرحمن  فهمي وغيرهم من أصدقائه الحميمين، وكان يصحبها في رحلاته السنوية إلى أوروبا.

 

النساء سر ثورة 1919

 

كان عبدالرحمن فهمي يوافق على أن تكشف صفية وحدها وجهها، ويرفض أن يوافق على أن تخلع باقي المصريات الحجاب!.. وعندما قبض الإنجليز على سعد زغلول يوم 8 مارس سنة 1919 قامت الثورة في اليوم التالي .

 

ولكنها كانت في أسبوعها الأول ثورة رجال فقط، واجتمعت في بيت سعد «صفية زغلول وهدى شعراوي وحرم محمد محمود باشا».. آنذاك قالت هدى هانم إنها كتبت برقيات احتجاج باسم سيدات مصر إلى زوجة المندوب السامي البريطاني، وأن زوجها علي شعراوي رئيس الوفد بالنيابة أخذ البرقيات وعرضها في اجتماع الوفد ثم عاد إليها متهلل الوجه وقال لها: لقد أعجب أعضاء الوفد ببرقيتك حتى أنهم قرروا حفظها في محضر جلسة الوفد !

 

 

أما صفية فقالت: إن كتابة الاحتجاجات والبرقيات لا تكفي.. يجب أن تخرج المرأة المصرية إلى الشارع.. تخرج جميع النساء إلى الشوارع متظاهرات هاتفات بسقوط الاحتلال ..

 

هنا تدخلت زوجة محمد محمود – رئيس وزراء مصر الأسبق – متحمسة: إنني لم أضع قدمي في الشارع منذ كنت طفلة ولكني موافقة على الخروج إلى الشارع حتى لوضربنا الإنجليز بالرصاص !

 

فقالت هدى شعراوي: يضربوننا بالرصاص ! لو قتلوا امرأة واحدة فستلتهب مصر كلها .

 

فردت صفية: هذا ما نريده تماما  !

 

واتصلت هدى شعراوي بزوجها علي شعراوي باشا تعرض عليه الفكرة فذهل.. كيف تخرج السيدات المحترمات إلى الشوارع؟!

وكان علي شعراوي باشا رجلا وقورا في السبعين من عمره يطلق لحيته، ومن أهالي المنيا المحافظين المتمسكين بالتقاليد ولكنه كان أكبر بأربعين سنة من زوجته، وكان يحبها حبا يقرب من العبادة فلم يستطع أن يقاوم تصميمها على المظاهرة ، وخاصة بعد أن أخبرته بأن هذا رأي صفية زغلول وحرم محمد محمود باشا فوعد بأن يعرض فكرة مظاهرة السيدات على أعضاء الوفد في الاجتماع ويبلغها بالنتيجة .

 

وعقد الوفد اجتماعا وما كاد يعرض علي شعراوي باشا الفكرة حتى هاج وماج كل الأعضاء ورفضوا خروج النساء في مظاهرة، وكان من رأي الأغلبية أن هذا الفعل «وقاحة وقلة حياء» بينما رأت الأقلية أنها من تقديرها للوطنية التي أملت هذه الفكرة الجريئة إلا أن الأغلبية العظمى للشعب تستنكر خروج النساء إلى الشوارع وأن هذا سيقسم الرأي العام في مسألة فرعية.

 

بينما هو مجمع لأول مرة على مسألة واحدة هي مسألة الاستقلال فخروج النساء قد يجعل الإنجليز يتهمون الثورة بأنها تدعو إلى الخروج على الدين الإسلامي، وبذلك تنقض أغلبية الشعب عن الثورة وكانت الأغلبية التي تعتبر خروج المرأة إلى الشارع وقاحة وقلة حياء مؤلفة من علي باشا شعراوي نفسه وعبدالعزيز بك فهمي ومحمد علي علوبة وجورج بك خياط وحسين باشا واصف وعبدالخالق باشا مدكور ومحمود أبوالنصر بك وعبداللطيف المكباتي بك، وكانت الأقلية التى رفضت رفضا دبلوماسيا خشية انقسام الأمة مؤلفة من أحمد لطفي السيد بك ومصطفى النحاس بك وسينوت حنا بك وعلي ماهر بك ودكتور حافظ عفيفي.

 

وقتها قال عبدالعزيز بك فهمي: إنني أعجب أن سيدة عاقلة مثل صفية هانم تقترح خروج النساء إلى الشوارع. وأضاف علي باشا شعراوى: يقول عبدالعزيز فهمي عن صفية زغلول إنها العاقلة الوحيدة فمعنى ذلك أن زوجته هو مجنونة ! وقال إنه حاول أن يقنع زوجته بالعدول عن المظاهرة وأبلغته أن صفية هانم هي صاحبة الفكرة.

 

وأكد عبدالعزيز فهمي أنه سيتصل بصفية هانم ويبلغها قرار الوفد بالإجماع بمنع مظاهرة النساء واتصل عبدالعزيز فهمي تليفونيا بصفية زغلول وأبلغها بأسلوب رقيق قرار الوفد:

 

نحن نخشى أن تتبهدل السيدات ! فقالت صفية: أي بهدلة أكبر من بهدلة الإنجليز لمصر باحتلالها وقتل شبابها ونفي زعمائها.. فقال عبدالعزيز فهمي: لو كان سعد باشا موجودا لرفض أن تخرج السيدات الفضليات إلى الشوارع.

 

فقاطعته صفية: أبدا !.. إن من رأي سعد أن ثورة لا تشترك فيها المرأة المصرية لا يمكن أن تنجح.. فقال عبدالعزيز فهمي: إنه لم يقل لنا ذلك. قالت صفية: ولكنه قال لي.

 

فرد عبدالعزيز فهمي: أخشى أن تفشل المظاهرة.. إن بعض أصدقائي قرروا أنهم سيطلقون زوجاتهم إذا خرجن في مثل هذه المظاهرة ! 

 

قالت صفية : لن يجرؤ رجل أن يطلق زوجته لأنها تدافع عن شرف بلادها ! وشرف مصر هو شرف كل رجل فيها ! 

 

قال عبدالعزيز فهمي: إنهم يخشون على مراكزهم في البلد من ألسنة الناس.

 

أجابت صفية: إن الرجل الذى يخشى من الألسنة سيخشى من مدافع الإنجليز ومثل هؤلاء الرجال لا يحسب لهم حساب في قيادة البلد.

 

وأنهى عبد العزيز فهمي الحديث وهو يحاول جاهدا أن يمسك أعصابه، ويقول: تأكدي أنني أحترم المرأة وأقدرها.

 

قالت له صفية : لوكنت تحترم المرأة لما حاولت أن تحرمها من شرف الدفاع عن بلادها !

 

 

وأسرع عبد العزيز فهمي بك إلى زملائه وقال لهم إنه يخشى أن تكون صفية هانم قد جنت.. وأن صدمة نفي زوجها أثرت علي عقلها !

 

وسمع عبدالرحمن فهمي بما حدث فتطوع بأن يتولى إقناع صفية هانم نظرا للعلاقة الوثيقة بينه وبينها، ولكن صفية انقضت عليها كما انقضت على عبدالعزيز فهمي .

 

وقالت: إن نساء مصر لسن أعضاء في الوفد ولا توجد امرأة تمثلهن في الوفد ولهذا ليس من حق الوفد أن يصدرالأوامر إليهن! وتحمست السيدات المصريات لتحدي قرار الوفد.

 

واجتمعت مئات السيدات في بيت الأمة، وتولت هدى شعراوي الاتصال تليفونيا بعدد من صديقاتها، وراحت السيدة استر فهمي ويصا وهدية بركات وعطية أبو إصبع وفكرية حسن وإحسان القوصي يتصلن بمعارفهن وصديقاتهن وقريباتهن للاشتراك في مظاهرة حدد لها يوم 16 مارس 1919.. أي بعد سبعة أيام من قيام الثورة .

 

واتفقت السيدات على أن يجتمع عدد منهن في بيت الأمة، وعدد ثان في منزل أحمد بك أبو إصبع في ميدان الإسماعيلية (ميدان التحرير الآن) ثم يتجمع الفريقان في لحظة واحدة بحديقة جاردن سيتي ومن هناك تتحرك المظاهرة الكبرى.

 

 

ولم ينم عبدالرحمن فهمي الليل.. إنه لم يستطع أن يفهم لماذا تريد أن تزج المرأة بنفسها في السياسة! لماذا تريد أن تفسد بتصرفها وقار الثورة؟ وكان أكثر ما يزعجه موقف زوجة صديقه وزعيمه سعد زغلول.. إنها هي التي تنادي بأن تخرج المرأة المصرية إلى الشارع.

 

وفي الوقت نفسه عندما استقبلته ليناقشها في هذا القرار لم تقابله وجها لوجه بل إنها وقفت تحدثه من خلف الباب.. إنه لم يرها بل سمع صوتها فقط من وراء الحاجز أي أنها حرصت على ألا تظهر وجهها له في غياب زوجها بينما كان يتناول معها الغداء والعشاء وهي غير محجبة في حضور سعد فاذإ كان هذا هو مبلغ حرص صفية على التقاليد فما الذي جعلها تخرج عليها وتصر على خروج النساء المتظاهرات!.. وماذا يحدث لو أن الأزهريين اعتدوا على النساء المتظاهرات؟! وماذا يحدث لو أن بعض الشبان تعرض لهن وألقى عليهن كلمات.