زين العابدين الشريف يكتب .. نعيمة

شمال سيناء .. إبداع فى مواجهة الارهاب

البدوية ــ  ‬الفنان مصطفى بكير‮
البدوية ــ ‬الفنان مصطفى بكير‮

لم‭ ‬تدرك‭ ‬أمى‭ ‬وهى‭ ‬تعانقنى‭ ‬بعد‭ ‬غيبة‭ ‬طويلة،‭ ‬مدى‭ ‬اشتياقى‭ ‬لنعيمة‭ ‬وتلهفى‭ ‬لرؤيتها،‭ ‬قالت‭ ‬وهى‭ ‬تتحسس‭ ‬وجهى‭ ‬الذى‭ ‬لم‭ ‬تهدأ‭ ‬حركته‭ ‬تجاه‭ ‬شرفة‭ ‬بيتها‭: ‬آن‭ ‬الأوان‭ ‬يا‭ ‬ولدى‭ ‬أن‭ ‬أفرح‭ ‬بك‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أترك‭ ‬الدنيا‭.. ‬اخترت‭ ‬لك‭ ‬عروساً‭ ‬جميلة‭ ‬من‭ ‬عائلة‭ ‬محترمة‭ ‬أطلعته‭ ‬على‭ ‬صورك‭ ‬ورسائلك‭ ‬حين‭ ‬أتت‭ ‬لزيارتى‭ ‬مع‭ ‬أمها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭.. ‬هى‭ ‬تواقة‭ ‬لرؤيتك‭.. ‬رجوتها‭ ‬وأنا‭ ‬أقبل‭ ‬يدها‭ ‬أن‭ ‬تتريث‭.‬

لم‭ ‬أشأ‭ ‬مكاشفتها‭ ‬برغبتى‭ ‬الدفينة‭ ‬الملحة‭ ‬فى‭ ‬الزواج‭ ‬من‭ ‬حبيبتى‭ ‬نعيمة،‭ ‬وفاء‭ ‬للعهد‭ ‬الذى‭ ‬بيننا‭ ‬وتقديسا‭ ‬لسنوات‭ ‬لم‭ ‬تغب‭ ‬عنى‭ ‬فيهن‭ ‬لحظة‭ ‬واحدة،‭ ‬بقوامها‭ ‬الفارع‭ ‬وعينيها‭ ‬الواسعتين‭ ‬اللتين‭ ‬كنت‭ ‬أسكنهما‭ ‬فى‭ ‬غربتى،‭ ‬وسمرتها‭ ‬التى‭ ‬أحالت‭ ‬الليالى‭ ‬المتباطئة‭ ‬المظلمة‭ ‬إلى‭ ‬ضياء‭ ‬يبعث‭ ‬على‭ ‬الأمل‭ ‬واللهفة‭ ‬ويذكرنى‭ ‬بوجهها‭ ‬صباح‭ ‬مساء‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬يعلم‭ ‬بعلاقتنا‭ ‬سوى‭ ‬تلك‭ ‬الشجرة‭ ‬النائية‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬محطة‭ ‬الحافلة‭ ‬التى‭ ‬قضينا‭ ‬تحت‭ ‬ظلالها‭ ‬أجمل‭ ‬أوقاتنا‭, ‬وتلك‭ ‬الشرفة‭ ‬التى‭ ‬تبادلنا‭ ‬منها‭ ‬الإشارات‭ ‬والمواعيد‭ ‬والابتسامات،أمعنت‭ ‬النظر‭ ‬تجاه‭ ‬الشرفة،‭ ‬فبدت‭ ‬لى‭ ‬ميتة‭ ‬لا‭ ‬حركة‭ ‬فيها،‭ ‬تعتليها‭ ‬أكوام‭ ‬التراب‭ ‬والغبار؟‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬أبعد‭ ‬عن‭ ‬تفكيرى‭ ‬أى‭ ‬مكروه‭ ‬قد‭ ‬أصابها‭ ‬وأسرتها‭.‬

سألت‭ ‬أمى‭ ‬متظاهراً‭ ‬باللامبالاة‭: ‬ترى‭ ‬كيف‭ ‬أحوال‭ ‬جيراننا؟‭ ‬

ارتسمت‭ ‬على‭ ‬خطوطها‭ ‬الغائرة‭ ‬خطوط‭ ‬أخرى‭ ‬لا‭ ‬تبشر‭ ‬بخير،‭ ‬فعدت‭ ‬اصطنع‭ ‬هدوء‭ ‬مزيفاً‭ ‬يخفى‭ ‬بركاناً‭ ‬يوشك‭ ‬أن‭ ‬ينفجر،أطلقت‭ ‬أمى‭ ‬تنهيدة‭ ‬كانت‭ ‬محبوسة‭ ‬فى‭ ‬صدرها،‭ ‬ثم‭ ‬قالت‭:‬

‭- ‬إيه‭ ‬يا‭ ‬بنى‭ ‬،‭ ‬توفى‭ ‬الأب‭ ‬بعد‭ ‬سفرك‭ ‬بفترة‭ ‬قليلة،‭ ‬ورحلت‭ ‬الأم‭ ‬وابنتها‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬ندري‭.. ‬انقطعت‭ ‬أخبارهما‭.‬

هوت‭ ‬كلماتها‭ ‬على‭ ‬قلبى‭ ‬كالصاعقة،‭ ‬اجتاحتنى‭ ‬حيرة‭ ‬وقلق،‭ ‬فسارعت‭ ‬بمغادرة‭ ‬البيت‭ ‬لأبحث‭ ‬عنها‭ ‬،‭ ‬أخبرتنى‭ ‬بوابة‭ ‬العمارة‭ ‬أنها‭ ‬تقيم‭ ‬مع‭ ‬أمها‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬بقالة‭ ‬تديرها‭ ‬عجوز‭ ‬فى‭ ‬الشارع‭ ‬القديم،لم‭ ‬أجد‭ ‬صعوبة‭ ‬فى‭ ‬الوصول‭ ‬لتلك‭ ‬العجوز‭ ‬صاحبة‭ ‬البقالة‭ ‬التى‭ ‬تحتمى‭ ‬بعصا‭ ‬تعينها‭ ‬على‭ ‬نقل‭ ‬خطواتها،طلبت‭  ‬زجاجة‭ ‬عصير،‭ ‬ساعدتنى‭ ‬حركة‭ ‬العجوز‭ ‬البطيئة‭ ‬على‭ ‬استكشاف‭ ‬البيوت‭ ‬المجاورة‭.‬

سألت‭ ‬العجوز‭ ‬وهى‭ ‬تناولنى‭ ‬العصير‭ ‬عن‭ ‬بيت‭ ‬نعيمة،‭ ‬فأشارت‭ ‬بعصاها‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬المقابل‭ ‬ذى‭ ‬الباب‭ ‬الخشبى،‭ ‬شربت‭ ‬العصير‭ ‬بتأن‭ ‬وأنا‭ ‬أرقب‭ ‬بنشوة‭ ‬جارفة‭ ‬باباً‭ ‬خشبياً‭ ‬تسكن‭ ‬خلفه‭ ‬نعيمة‭. ‬تراءى‭ ‬لى‭ ‬كسجن‭ ‬له‭ ‬جدران‭ ‬مقيتة،ووددت‭ ‬لو‭ ‬أمكننى‭ ‬القفز‭ ‬فوق‭ ‬أسواره‭ ‬العالية،‭ ‬تحطيمه،‭ ‬لكى‭ ‬أخلص‭ ‬نعيمة‭ ‬من‭ ‬سجنها‭ ‬واصحبها‭ ‬إلى‭ ‬حياتى‭.‬

تملكتنى‭ ‬حيرة‭ ‬محببة‭ ‬وأنا‭ ‬ارتشف‭ ‬العصير‭ ‬بصمت‭ ‬له‭ ‬زغاريد‭ ‬مدوية‭.. ‬لكن‭ ‬المفاجأة‭ ‬ألجمتنى‭ ‬حينما‭ ‬رأيتها‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬البيت‭ ‬تغطى‭ ‬وجهها‭ ‬ويتبعها‭ ‬طفلها‭ ‬وزوجها،‭ ‬شعرت‭ ‬بتجمد‭ ‬قطرات‭ ‬العصير‭ ‬فى‭ ‬حلقى‭ ‬المتيبس‭.‬

‮«‬بالتأكيد‭ ‬رأتني‭.. ‬تجاهلتني‭.. ‬ماذا‭ ‬عساها‭ ‬فاعلة؟‮»‬‭ ‬تساءلت‭ ‬بأوجاع‭ ‬المطعون‭: ‬‮«‬ماذا‭ ‬ستقول‭ ‬لى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تعاقدت‭ ‬مع‭ ‬الشيطان‭ ‬فى‭ ‬صفقة‭ ‬دنيئة؟‮»‬

وددت‭ ‬لو‭ ‬أصفعها‭ ‬أمام‭ ‬زوجها‭ ‬وأخبره‭ ‬بعلاقتنا‭ ‬لكنى‭ ‬تراجعت‭ ‬بعدما‭ ‬أدركت‭ ‬انه‭ ‬ضحية‭ ‬مثلي‭. ‬حدثتنى‭ ‬نفسي‭: ‬كيف‭ ‬حدث‭ ‬هذا؟‭ ‬لا‭ ‬أصدق،‭ ‬كلهن‭ ‬خائنات،‭ ‬تمنيت‭ ‬لو‭ ‬بقيت‭ ‬فى‭ ‬غربتى‭ ‬على‭ ‬أطلال‭ ‬حب‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أدرى‭ ‬انه‭ ‬سيحطم‭ ‬على‭ ‬جدران‭ ‬هذا‭ ‬الشارع‭ ‬القديم،‭ ‬صار‭ ‬شظايا‭ ‬أصابت‭ ‬قلبي‭. ‬مزقته‭ ‬ومزقت‭ ‬معه‭ ‬الحقيقة‭ ‬البغيضة‭ ‬القابعة‭ ‬تحت‭ ‬ذاك‭ ‬الغطاء‭ ‬الكريه‭.‬

ارتشفت‭ ‬مع‭ ‬العصير‭ ‬بقايا‭ ‬أحزانى‭ ‬وابتلعت‭ ‬مع‭ ‬خيانتها‭ ‬مرارة‭ ‬عمرى‭ ‬وسنوات‭ ‬أملى‭ ‬وانتظاري،أشارت‭ ‬العجوز‭ ‬بعصاها‭ ‬قائلة‭: ‬‮«‬هى‭ ‬ذى‭ ‬نعيمة‭ ‬وزوجها،‭ ‬يمكنك‭ ‬اللحاق‭ ‬بهما‮»‬‭.‬

لم‭ ‬أنطق،‭ ‬ناولتها‭ ‬مع‭ ‬النقود‭ ‬كآبتى‭ ‬وجرجرت‭ ‬قدمى‭ ‬المتثاقلتين‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭. ‬دفنت‭ ‬رأسى‭ ‬فى‭ ‬صدر‭ ‬أمى‭ ‬و‭ ‬رجوتها‭ ‬أن‭ ‬تسارع‭ ‬بإتمام‭ ‬زواج‭ ‬كانت‭ ‬تعد‭ ‬له‭ ‬بسعادة‭ ‬غامرة،وبعد‭ ‬مضى‭ ‬أسبوع‭ ‬من‭ ‬زواجى‭ ‬بعروس‭ ‬أمى،‭ ‬وقع‭ ‬بصرى‭ ‬على‭ ‬نعيمة‭ ‬وسط‭ ‬الزحام‭ ‬فى‭ ‬سوق‭ ‬المدينة،‭ ‬شعرها‭ ‬المنساب‭ ‬على‭ ‬عنقها‭ ‬وعيونها‭ ‬الواسعة،ممسكة‭ ‬بيد‭ ‬أمها‭.‬

أذهلتنى‭ ‬المفاجأة،تحفزت‭ ‬لمواجهتها‭ ‬واتهامها‭ ‬بالخيانة‭ ‬حين‭ ‬تخون‭ ‬زوجها‭ ‬أيضا‭ ‬وتخرج‭ ‬سافرة‭. ‬كاشفة‭ ‬الوجه‭ ‬فى‭ ‬غير‭ ‬صحبته‭. ‬رمقتها‭ ‬بازدراء‭ ‬وكدت‭ ‬أبصق‭ ‬عليها‭ ‬إلم‭ ‬أجد‭ ‬من‭ ‬نفسى‭ ‬ترحيباً‭ ‬بالالتفات‭ ‬إليها‭ ‬وأسرعت‭ ‬مبتعداً‭.‬

أطلقت‭ ‬يد‭ ‬أمها‭ ‬وهرولت‭ ‬ناحيتى‭ ‬تنادينى‭ ‬بهمسات‭ ‬لا‭ ‬يسمعها‭ ‬سواى‭. ‬تعجبتن‭ ‬بجاحتها‭ ‬وزاد‭ ‬من‭ ‬مقتى‭ ‬لها‭ ‬تلك‭ ‬الابتسامة‭ ‬المصطنعة‭ ‬التى‭ ‬تعلو‭ ‬شفتيها‭.‬تجاهلتها‭ ‬حين‭ ‬مشت‭ ‬بمحاذاتى‭.. ‬حدثتنى‭ ‬بكلمات‭ ‬سريعة‭ ‬لاهثة‭: ‬ما‭ ‬زلت‭ ‬أنتظرك،أخبرت‭ ‬أمى‭ ‬بعلاقتنا‭.‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬تلحق‭ ‬بأمها‭. ‬التفتت‭ ‬ناحيتى‭ .. ‬قالت‭ ‬بابتسامتها‭ ‬الساحرة‭ ‬تداعبنى‭: ‬احذر‭ ‬أن‭ ‬تضل‭.. ‬تسكن‭ ‬البيت‭ ‬المجاور‭ ‬لنا‭ ‬امرأة‭ ‬اسمها‭ ‬نعيمة‭ ‬أيضا‭.‬