معديات النيل.. نعوش عائمة!

معديات النيل
معديات النيل

علا نافع

جاءت حادثة غرق سيارة نصف نقل محمّلة بالعمّال من أعلى معدية القطا بالقليوبية لتعيد الحديث مرة أخرى حول معديات الموت التى تعبر النيل، والتى تتجدد حوادثها من وقت لآخر رغم المطالبات بضرورة تشديد الرقابة عليها مع توفير شروط السلامة والأمان، ورغم عدم وجود إحصائيات دقيقة بأرقام المعديات المتهالكة، فإن الخبراء يؤكدون أنها لا تزال تعمل رغم افتقادها شروط الأمان، ومعرضة للغرق فى أى وقت، بسبب تخاذل مسئولى التنمية المحلية رغم تمتعهم بالضبطية القضائية للكشف عن هذه المعديات وعمرها الافتراضي.

معظم المعديات النيلية لا تلتزم بالحمولة المقررة، والأخطر من ذلك قيادة الأطفال لها دون الحصول على التراخيص اللازمة، والمثير للدهشة أن القانون حدّد عقوبة انتهاء رخصة أصحاب المعديات النيلية بـ 10 جنيهات وبحد أقصى 100 جنيه، ما يستوجب سرعة سن قانون تنظيم الملاحة الداخلية الذى يقنن مخالفات المعديات ويلزم ملاكها بتطبيق معايير السلامة والأمان مع فرض أحكام شرطة المسطحات النهرية عليها بتنظيم الحملات على مدار اليوم وضبط المخالفين. 

تحرك النواب

تكرار مثل هذه الحوادث دفع نواب البرلمان إلى تقديم طلبات إحاطة عاجلة بشأن المعديات المتهالكة، حيث تقدم النائب محمد عبدالله زين الدين، بطلب إحاطة لوزارات النقل والرى والتنمية المحلية، لافتًا إلى أن مصر بها حوالى 10 آلاف معدية لخدمة نحو 144 جزيرة تقع على طول نهر النيل، وأغلبها يحتاج لصيانة مع ضرورة إلغائها واستخدام كباري لتسهيل حركة المواطنين، ويتوافق ذلك مع توجيهات الرئيس عبدالفتاح السيسى بإلغاء كافة المعديات النيلية واستبدالها بالكبارى حفاظًا على سلامة المواطنين بالقرى التى لا يقل عدد سكانها عن 10 آلاف نسمة.

أما الدكتورة هناء سرور، عضو مجلس النواب عن محافظة المنوفية، فتقدمت هى الأخرى بطلب إحاطة موجه لوزيرى النقل والتنمية المحلية، حيث تبيّن من تحقيقات النيابة أن معدية قرية القطا غير مرخصة، مؤكدة أن هذا الحادث لن يكون الأخير ولكن ما مصير المعديات الكبرى الموجودة على ضفاف النيل بالقاهرة والمحافظات الكبرى التى تعد وسيلة النقل الأولى ليس فقط للمواطنين وإنما تحمل سيارات وتكاتك وبضائع؟! 

حوادث متكررة

وتعد معدية كفر الشيخ من أشهر حوادث غرق المعديات، حيث راح ضحيته 15 مواطنا خلال رحلة بين قرية سنديون بمركز فوة وقرية ديروط التابعة لمركز المحمودية بمحافظة البحيرة، وتلاه حادث معدية سمالوط بمحافظة المنيا، حيث راح ضحيته 30 مواطنا كانوا داخل سيارة سقطت بهم من أعلى المعدية النهرية بعد عودتهم من رحلة دفن أحد الأهالى، ما دفع الأهالى لتنظيم وقفة احتجاجية للمطالبة باستبدال المعديات بجسور قوية.

وهناك أيضا حادث معدية قرية دمشيلى الواقعة على حدود محافظتى البحيرة والمنوفية، وراح ضحيته أكثر من 22 شخصا غرقت بهم سيارتان، ما دفع النيابة الإدارية لإرسال توصياتها إلى مجلس الوزراء لتجنب تكرار مثل هذه الحوادث، وأهمها ضرورة إشراف شرطة البيئة والمسطحات المائية على الوحدات النهرية وتراخيص طواقمها والالتزام بشروط السلامة والأمان، فضلا عن تعديل قانون الملاحة النهرى وتغليظ العقوبة على المخالفين لوضع حد لهذه الجرائم مع تدوين السعة القصوى المصرح بها لكل مركب ولانش فى مكان واضح للكل يسهل على المواطن العادى رؤيته.

المعصرة - الحوامدية

فى صباح كل يوم يخرج محمود من بيته بأحد أزقة منطقة المعصرة ليذهب إلى عمله بمنطقة الحوامدية، حيث يعمل بشركة السكر الشهيرة منذ أكثر من 15 عامًا، ورغم أن مرتبه ضئيل ويكاد يسد احتياجات أسرته الكبيرة، فإنه لا يكف عن شكر الله، وعند دقات السابعة صباحا يهرول مسرعًا إلى المعدية التى تنقله إلى الضفة الأخرى من النيل حتى يتسنى له الوصول لعمله مبكرا وليحجز لنفسه مكانا متقدما بين ركاب المعدية، ويعرف معظم الركاب بعضهم البعض، يتبادلون التحايا والابتسامات رغم مشاقهم، فأغلبهم يستقل المعدية للوصول لمقر عمله أو قضاء حوائجه من الضفة الأخرى، ورغم حوادث غرق المعديات التى تتصدر الصحف بين الحين والآخر، واعتبارها توابيت موت عائمة، فإنهم لا يعبأون بها، فالرب واحد والعمر واحد. 

 

يستقل قيادة المعدية شاب أتم عامه السادس عشر بالكاد، لا يحمل رخصة قيادة إنما ورث المهنة عن والده الذى علَّمه فنون قيادة المعدية وتفادى الاصطدام بالأحجار الكبيرة الموجودة بقاع النيل، والتى قد تؤدى لغرق المعدية على حد قوله، يمسك بزمام المعدية بيده اليمنى أما اليسرى فيمسك بها سيجارته التى لا يتخلى عنها أبدا.. تحتضن المعدية أناسا كثيرين يحملون بضائعهم المختلفة من طيور وخضر وفاكهة ليعرضوها فى الأسواق ويعودون إلى منازلهم بعد بيع بضائعهم الرابحة، يتذكرون ضحايا المعديات الكثر ويقرأون لهم الفاتحة من وقت لآخر.

على مقربة من أحد حواجز المعدية تقف اأم محمدب وهى سيدة عجوز ممسكة بيد حفيديها جيدا، تنتظر دورها فى ركوب المعدية، وتقول: أجيء كل يوم لركوب معدية المعصرة والتى ترسو بمنطقتى المنيل والحوامدية لقضاء مصالحى ولإرسال حفيدتى لأحد مراكز التخاطب الموجودة بالجيزة، فهى تعانى تأخرا عقليا، ولابُد من متابعة حالتها، مشيرة إلى أن كل المعديات حالها سيئ وتستوعب أكثر من حمولتها، ما يجعل السائق يضاعف الأجرة، ولا يعترض الركاب لأن هذه المعديات هى وسيلة النقل الوحيدة أمامهم، لافتة إلى أن شرطة المسطحات لا تحكم قبضتها على المعدية ولا تفتش عن رخصة القيادة.

يلتقط منها طرف الحديث، على جاد (موظف): السائق لا يهمه أرواح الركاب، وكل همه أن يجمع المال، ويزيد من حمولة المعدية، رغم أن القانون كان واضحا وصارما بخصوص عدد الركاب، كما أن معظم المعديات لم تطله يد الصيانة منذ عشرات السنين، وأغلبها صدئ وتعرض للتلف نتيجة أشعة الشمس، وطالبنا مراراً مسئولى الوحدات المحلية بالسيطرة عليها ولكن دون جدوى.

قارب بدائى

وإذا كانت معدية المعصرة تعانى الإهمال، فإن وضع معدية جزيرة الوراق لم يختلف كثيراً، فهذه المعدية هى الوسيلة الوحيدة للدخول والخروج من الجزيرة التى لا يفصلها عن حى شبرا السكنى سوى أمتار قليلة من نهر النيل، حيث تنقل الركاب لأماكن سكنهم داخل الجزيرة أو إلى الضفة الأخرى من النهر، وهذه المعدية ليست سوى قارب بدائى صغير، يعلو الصدأ حوافه، وتعتمد حركته على بكرة معلق بها جنزير حديدى يقوم بسحبه سائق المعدية ويتحكم فى حركته، وشهدت معدية الجزيرة الكثير من حوادث الغرق، وراح ضحيتها عشرات الركاب، هكذا يقول أحمد صبحى أحد سكان الجزيرة، مضيفًا: لا توجد وسيلة نقل لنا فى الجزيرة إلا هذه المعدية، ورغم ذلك فإن المعدية توشك على الغرق فى أى لحظة نتيجة تهالك جسمها، فضلا على الأعداد الكبيرة التى تستقلها يوميا.

أما سماح فياض (ربة منزل) فتقول: لا توجد أسواق أو حياة طبيعية داخل الجزيرة، ما يدفعنا لركوب المعدية والمخاطرة بحياتنا يوميا، ورغم حوادثها الكثيرة، فإنه ليس أمامنا سواها، وكثيرا ما طالبنا محافظ الجيزة وشرطة المسطحات بالسيطرة على المعديات والقبض على السائقين المهملين حفاظا على حياة أبنائنا.

مسئولية مباشرة

من ناحية أخرى، يقول الدكتور حمدى عرفة، الخبير فى مجال التنمية المحلية: عادة ما تقع مسئولية إهمال وغرق المعديات على رؤساء الوحدات المحلية ورؤساء المراكز والمدن المسئولين عن متابعة ورقابة المجرى النهرى ووسائل نقله وعلى رأسها المعديات التى تعد وسيلة النقل الوحيدة للكثير من القرى والجزر، فتلك الوحدات مسئولة عن مراجعة رُخَص المعديات والتأكد من وجود وسائل الأمان مع تحديد خط سير لها وسرعة وحمولة معينة، ولكن أغلب السائقين لا يلتزمون بهذه التعليمات رغبة فى كسب المزيد من المال.

يضيف: لا نستثنى وزارة الرى من تلك المسئولية فهى الأخرى مسئولة عن متابعة سير المراكب والمعديات بنهر النيل والتنسيق مع المحافظات بشأن مراجعة رخص المعديات وتحديد خط سيرها وحمولتها، وذلك بحسب القانون رقم 34 لسنة 1979، مطالبًا بضرورة مراجعة رخص المعديات والمراكب النيلية والتأكد من توافر وسائل الأمان بها، مثل طفايات الحريق، فضلا عن متانة الأبواب والنوافذ، والأهم زيادة حملات التفتيش من قبل شرطة المسطحات المائية.

تطوير ضرورى

أما المهندس علاء سعداوى، خبير النقل، فيقول: بعد زيادة حوادث المعديات النيلية بات من الضرورى استبدال المعديات بكبار علوية أو أنفاق على طول مجرى النيل، ويشير إلى أنه لابُد من سن رقابة صارمة على المعديات من خلال عدم تشغيل المعديات المخالفة والمتهالكة مع وضع أسس الأمان بالمعديات سواء من حيث توافر طفايات الحريق ووجود رخصة قيادة وغيرها من شروط الأمان، مؤكداً أن تطوير منظومة النقل النهرى ككل سيمنع حدوث مثل هذه الحوادث كما سينظم عملية السير والحركة.