بمناسبة ذكراه الأولي التي حلت أمس ، تنشر «الأخبار» آخر مايبوح به دولاب الذكريات وآخر ما كتب الشاعر الكبير الراحل عبدالرحمن الابنودي وهو علي سرير المرض عثرت عليه أرملته الإعلامية الكبيرة نهال كمال.
كلنا علماء (شفويون)، نحاضرك كأننا اخترعنا العالم، ولو كنت صاحب معجزات فلتقو علي ايقافنا علي أقدامنا لننجز شيئا، فقط نملك ألسنة حادة سليطة الانتقاد. نحن العارفون والآخرون دمروا كل شيء. أغبياء يرون أطراف الحقائق ولا ينفذون لجوهر الأمور، لا يعرفون شيئا عن قصور حياتنا لنصلح الاعوجاج ونقوم المعتل لتنصلح الاحوال، وتترابط الاجيال، كل انسان امام الشاشات عالم يطل علينا بالمعارف والحلول ودواء للأدواء، ثم ينتهي البرنامج فتنتهي مهمته تجاه وطنه فيعود لعمله سعيدا هانئا، فقد وصف لنا كل ما يعوق تقدمنا من حجارة وأشواك وعراقيل. شعب غلب أدباءه وعلماءه في الأقوال.
نحن بلد يحبط علماءه ويخيب آمالهم ولا يرتاح الا اذا وجدهم مثله مقعدين يثرثرون عن الحلو لمشاكلهم دون قيام او سعي حقيقي أو حتي نية ـ ولو عاجزة ـ لايجاد حلول ولو للقضايا الصغيرة راميا الثقل علي كاهل الدولة التي يري انها لا تنجز مع أن الحلول واضحة هي كذا وكذا، يقولون ذلك وجل انتباههم يتركز في دور الورق او الدومينو الذي يلعبونه اثناء الثرثرة بالحلول (الشفوية) التي لا ولن تعرف طريقها للواقع.
هناك مشكلة كبري أو لنقل معضلة مستعصية علي الحل، الا وهي مشكلة الحزب ـ الحزب لا الاحزاب.
كلنا نعرف بل ونوقن انه لن تتحقق اهداف ثورة لثائر إذا لم يكن ترسا صغيرا في ماكينة كبيرة اسمها (الحزب الجماهيري) عصا موسي التي تبتلع مادونها من احزاب مهما اختبأت خلفها ترسانات دعم لوجستي وآبار تمويل مشروعة وغير مشروعة، اموال وطنية سرقت من جيوب شعبها او جاءت عابرة للأجواء والمحيطات والمدن الصغيرة والكبيرة لتستقر في مستقرات الخيانة الخفية التي تتلاعب بالوطن.
الحزب الجماهيري الذي يتخلي مثقف البورجوازية الصغيرة عن أناقته الشكلية، وأناقته الفكرية التي تكره الزحام والذباب وتلويث القميص ولمس الانساق الفكرية المستقرة في الذهن والمستقاة من شتي بقاع النظريات التي تولدت في بلاد غير بلادنا لجماهير لا تملك خصوصيات بلادنا وأحوالها كفيلة بإبعاد المفكر الذي يرغب في التغيير عن احداث التأثير الحقيقي في واقعة الخاص ـ واقعنا ـ فتفشل المجموعات الصغيرة التي تحلم بالحزب الجماهيري الكبير، تعيش وترحل ومازال «الحزب» المحدود محدودا، وهو أقرب للصحبة ذات الصفات والخواص المتقاربة لاعضائها، والتي لا سبيل للجماهير للسمع بها او الانخراط في صفوفها، والتي من شأنها النفور من فكرة الجماهير ـ بالمعني الواقعي وليست الكلمة ـ ويأتي الآخرون ليتبينوا ان الحزب السابق لم يحقق فكرة الحزب الجماهيري وعليه ان يجرب.. وهكذا يقولون ان لدينا اكثر من سبعين حزبا، وعلي الرغم من الاختلاف الفكري والتباين ـ غير المتين ـ في الاهداف، فقد صارت هذه الاحزاب اشبه بمجموعة من الاكشاك المتشابهة المتراصة في صف واحد.
لكن أهل تلك الاحزاب لا يعجبهم عمائي عن رؤية ما تكتظ به أحزابهم من جماهير من كل الطبقات، مثل نظيف الملابس الثري هذا الذي «يعوج بقه» ليثبت انه فلاح قراري، إلي ذلك المهندم ذي النظاة اللامعة النقابي الذي يدعي انه العمال شخصيا.
وفي النهاية سوف يصبح «المال» هو الحزب الجماهيري الوحيد الذي يذهب بأصحابه الي الاستقرار علي مقاعد مجلس الشعب ويقود بلادنا بكل عزمه.. إلي الماضي!!
بدون ذلك الحزب الذي لن تنضم إليه الجماهير وتعتبره حزبها إلا باندماجه معهم في مشكلاتهم اليومية، والتخلي عن اللغة الاستعلائية المستوردة والتقليب والتأمل في لغتهم التي يفهمون بها الحياة التي هي السياسة أولا وأخيرا.
بدون ذلك الحزب الجماهيري الذي يصبح بيت الشعب المصري يأخذ جانب الناس ويعبر عن موقف الجماهير بتدرجاتها الطبقية ويصبح صوتها والمفجر لكل ما يلزمها وما لا يلزمها. بدونه يستطيع فرد واحد ان يقود الأمة للهاوية كما رأينا من قبل، وبدونه يتآمر المتآمرون علي بلد لا يجد من يحميه سوي تلك الاصوات الشريفة التي تمثل قوة مادية قادرة علي كبح جماح ظالم أو تعطيل مغامر.
نعمل لدينا تلك الاحزاب التي تجسد انانيتنا كأفراد قبل كل شيء، ليس فينا من لا يري نفسه زعيما فمصر عبارة عن 90 مليون زعيم فكيف سنحد لنا طريقا لتوبتنا السياسية بحيث نري من يستحق الزعامة علي الزعماء، بحيث يجمع شرفاء هذا البلد هدف واحد يمتزج المثقف بجمهوره، والسياسي يجد مجالا لاداء دوره بشرف، أم ان هذا أيضا مجرد كلام من كلام كل يوم الذي تجففه دائما شمس صباح جديد!!