هناك عيب شديد عشت احتفي به مع كافة المثقفين والمبدعين وهو تثبيت اللحظة وهو اننا ننتظر الحوادث هي التي تأتي بينما نحن نظل ننشغل بما هو قائم وكأنه لن يتغير.
يضاف الي ذلك ان من علّم الشباب السياسة عوّدهم علي النظر الي فوق الي السلطة، ولم  يسقْهم الي المنابع الحقيقية للحياة والتغيير واعني بها الجماهير. فلان راح، فلان قال، فلان..... هذا ماعزل شباب الثوار عن جماهيرهم التي يستحقون ان يكونوا طليعتها ليغيروا بها الواقع، والواقع انهم يدورون حول انفسهم يتحالفون او لينفضوا في اليوم التالي باحثين عن استقرار سياسي لايحققه الا انغراسك في قضايا شعبك ومعرفة ما يوقظه ومايدفع به للسير خلفك او امامك.
انك تستطيع ان تزيح اي قوة غاشمة بقوة الجماهير، ولكن الجماهير لاتتواجد في وسط المدينة وفي اركان المقاهي المظلمة، الجماهير اما هناك في اماكنها وإما في القلب، ليس ككل ولكن كبشر وكصراع وكأحوال أي الجماهير الحقيقية وليست الكلمة التي نرددها. 
لم اعش يوما غنيا فأنا لا آكل سوي من عرق جبيني، وكان دائما لدي تلك الثقة في انني او اسرتي لن نجوع يوما، علي الرغم من حالة الكرم الممتدة التي لن ينكرها احد عرفني. هكذا عشت وهكذا اعتادت معي زوجتي وابنتُي. هذا الايمان وتلك الثقة في الغد هو ما اوقع الاخرين في خطيئة اتهامي بالمليرة، وبناء اوهام علي هذه الحقائق البسيطة في حياتي ومن اول رحلتي عرفت انك اذا اردت ان تعيش في غابة المثقفين فعليك ان تتخير طريقا من اثنين: اما ان تقضي عمرك مبررا سلوكيات لا تحتاج الي تبرير فيضيع جهدك وعمرك ولن تصل معهم الي قناعة مهما قدمت من أدلة فلم يكن هدفهم يوما هو الاقتناع وانما الهائك عن التدفق والتقدم  وغزارة ماتنتج وتعكير صفوك وإسكان الوساوس والشكوك في كل ما تفعل، وقد حاولت كثيرا تنبيه «يحيي الطاهر» لذلك، ولكن علي ما يبدو انه كان يجدها «وسيلة اتصال » بهذه الاوساط وكان هو نفسه يستمتع بها كلعبة، بينما كان امل دنقل يهاجمهم قبل ان يبدأوا بتحيته، اما انا وقد عرفت ان طاقتي «يدوب» علي قد شعري فإنني اعتزلت المقهي في وقت مبكر علي الرغم من انني كنت عضوا مؤسسا لجماعة مقهي «ايزائيفتش» في ميدان التحرير والتي كتبت علي طاولتي في ركنها البعيد معظم اشعاري، ولم تكن تلك الظاهرة قد استفلحت الا بعد النكسة حيث لم يعد احد ينظر الي دوري وما يجب ان ينجزه، بل سارت كل العين علي الآخرين واختراع تقصيرات لهم وتخليات عن الواجبات الوطنية، بالذات في الجلسات التي اعطت «شرعية» لشرب الحشيش والضياع الثوري الذي تغلفه حبة الغناء وقصائد منهكة!! 
ان ثروتي الحقيقية هي صداقاتي للرجال الذين جهدت وانهكت نفسي من اجل ان يكونوا في حياتي يسيرون بصدق يمرحون ويخطئون بصدق. ومازلت حتي منذ ايام حين فاجأني الرجل النادر  بشهادة الجميع والشخصية المشعة «دكتور محمد المخزنجي» حين عرف أني مريض لذلك الحد الذي لا يعود منه احد . ثم  هناك الغيطاني منذ رأيته يحمل كتبا واوراقا علي باب مقهي «ايزائيفتش»  ثم في سجن اعتقالنا سوياِ وحتي الان دائم السؤال والمتابعة. كذلك اصدقائي من شعراء وأدباء صاعدين وصحفيين وإعلاميين أعتبرهم من الاسرة، الي جانب أن معظم صداقاتي هم من خارج هذه الدائرة التي يحترف الكثيرون التكبل بقيودها، فأنا علي صداقة باطباء ومهندسين ورسامين واناس بلا عمل و لا اعرف كيف يعيشون وحفاة وعراة اقارب ومحبين: رجال ونساء يملأون حياتنا ـ التي لا تعاني فراغا او وحشة ـ عشت للناس وبهم، ودمائي حصيلة دماء احبابي الذين لم يتركوا لي فرصة لأحس وحشة الحياة.
هذا ما سوف يبقي
ملخص  الأقوال: ان سبعة وسبعين عاما لم تكن بالمبلغ الهين والمشوار القصير، ولولا تدخيني وإهمالي رئتي لعشت طويلا فأنا لا اعاني من شيء  لكن الاحظ أن دمي بدأ يبدو ثقيلا علي بعض الناس، وصاروا يتجاهلون حتي كتاباتي الجيدة، وهذا معناه بالنسبة لي : «كفاية» وأنا اكره أن يضيق بي أحد.
هؤلاء الذين كانوا يرددون اني لا احب الا نفسي ولا أؤمن بشعر احد آخر ولا أريد ان أترك فرصة للآخرين، كاذبون، فلم يحب شعراء الشباب عجوز  مثلما أحببت وقدمت كنت أهديهم جمهوري المتسع ليسبحوا فيه كل حسب قدراته، أهديتهم لجمهوري وأهديتهم جمهوري، وأنا في هذه القرية منذ سبع سنوات متصلة، أي لا مجال لي لسد طريق أو قطع رزق.. فكيف لم يحققوا ما يصبون إليه ومن يمنعهم!
في الواقع انهم يؤمنون شديدا بثقافة الفيس بوك، ويعيشون علي التقاط الأنابيش وضياع الوقت في هذه الأمية بدلا من تلمس حرارة الحياة الحقيقية:  البشر والاحوال والطبيعة بأن تلك الوسائل زادت المغترب غربة، وعزلته اكثر من تلك العزلة التي يعيشها ولا يحس بها، ويعتقد ان الثلاثة  اربعة الذين يلتقيهم بصورة دائمة هم الشعب المصري وهم صناع الحياة واطرها الفكرية وهو أمر بعيد كل البعد عن الحقيقة. فما اضيق الحيز علي الحركة، وكيف نستبدل رحابة الحياة  بسقط الاخبار وترديد النكات والتويتات التافهة ثم ندعي أننا مناضلون؟!
بعد مائتي عام لن أكون، ولن يكون أي ممن اتكلم عنهم الآن، وستصبح 25 يناير وثلاثين يونيو سطرا في كتب التاريخ، لذلك فمن اراد لابداعه ان يعيش ويبقي عليه ان ينظر بعيدا بعيدا ولا يسجن نفسه في قضايا اليوم، ولكن هل المعني ان تلك الاشعار التي كتبتها والملتحمة بالواقع السياسي والنبض الحياتي الآن ستهلك مع الايام؟ ربما، وربما تصبح زادا حقيقيا للتاريخ النفسي خارج الوقائع السياسية المدونة والمعروفة الاحداث التاريخية وهي تُلقي علي وجوهنا كظلال: هذا ما سوف يبقي، فنحن نكتب عن احداث شديدة التأثير في تاريخ مصر وليس قصائد في (حريق ميت غمر)أو غرق المركب (دندرة).
يجب ان تدق اقدامك في وحلها وأنت تستشرف القرون البعيدة حين تصبح مصر غير هذه تماما ويكون لاهلها اختيارات أخري وحيوات أخري. حين تزول الذقون والجلاليب والخمول والقعود ويصبح إما أن تعمل بجد او تموت فيتطور الناس رغما عن أنوفهم، وتصبح مصر دولة عصرية تستحق الحياة والا فإن الزمن بأقدامه العريضة كفيل بخطوة واحدة ان يخلطها بالوحل.
حين تذوب وتتبخر كل الاسماء التي بناها الكذب والصدق والاعلام والمصالح ويسقط كل ماهو ليس جوهريا، تتغير الوجوه والملابس والسلوكيات وتقع العواطف المبالغ فيها ويعتمد الناس علي الفكر والعمل.
سوف لا نكون نحن الثرثارون العجزة، ولكن اخرون يؤمنون بغدهم وبلدهم ويتناقشون دون تزيد ومن اجل تحقيق منافع حقيقية لبلدهم بل وللعالم، والا سنصبح جرذانا مسحوقة تحت اقدام الامم التي فهمت القصة وانطلقت:
هكذا أري أننا غارقون في تفاصيل شديدة الهيافة والتفاهة، وكلما اكتشفت في لحظات الكشف اننا نسلك كالمنتحرين، حلمت بأجيال جديدة مختلفة تماما عنا!!
الشعر وملامح انسانيتي
تراوغنا انسانيتنا كأنها تخشي التحقق كلما اقتربنا من انفسنا في صفاء وعثرنا علي ما وجب علينا لاصلاح الحياة، لنعيش كما نفكر ونحيا بين اناس حلمنا وسعينا كثيرا او قليلا لكي نعيدصياغتهم علي ما نحب لتحدث هذه المعادلة المنطقية التي توازن بين الفكر والسلوك وتعقد بينهما صلة علي المستوي العام والخاص كي نبلغ كل ما حلمنا بتحقيقه من خلال الاعمال والاقوال والامنيات التي اهدرناها ونحن نسعي فرادي وجماعات لنصنع بها حالة تأخذنا بعيدة عن هذه الفردية المقيتة المتكررة كلما حاولنا التغلب عليها لتحقيق إنسانيتنا، اي تطابق الحلم مع الواقع والاقوال مع الافعال والفرد مع المجموع.. وفشلنا!! 
هي طبعا افكار رومانسية تبدو محالة، ولكن من منا لم يحلم بملامسة النجوم والانعتاق من حياة إرثها ككرة المساجين يثقل حديدها الحركة ويلقي بنا في قاع من اليأس والوحدة مريرين .
كل من عرفتهم او لم اعرفهم شخصيا، كان هذا حلمهم وطريقهم عند البداية علي الاقل، وراحت الايام تنهش السعي اليه هبرة هبرة حتي لم يعد شيء يقاوم.. ومع ذلك نحن مستمرون في البحث عن إنسانيتنا التي نشجع الاخرين علي إهدارها، ونطمئنهم الي حفظ سر التواطؤ الذي شمل عمر الرحلة وراح يرقبها تتآكل شيئا فشيئا حتي لقد سارت الانسانية مجرد كلمة تقريبا والتحقق الانساني نوعا من الكائنات المنقرضة.
لقد حاولت بالشعر خلق ملامح إنسانيتي عبر الكثير من القصائد السهلة والوعرة، احاول البحث عن مداها وتضاريسها وتحديد ما كنت أحب أن اكونه وتكون عليه العباد من حولي لتصبح حياة الحلم كالواقع او هي الواقع.
ولكنه الفشل المتكرر والسعي المتكرر حيث في النهاية يعلن الواقعي الاعظم- الموت- نهاية اللعبة وكأنها انتصار للظلم والقبح والشراسة علي كل لبنات بناء تلك الانسانية المتوهَّمة التي لم نسمع انها تحققت الا في قلوب اصحابها الغلابة