لكن السياسة بعد الحرب خذلت نصر السلاح، وخانت الدم، وخطفت النصر العسكري، وانتهت بنا إلي هزيمة حضارية شاملة، انحطت بالبلد وهوت بمقاديره علي مدي الأربعين سنة الأخيرة أكتوبر ليست شيئا من الماضي، بل اتصلت بوقائعها وامتداداتها إلي 30 يونيو 2013 وما بعده، فلم تكن هي حرب الستة عشر يوما، بل كانت حرب الأربعين سنة كبيسة ثقيلة داهسة.   وهذه حقيقة دراما السلاح والسياسة في مصر، وقد انطوت القصة علي مفارقة تاريخ مراوغ، صحيح أننا هزمنا في حرب 1967، وكانت الهزيمة فادحة خاطفة، وصحيح أننا انتصرنا في حرب 1973، لكن النصر صار مخطوفا، وفي اللحظة ذاتها التي سكتت فيها المدافع علي خط النار، لم تهمد النار أبدا علي خط الجبهة منذ اليوم التالي لهزيمة 5 يونيو 1967، ومن معركة  »رأس العش»‬ وإغراق المدمرة »‬إيلات» وحروب الاستنزاف، وإلي العبور الأسطوري ظهر 6 أكتوبر 1973، فقد كانت هزيمة 1967 عسكرية محضة، وكان سببها بتعبير جمال عبد الناصر »‬أن القيادة أصيبت بانفجار في المخ»، لم يحارب الجيش، وتركوه بلا قيادة ولا توجيه، غارقا تائها في رمال سيناء التي شربت دم آلاف الجنود، فوق الانحطاط المذهل لكفاءة عبد الحكيم عامر ورجاله، ومن ثم كانت الهزيمة المذهلة الخاطفة، والتي لم ينتظر الشعب المصري تمام أيامها الستة، وخرجت ملايينه المتدفقة إلي الشوارع والميادين في 9 و10 يونيو، رفضا للهزيمة، ورفضا لتنحي عبد الناصر عن موقع قيادة الأمة، وكان أمر الشعب الذي لا يرد، أن يعاد بناء الجيش من نقطة الصفر، وأن يبدأ الاستعداد للنصر، ثأرا لكرامة الجيش وكرامة مصر، وكان أمر الشعب نافذا مفعولا، كانت مصر العفية تلد جيشها العصري من جديد، وتبني غابات السلاح والصواريخ بجهد قطاعها العام الصناعي وأجيالها الجديدة المتعلمة، كنا بصدد بلد قادر علي صنع المعجزات، لديه إرادة مقاومة فولاذية، ويملك يقينا لا نهائيا بنصر الله للمؤمنين العاملين، فلم تكن في مصر وقتها بطالة تذكر، ولا ترف للسارقين، بل كانت لمصر دولة العدالة والمساواة والإنتاج وتكافؤ الفرص، دولة الاستقلال الوطني والتصنيع الشامل، وكانت معدلات التنمية تعاود صعودها، برغم توجيه غالب الموارد للمجهود الحربي، كانت معدلات التنمية الحقيقية تتجاوز نسبة 4% سنويا في الفترة بين عامي 1967 و1969، ثم زاد المعدل علي الخمسة بالمئة سنويا بين عامي 1969 و1973، كان البلد يملك قوة دفع هائلة من فوائض تنمية عظمي لعشر سنوات سبقت هزيمة 1٩67، جعلت مصر رأسا برأس مع كوريا الجنوبية في معدلات التقدم والتصنيع والاختراق التكنولوجي، وإلي ما بعد حرب 1973، والتي حقق فيها جيشنا نصره العظيم علي جبهة السلاح، لكن السياسة بعد الحرب خذلت نصر السلاح، وخانت الدم، وخطفت النصر العسكري، وانتهت بنا إلي هزيمة حضارية شاملة، انحطت بالبلد وهوت بمقاديره علي مدي الأربعين سنة الأخيرة.   قالوا للناس أن الحرب انتهت، وأن حرب أكتوبر هي آخر الحروب، وأن طريق عبد الناصر وجيشه الذي أوصلكم إلي النصر كان ضلالا وخرابا، وبدأوا في افتتاح مزاد النهب العام بانفتاح »‬السداح مداح»، وعلي حساب الدم المصري، وعلي حساب طبقات الشعب العامل، والتي احتشدت خلف جيشها، ومنحته ماء الحياة، وكامل ضباطه وجنوده الذين قضوا كسبا لكرامة الأمة، أو الذين عادوا من خط الجبهة إلي العاصمة، ليجدوا السياسة الحاكمة تتنكر لتضحياتهم وبسالتهم وعلمهم العسكري، فقد انفكت التعبئة العامة للبلد، وبدأ موسم السرقات بكلمة السادات الشهيرة »‬اللي مش هيغتني دلوقت مش هيغتني أبدا»، وبإضافاته التي لا تنسي من نوع »‬خلي بالك من اسكندرية يا حاج رشاد»، وهكذا بدأ عصر القطط السمان مترادفا مع سلام السادات، ومع أوهام الرخاء الذي ذهب للقلة، وتركوا لأكثرية المصريين فقرا وبطالة وعنوسة ومرضا وجهلا، كان علم نهوض مصر يطوي، وكان الاحتلال السياسي يعود إلي قصر المندوب السامي، ويتكلم الإنجليزية هذه المرة باللكنة الأمريكية المتعجرفة، لا باللكنة البريطانية المألوفة بأوامرها  السارية في مصر الملكية، ثم كان سقوط مصر في بئر الانحطاط التاريخي، والذي جري حفره إلي قاع القاع في سنوات مبارك الثلاثين البليدة الراكدة، وبدت مصر كأنها بلد يستقيل من تاريخه ومن الجغرافيا، ومن سباق العصر، ومن الدور القيادي، ويتحول من بلد قائد إلي جثة منقادة.   وكتب علي مصر أن تتجرع كأس الهزيمة الحضارية الشاملة، وأن تبتلع مرارته، وأن تزدرد »‬التفل»، بتحطيم قلاعها الصناعية الكبري، وتجريف انتاجية الاقتصاد، وتسريح العمال، وشفط الثروة والسلطة، وتفكيك مناعة الدولة بنشر »‬إيدز» الفساد، وترك الحرب علي الجبهة إلي الحرب في الداخل، وتحويل الكتلة الغالبة من المصريين إلي ضحايا بعشرات الملايين، افترسهم العوز والبؤس والمرض، وافترستهم ذئاب النهب العام، ودهستهم أجهزة الكبت العام، وانتقلوا بالحرب من تفكيك الدولة إلي تفكيك المجتمع، حولوا الدولة إلي تشكيل عصابي، وحولوا المجتمع إلي مسحوق بودرة  العفريت، ينشغل فيه كل شخص بهرش رأسه بحثا عن خلاصه الفردي،  وتحول المجتمع إلي غبار بشري تائه، زائغ العينين بين الهجرتين، الهجرة في الجغرافيا بحثا عن الرزق الشحيح، أو الهجرة إلي التاريخ الماضي بظاهرة العودة الدينية المعممة، وبشعور مزدوج تداخل فيه البؤس واليأس، وموت السياسة بمعني الحلم والتطلع إلي الأفضل، وحلول موسم التغييب بتضخم اليمين الديني، والذي خاطب بؤس المصريين كجمعية خيرية، وخاطب يأسهم كجمعية دينية، وهكذا تكاملت سيرة الانحطاط في الدولة والمجتمع، وكدنا نخرج من الدنيا بالجملة، لولا أن ثورة 25 يناير 2011 خلعت رأس الانحطاط في الدولة، ثم جاءت موجتها الأعظم في 30 يونيو 2013، وخلعت »‬القرين» الإخواني، ونفضت مصر عن روحها تراب انحطاط اليمين الديني، وتنكره لروح مصر شعبا وجيشا، وخيانته لصحيح الإسلام.   وهذا هو معني أن حرب أكتوبر تنتهي الآن بالكاد، فقد هزمنا السياسة التي خانت نصر السلاح .