لم تدرك أمى وهى تعانقنى بعد غيبة طويلة، مدى اشتياقى لنعيمة وتلهفى لرؤيتها، قالت وهى تتحسس وجهى الذى لم تهدأ حركته تجاه شرفة بيتها: آن الأوان يا ولدى أن أفرح بك قبل أن أترك الدنيا.. اخترت لك عروساً جميلة من عائلة محترمة أطلعته على صورك ورسائلك حين أتت لزيارتى مع أمها أكثر من مرة.. هى تواقة لرؤيتك.. رجوتها وأنا أقبل يدها أن تتريث.
لم أشأ مكاشفتها برغبتى الدفينة الملحة فى الزواج من حبيبتى نعيمة، وفاء للعهد الذى بيننا وتقديسا لسنوات لم تغب عنى فيهن لحظة واحدة، بقوامها الفارع وعينيها الواسعتين اللتين كنت أسكنهما فى غربتى، وسمرتها التى أحالت الليالى المتباطئة المظلمة إلى ضياء يبعث على الأمل واللهفة ويذكرنى بوجهها صباح مساء.
لم يكن يعلم بعلاقتنا سوى تلك الشجرة النائية بالقرب من محطة الحافلة التى قضينا تحت ظلالها أجمل أوقاتنا, وتلك الشرفة التى تبادلنا منها الإشارات والمواعيد والابتسامات،أمعنت النظر تجاه الشرفة، فبدت لى ميتة لا حركة فيها، تعتليها أكوام التراب والغبار؟ حاولت أن أبعد عن تفكيرى أى مكروه قد أصابها وأسرتها.
سألت أمى متظاهراً باللامبالاة: ترى كيف أحوال جيراننا؟
ارتسمت على خطوطها الغائرة خطوط أخرى لا تبشر بخير، فعدت اصطنع هدوء مزيفاً يخفى بركاناً يوشك أن ينفجر،أطلقت أمى تنهيدة كانت محبوسة فى صدرها، ثم قالت:
- إيه يا بنى ، توفى الأب بعد سفرك بفترة قليلة، ورحلت الأم وابنتها إلى حيث لا ندري.. انقطعت أخبارهما.
هوت كلماتها على قلبى كالصاعقة، اجتاحتنى حيرة وقلق، فسارعت بمغادرة البيت لأبحث عنها ، أخبرتنى بوابة العمارة أنها تقيم مع أمها بالقرب من بقالة تديرها عجوز فى الشارع القديم،لم أجد صعوبة فى الوصول لتلك العجوز صاحبة البقالة التى تحتمى بعصا تعينها على نقل خطواتها،طلبت زجاجة عصير، ساعدتنى حركة العجوز البطيئة على استكشاف البيوت المجاورة.
سألت العجوز وهى تناولنى العصير عن بيت نعيمة، فأشارت بعصاها إلى البيت المقابل ذى الباب الخشبى، شربت العصير بتأن وأنا أرقب بنشوة جارفة باباً خشبياً تسكن خلفه نعيمة. تراءى لى كسجن له جدران مقيتة،ووددت لو أمكننى القفز فوق أسواره العالية، تحطيمه، لكى أخلص نعيمة من سجنها واصحبها إلى حياتى.
تملكتنى حيرة محببة وأنا ارتشف العصير بصمت له زغاريد مدوية.. لكن المفاجأة ألجمتنى حينما رأيتها تخرج من البيت تغطى وجهها ويتبعها طفلها وزوجها، شعرت بتجمد قطرات العصير فى حلقى المتيبس.
«بالتأكيد رأتني.. تجاهلتني.. ماذا عساها فاعلة؟» تساءلت بأوجاع المطعون: «ماذا ستقول لى بعد أن تعاقدت مع الشيطان فى صفقة دنيئة؟»
وددت لو أصفعها أمام زوجها وأخبره بعلاقتنا لكنى تراجعت بعدما أدركت انه ضحية مثلي. حدثتنى نفسي: كيف حدث هذا؟ لا أصدق، كلهن خائنات، تمنيت لو بقيت فى غربتى على أطلال حب لم أكن أدرى انه سيحطم على جدران هذا الشارع القديم، صار شظايا أصابت قلبي. مزقته ومزقت معه الحقيقة البغيضة القابعة تحت ذاك الغطاء الكريه.
ارتشفت مع العصير بقايا أحزانى وابتلعت مع خيانتها مرارة عمرى وسنوات أملى وانتظاري،أشارت العجوز بعصاها قائلة: «هى ذى نعيمة وزوجها، يمكنك اللحاق بهما».
لم أنطق، ناولتها مع النقود كآبتى وجرجرت قدمى المتثاقلتين إلى البيت. دفنت رأسى فى صدر أمى و رجوتها أن تسارع بإتمام زواج كانت تعد له بسعادة غامرة،وبعد مضى أسبوع من زواجى بعروس أمى، وقع بصرى على نعيمة وسط الزحام فى سوق المدينة، شعرها المنساب على عنقها وعيونها الواسعة،ممسكة بيد أمها.
أذهلتنى المفاجأة،تحفزت لمواجهتها واتهامها بالخيانة حين تخون زوجها أيضا وتخرج سافرة. كاشفة الوجه فى غير صحبته. رمقتها بازدراء وكدت أبصق عليها إلم أجد من نفسى ترحيباً بالالتفات إليها وأسرعت مبتعداً.
أطلقت يد أمها وهرولت ناحيتى تنادينى بهمسات لا يسمعها سواى. تعجبتن بجاحتها وزاد من مقتى لها تلك الابتسامة المصطنعة التى تعلو شفتيها.تجاهلتها حين مشت بمحاذاتى.. حدثتنى بكلمات سريعة لاهثة: ما زلت أنتظرك،أخبرت أمى بعلاقتنا.وقبل أن تلحق بأمها. التفتت ناحيتى .. قالت بابتسامتها الساحرة تداعبنى: احذر أن تضل.. تسكن البيت المجاور لنا امرأة اسمها نعيمة أيضا.