«الغزالة رايقة» .. بين توارد الخواطر والتأثر والاقتباس اللحنى

أ.د. إلهام سيف الدولة حمدان
أ.د. إلهام سيف الدولة حمدان

ما هو السر الذي يجعل شخصين يجتمعان في فكرة؟ العديد من المبدعين يدركون أن غيرهم ـ في الوقت ذاته ـ يقومون بكتابة ما يكتبون، أو يعزفون ألحانهم التي مازالوا يفكرون في تأليفها ولم تكتب بعد. إن هذه الظاهرة هي ظاهرة (توارد الخواطر).

والحقيقة أن كثير من الأفكار ترد إلى ذهن الإنسان وبصورة فجائية دون أن يفصح عنها أو أن يسأل عن مصدرها مما يجعلها تمر عليه مرور الكرام ثم يتناساها وهكذا حتى يتعرض لموقف يفصح له مصدر هذه الأفكار عما يدور في ذهنه فتعلو الدهشة لأنها الأفكار  نفسها التي تشغل عقله وتدور في ذهنه. وكثيراً ما تعمل مراكز استقبال الموجات البشرية تلقائياً في مخ الإنسان عندما يصادف أن يصدر الغير هذه الموجات على التذبذب ذاته الذي تستطيع هذه المراكز لتلقيه بجاهزيتها الطبيعية..

إن التخاطر وتوارد الأفكار .. ظاهرتان مختلفتان  وإن كان لهما  الأساس نفسه إلا أن الأولى تعتمد طرفين متجاوبين بينما الثانية تقوم على قدرات طرف واحد من الطرفين. فبينما يكون التوارد بين عقلين نشطين مترابطين باهتمامات مشتركة أو وحدة الدم كصلة القرابة أو يسعيان إلى هدف مشترك يكون التخاطر عقل واحد موهوب يتمتع بالقدرة الفذة والروح الشفافة فيغذي العقول  بينما التوارد هو حالة تشابه فكرية ومادية تتعلق بمثلين تنتج أثراً ألا وهو الاتصال الفكري بينهما في ظروف مواتية.

من المدهش .. أن ترد على مكالمة تليفونية تأتيك عبر رقم غير معلوم لك؛ لتقول فور سماع كلمة “آلو”: أهلاً يا ( فلان )؛ برغم أن هذا الـ ( فلان ) لم تسمع صوته منذ أكثر من عشر سنوات ! ولا عجب في هذا .. لأن “بصمة الصوت” مختزنة في العقل الباطن وموشومة على جدران الذاكرة، وموظف الأرشيف النشط داخل وعي اللاوعي؛ يأتي إليك بملف “البصمة” أمامك صوتًا وصورة ورائحة .. ليمنحك الرد الفوري للترحيب بمن على الطرف الآخر .

والجملة الموسيقية تحمل البصمة نفسها وتنطبع على حائط ذاكرتك؛ لأنها تحمل في طيات إيقاعها “الجينات اللحنية” الخاصة بمبدعها ومكتشفها وصانعها؛ فللوهلة الأولى وأنت تستمع إلى كوكب الشرق بموسيقي مقدمة أغنية “مصر تتحدث عن نفسها”؛ أو قصيدة” النيل” أو “ ولد الهدى”؛ فإنك تعرف من فورك إنه إبداع الموسيقار العظيم/رياض السنباطي . وتستمع إلى “النهر الخالد” أو “ قالت” فتجد روحك في تحليق رائع في سماوات موسيقار الأجيال/محمد عبد الوهاب .. وتستمع إلى موسيقي “ضربات القدر” فتعرف انك في حضرة الموسيقار الألماني العظيم “بيتهوفن” الذي وضع أعظم وأروع سيمفونياته التي صنعت له الخلود بعد إصابته بالصمم؛ لأنه استمع إلى موسيقاه ـ أولاً ـ داخل روحه .. قبل أذنيه !!

فعندما شدَت المطربة العظيمة/فيروز بأغنياتها الرائعة ؛ لم يستنكف “الرحبانية” اعترافهم بأنهم اقتبسوا من روح “التراتيل الكنسية” القديمة معظم ألحانهم التي اشتهروا بها؛ ولكنهم قاموا بتطويرها بالآلات العصرية بما يتناسب وطبيعة العصر ومقتضياته؛ فكان لهم كل التعظيم والإكبارمن جموع المستمعين في الوطن العربي لهذا الاعتراف الشجاع؛ وروعة الاقتباس المحمود من التراث الإنساني .

وعلى الساحة المصرية؛ كان هناك الموسيقار الكبير/محمد الموجي .. الذي اعترف بكل الثقة في ذاته وفي نقاء إبداعاته؛ أنه عندما تصدى لوضع ألحان لكوكب الشرق السيدة/أم كلثوم .. فإنه قال بمنتهى الشجاعة : أنه “تسنبط” قبل أن يشرُع في وضع هذه الألحان؛ وبهذا يعترف ويوثق بكلماته أنه تأُثر بمدرسة “السنباطي” في التلحين، ولم يجد عيبًا في هذا .. بل رأى أن هذا هو قمة الجمال الإنساني الرائع .