< لم تعرف البشرية.. عودة ميت من الآخرة.. ليروى لنا ما جرى فى العالم الآخر.. فينصلح حال البشر على وجه الأرض. <

الإثنين:
بعد أقل من نصف الساعة على اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات.. ألقى المستشار الألمانى هليموت شميت كلمة قطعت محطات الإذاعة والتلفزة إرسالها لإذاعتها فى أجواء مشحونة بالمشاعر الجياشة بدأها بجملة:
العالم اليوم.. بات أكثر فقراً!
جملة استدعتها الذاكرة بعد الإعلان عن وفاة الدكتور بطرس بطرس غالى.. وبعدها بساعات عن وفاة الأستاذ محمد حسنين هيكل.. وأكررها فى هذه السطور.. وهى أن العالم بعد غيابهما بات أكثر فقراً.. لأن العالم عندما يفقد هذا الطراز النادر من المفكرين من أرباب الرؤية السياسية.. والوطنية الجارفة.. ويملك القدرة على التحليل السياسى السابق لعصره وأوانه.. يصبح أكثر فقراً لأنه يسحب ببساطة شديدة من رصيد الثروة البشرية النادرة التى تضيع فى لمح البصر.
الثروة البشرية للأمم تتناقص وتتراجع.. كلمات فقدت طرازاً فريداً من البشر.. الذين تتجاوز رؤاهم المستقبلية ما يجرى على أرض الواقع.. وهذا هو السر فى ندرتهم.. لأن الندرة تعنى أن المعروض أقل كثيراً من المطلوب.
وكان بطرس غالى واحداً ممن يملكون هذه الرؤية السابقة لأوانه والتى تجلت فى جميع المواقع التى تقلب فى ربوعها.. كما كان محمد حسنين هيكل.. من ألمع المفسرين لما يجرى فى كواليس السياسة.. وقام كلاهما بدور الشارح المدقق لخبايا لا نعرفها.. ونتطلع إليه بعيون حب الاستطلاع.. وهو يوضح لنا ما لا نراه.. ونتشوق لمعرفة أسراره وخباياه.
حالة واحدة لن نسمع فيها رأيهما.. وتوضيح ما يجرى فى كواليسها المثيرة.. وهى الموت لسبب بسيط هو أن الموت يحضنا ويدفعنا للتفكير.. وتأمل رحلة الحياة.. وصراعاتها المستمرة التى لا تتوقف إلا بالموت.. والتى ترتكب خلالها كل ألوان المنافسة.. بكل أسلحتها.. المباحة والمحرمة.
صراع مع الأمراض.. وصراع من أجل البقاء على القمة.. ينتهى فى رحلة غامضة فى لحظات معدودات.. بلا عودة.. لأن الموت تذكرة ذهاب فقط.. والميت لا يحمل تذكرة عودة.
الموت تذكرة ذهاب.. بلا عودة ولم يجرب أحد رحلة العودة من دبيب الموت.. والميت يذهب فيزعج الأحياء.. لأنه صدمة ولكنه فى كل الأحوال حالة تحضنا على التفكير.. وهى حالة.. نشترك فيها جميعاً.. لأن الموت لا ينهزم ولا ينجو منه أحد.. ولا يعرف التراجع.. وان كان يبدو فى كثير من الأحيان بأنه يختار.. وينتقى.. فيختار فى بعض الأحيان الأفضل.. المتميز.. الذى يترك فقده وقعاً عظيماً فى النفوس.. ويبدو منتقياً لصيده.. مثل كل من لهم سلطة الاختيار.. من باب المنع أو المنح.
الموت لا يعرف الاستثناء.. ولا المغالطة.. وأحسب أن المرء حين يرى غيره يموت.. أو يسمع بذلك.. أو يقرأ خبر وفاته على صدر مانشتات الصحف السيارة.. فإنه يستثنى نفسه من هذا المصير لسبب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.. وان كان فى نفس الوقت على يقين جازم من أنه حتم لا راد له ولا حيلة فيه.. ولعله فى ضمير عقله الباطن يشكر الله على أن الموت لم يختطفه بعد.. والتعلق بوهم الاستثناء المستحيل.. وهو ما يخفف من وقع خبر وفاة الآخرين ويجعله محتملاً.. ويذهب ببواعث الجزع على نحو القياس المشهود.. وكأنه يغالط نفسه.. مغالطة مشروعة.. مستأنفاً كل صراعات الحياة الفانية.. بكل ما ينطوى عليه ذلك من تجاوزات يعجز القلم.. وأنا أكتب هذه السطور.- عن الغوص فى مستنقعاتها.
الحياة فانية.. حقيقة لا ريب فيها.. تجاوزها البشر.. عندما يتشبثون بأذيال مغريات الحياة.. بأساليب مشروعة تارة.. وبأساليب الجشع وانتهاك حرمات الآخرين بقسوة مفرطة.
وعندما تتأمل الحياة من حولك والتكالب على المناصب.. والضياع والممتلكات.. وإقصاء المنافسين بكل ألوان النذالة المفرطة.. بالدس والأكاذيب والاتهامات الباطلة التى تقضى على الأبرياء.. وتخريب بيوتهم وتهد قاماتهم العالية.. تجد نفسك أمام ترعة عجيبة.. لا تعرف ان رحلة العمر لها نهاية.. وان الذهاب محمولاً داخل نعش.. له موعد.. قادم.. لاريب فيه.. وان الميت لا يحمل معه سوى ثياب الكفن.
المشكلة.. ان الموت تذكرة ذهاب فقط.
ذهاب بلا تذكرة عودة.
ولم تعرف البشرية عودة ميت.. من الآخرة.. ليروى لنا ما جرى هناك فى العالم الآخر.. فينصلح حال البشر على وجه الأرض.. لسبب بسيط هو أن الميت يحمل تذكرة ذهاب فقط.. بلا عودة وهنا تكمن فلسفة الحياة التى يجب أن تدفعنا فى كل لحظة.. للتفكير وللتأمل.
آن مارى شيميل.. وبطرس غالي
الثلاثاء:
فى يوم من الأيام فى سبعينيات القرن الماضى.. كان لى لقاء بالمستشرقة الألمانية آن مارى شيميل بصحبة الدكتور باهر الجوهرى المستشار الثقافى فى ألمانيا بمنزلها بشارع لينى فى قلب العاصمة الألمانية القديمة بون.. وكانت المناسبة هى صدور موسوعتها عن مولانا جلال الدين الرومى «ابن الرومى».. وهذه الموسوعة جسدت فيها تاريخ التصوف الإسلامى من خلال شخصية مولانا جلال الدين الرومى (١٢٠٧ - ١٢٧٣) ونقلت فيها فصلاً مستقلاً عن «التلاميذ والمريدين» لمذهب ابن الرومى.. وملامح ما كتبه فى قصائد العشق الإلهى.. باعتباره نسيج الوجود.. وان الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان من طين.. وان الله جل جلاله نفخ فيه أنفاس الحب.
وترجمت آن مارى شيميل رائعة مولانا ابن الرومى والتى قال فى بعض أبياتها ان عرش الله سبحانه وتعالى تغمرها بانعكاسات الحب.. وان رياح الصباح تهب.. لأنها تريد أن توقظ بغزارة أزهار الحب.. إلخ.
المهم.. ان آن مارى شيميل أستاذة العلوم الإسلامية والدراسات العربية.. وأستاذة التصوف الإسلامى التى ترجمت مختارات من مؤلفات ٤٠ متصوفاً إسلامياً.. وصاحبة كتاب تاريخ التصوف الإسلامى الذى يعد أول تحليل علمى للتصوف الإسلامى منذ بدايته وحتى العصر الحديث.
فى هذه الزيارة استقبلتنا المستشرقة الكبيرة بحفاوة.. وماكدنا نتخذ مواقعنا حتى فوجئت بها تسألنى عن أخبار بطرس غالى.
كان السؤال مفاجئاً.. فعدت أسألها:
هل تعرفيه؟!
اهتز جسدها الضئيل بضحكة اهتز لها شعرها الأبيض ونظارتها الطبية السميكة.. وقالت:
انه صديق قديم.. وقد تعرفت به سنة ١٩٦٧ عندما كنت أقوم بتدريس مادة مقارنة «الأديان» بجامعة هارفارد وكان يتردد على الجامعة كثيراً كمحاضر فى الشئون السياسية.. وقدمت لى صورة لها مع الدكتور بطرس غالى يضع على رأسه قبعة.. وبدأت تشيد بالمستوى الثقافى الرفيع.. ولاسيما فى موضوع مقارنة الأديان التى يتمتع بها الدكتور بطرس غالى.
واستمر حوارنا بضع دقائق مشحونة بكلمات الثناء على الدكتور بطرس غالى وإتقانه للفرنسية والإنجليزية.. وقالت لى انه يتكلم بعض الألمانية.
لم أكتب هذه الملحوظة فى الحديث الذى نشرته معها فى مجلة «آخر ساعة» وشاءت الأقدار أن تتداعى ذكريات هذه المتابعة.. بعد أيام من توديعنا.. لهذه العلامة العينية البارزة.. فى تاريخنا الحديث الدكتور بطرس غالى.. وهى ذكريات مضت عليها حتى الآن ٤٢ سنة!.
تجارة الحجارة!
الأربعاء:
من المفارقات الطريفة أن تثار فى بلدنا ضجة كبرى.. مابعدها ضجة.. بعد قيام عدد من الباعة فى منطقة الأهرامات بالجيزة ببيع القطع المتناثرة حول الأهرامات لمجموعة من السائحين أبهرتهم الأهرامات وأذهلتهم جمال القطع وجلالها وعراقتها.. وارادوا العودة لبلادهم بقطع صغيرة من الأحجار التذكارية لرحلة العمر.. يضعونها فى أماكن بارزة فى بيوتهم.. ويقدمونها هدايا للأصدقاء الذين يتشوقون لزيارة الأهرامات.
الباعة يرون فى بيع قطع الحجارة.. أداة للكسب والارتزاق على مثال بقية الحرف.. والسائح يسعد بامتلاك قطعة من الحجارة لا يزيد وزنها على عدة جرامات يحملها فى حقيبة ملابسه.. والقضية كلها عرض وطلب.
وهى ضجة عجيبة وفريدة.. ولا يمكن تصور اندلاعها فى بلد غير بلدنا.. الذى ينفرد بكل عجائب الكون.. أثارت غضب وزارة الآثار.. التى كان من المفروض أن تقوم بهذه المهمة من باب تشجيع السياحة.. والحد من احتمالات عرض الأحجار المزورة التى لا تمت للأهرامات بأدنى صلة.
كان المفروض أن تتنبه وزارة الآثار لرغبة السائح فى الحصول على قطعة من الحجارة.. ووضع كل قطعة داخل علبة شفافة من البلاستيك محفوراً عليها بكل اللغات.. شهادة رسمية بأن هذه القطعة الحجرية الصغيرة هى قطعة حقيقية من حجارة الأهرامات وانه لم يلحق بها التزييف أو الاحتيال.
وزارة الآثار.. لم تقم لا الآن ولا زمان بهذه المهمة التى تدخل فى صميم اختصاصها ونشاطها.. وتركت الأبواب مفتوحة على مصاريعها.. للباعة البسطاء.. علماً بأن بيع هذه القطع الأثرية الصغيرة.. ليست بدعة.. ولنا فى التجربة الألمانية خير مثال على ما نقول.
وهى تجربة عشتها فى برلين يوم ٩ نوفمبر ١٩٨٩ عندما قام عدد هائل من المتظاهرين الذين يطالبون بحرية السفر والتنقل بتحطيم سور برلين فى الوقت الذى تدافع فيه الآلاف من المواطنين للحصول على قطعة تذكارية من حجارته.. والذى كان قد شيدته حكومة ألمانيا الشرقية.. ليحل محله الأسلاك الشائكة التى كانت تفصل بين الألمانيتين «ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية».
كانت حكومة ألمانيا الشرقية قد بدأت فى تشييده فى ١٥ أغسطس سنة ١٩٦١ ليكرس الانفصال والانقسام بين الدولتين.. ويحول دون اتجاه سيول المهاجرين من شرق البلاد إلى غربها.
كان طول السور يبلغ ١١١٫٦ كيلومتر من الأحجار و٥٥٫٧ كيلومتر من الأسلاك الشائكة والأبواب الحديدية.. بارتفاع أربعة أمتار.
المهم ان المتظاهرين استخدموا المعاول فى هدم السور فى التاسع من نوفمبر ١٩٨٩ بعد أربعين سنة.. من عمره.. وتحولت حجارته فجأة إلى سوق رائجة لهواة الآثار التاريخية.
وأصبحت أكوام الحجارة الضخمة تتحول إلى قطع صغيرة ومتناهية الصغر يحملها كل متظاهر لإهدائها لجيرانه وأهله وأقاربه الذين لم يشاركوا فى عمليات الهدم من باب الذكريات.
وكانت هذه الأحجار بلا هوية.. رسمية.. وبات يختلط فيها الحابل بالنابل بين كونها من أحجار السور أم أنها حجارة من مخلفات البناء إلى أن تدخلت الجهات الرسمية.. وقامت بوضع قطع الحجارة فى علب بلاستيكية أنيقة.. وعليها تاريخ بناء السور فى ١٥ أغسطس سنة ١٩٦١ وتاريخ هدمه فى التاسع من نوفمبر ١٩٨٩ ومعها اسم الجهة الرسمية التى أصدرتها وجملة «ذكرى الأربعين».
ولاتزال هذه العلب البلاستيكية الأنيقة تباع فى جميع متاجر ألمانيا الموحدة.. وأتصور أنها تحقق عائداً لا بأس به.. علاوة بالطبع على الشهادة التى تحملها.. وأنها قطعة من السور الذى كرس الانفصال بين الدولتين لمدة ٤٠ سنة.
هذه التجربة الألمانية تستحق من جانبنا التأمل.. وان تقوم وزارة السياحة بالتعاون مع وزارة الآثار فى إعداد مشروع بوضع قطع الحجارة المنتشرة حول الأهرامات داخل علب بلاستيكية أنيقة يمكن إهداؤها للسياح وتزويد سفاراتنا بالخارج بالبعض منها من باب الدعاية لآثارنا الفرعونية وترويجاً للسياحة الثقافية التى تجاهلتها جهاتنا الرسمية لعقود طويلة.. وتركت الحجارة بين أيدى باعة يتنقلون بين السياح تنقل النحل على الورود والأزهار فى الوقت الذى تراقبهم فيه السلطات الرسمية من بعيد وهى تتثاءب وتتمطى.
لقد آن الأوان لنقل تجارة حجارة الأهرامات من القطاع الخاص إلى القطاع العام.. والتوقف عن إثارة الضجيج كلما باع البسطاء حجارة الأهرامات.
حسين السيد
الخميس:
التحليق نحو السماء السابعة عند الاستماع لأغنية عاطفية مشحونة بالمشاعر الجياشة.. يبدأ بالكلمة التى تهز قلب الحجر.. لو يفهمها الخالى.. على رأى الموسيقار عبدالوهاب.
المتعة تبدأ بالكلمات التى تنقلك إلى عالم من الخيال.. ومن الصور التى يسرح بها خيال المستمع.. يليها اللحن.. ثم الصوت الذى يشدو بالكلمات.
التحليق فى سماء المتعة يبدأ من الكلمة.. ومن الصور الذهنية التى تنقلها الكلمات.. فمنذ ساعات حلت ذكرى وفاة واحد من ألمع نجوم الكلمات وهو الشاعر الغنائى حسين السيد وكانت مناسبة كى تتحفنا إذاعة الأغانى بسلسلة طويلة من القصائد التى استمعنا إليها بأصوات جميع مطربى عصره.. وفى مقدمتهم موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب الذى شدى له بأغنية «يا مسافر وحدك» و «عاشق الروح» و «على ايه بتلومنى» و «لما بشوفك جنبى.. طيفك ده تملى شاغلنى».
كما غنت له شادية سلسلة طويلة من الأغانى.. وكذلك صباح.. وعبدالحليم حافظ الذى غنى له أهواك.. إلخ.
أما نجاة الصغيرة فقد شدت له بأشهر أغانيها «ساكن قصادى».
وإلى جانب السلسلة الطويلة من الأغانى التى كتب كلماتها حسين السيد أجرت الإعلامية سونيا محمود حواراً مع أبنائه وأحفاده تحدثوا فيه عن ذكرياتهم مع الراحل العظيم.. وكانت المناسبة فرصة لتقديم العديد من الأغانى التى تعد من التراث الحقيقى للإذاعة المصرية وهو تراث لم نحسن استثماره تارة.. وجرى بيع الكثير منه فى صفقات تحوم حولها الشبهات.. تارة أخرى!.
المهم.. ان اذاعة الأغانى تقوم بجهد مشكور فى تقديم التراث الفنى لكبار رموز الفن والتلحين والشعراء.. وتنقله للأجيال الجديدة التى لم تعاصر نجوم هذا الزمن الجميل.
ولكن بقيت بعد ذلك أمنية.. وهى التوقف عن المقدمات الطويلة التى تسبق حفلات أم كلثوم كل ليلة.. والتى يلقى فيها مقدم الحفل.. محاضرة مملة يصف فيها المقاعد وأسماء أعضاء الفرقة الموسيقية.. ولا ينقصها سوى إذاعة أسماء جمهور المشاهدين.
شكراً لإذاعة الأغانى وللإعلامية الكبيرة دولت أبوالفتوح.. صاحبة البرنامج الناجح «لسه فاكر؟».. وألف رحمة ونور على روح الشاعر حسين السيد.