رواية «واجب النفاذ».. استجواب شعبي لتغليظ العقوبة على جرائم النفس

رواية «واجب النفاذ»
رواية «واجب النفاذ»

صدر للروائي الدكتور طارق الزيات روايته الجديدة «واجب النفاذ» عن مؤسسة أخبار اليوم، وهي الرواية الرابعة للمؤلف، والتي يناقش فيها قضية تتعرض لها كل فئات المجتمع دون استثناء، ويقول عنها الناقد الأديب عبد النبي النديم:

عندما يمتلك المبدع موهبة إجبار دموعك على السقوط بغزارة دون إرادتك، وتنجذب إلى عالمه الذي رسمه من وحي إبداعه، وأن تحيا بين دروب وحواري وأزقة الإمكان في روايته، ملتحما بشخصوه، ومتفاعلا مع أحداثه، ومشاركا في قرارته، فهذه شهادة ضمنيه على نجاحه بالعبور بالقارئ والمتلقي إلى البر الذي رسمه له، وتأكيد على موهبة على البناء شديد المتانة للرواية، فالسخاء الشديد في تشابك وتلاحم الأحداث، والفيض الهادر في وصف المشاهد ورسم الشخوص وصناعة المشاهد، فأنت أمام ملحمة أدبية لا تنتمي إلى عصر الرواية الحديثة، فقد عاد بنا الروائي المبدع والحكاء الملهم والملم بجوانب السرد الدكتور طارق الزيات، إلى عقود من الزمن، لتصطف رائعته الجديدة «واجب النفاذ» إلى جانب قامات كبيرة طالما نهلنا منها روائع من صنوف الروايات العربية الرائدة.

 فقد خرج لنا من محرابه حاملا على أكفه معاناة اجتماعية، قد لا يخلو منها بيت في مختلف جنابات المجتمع، ويعاني منها كل صنوف البشر، قد لا يكون في مصر فقط ، ولكن في كل أنحاء البسيطة، ففي إطار روائي محكم يعالج الزيات وصمة عار تندس ثوب المجتمع الأبيض الذي نعيش بداخله، ومشكلة تؤرق كل أب وكل أم أو أخ أو حتى أبن، وهى الجرائم التي تقع على النفس، من قبل بعض المجرمين الذي فقدوا هويتهم الإنسانية، وتخلت قلوبهم عن رسالة السلام التي ينشدها كل مواطن والحياة في آمان، منددا بالقوانين العرجاء التي تفرض عليهم عقوبة لا تتناسب مع جسامة جرمهم، ليخلق لنا في النهاية غضب مجتمعي ممن عانوا وعاشوا المأساة، ليقرروا أن يكونوا سيف القصاص ممن تجردت مشاعرهم من كل إحساس، ولم تعرف قلوبهم معنى الرحمة، وتحولت إلى حجارة أو أشد قسوة، فهم الوباء الذي استشرى في المجتمع دون علاج، والعضو الفاسد في جسد المجتمع ولم يتم علاجه أو بتره، حتى لا يتمدد وينتشر إلى باقي أعضاء الجسد.

إنها صرخة مدوية أطلقها الزيات في «واجب النفاذ» واستجواب عاجل من المجتمع إلى المسئولين لدراسة الظاهرة التي يعانى منها القاصي والداني، على وجه السرعة، لمعالجة الجريمة التي تقتل الإنسان وهو ما زال على قيد الحياة، فما معنى أن يلقى مجرم «ماء نار» على وجه فتاه رفضت الارتباط به فيشوه وجهها.

والزيات روائي طموح.. قدم نفسه بقوة من خلال أعمال إبداعية متميزة، من خلال رواية «عالم آخر» في 2020, وتلتها رواية «ظل رجل» في عام 2020, تم رواية «وهيبة ..الهروب الكبير» عام 2021, ليتوج انطلاقته القوية بالملحمة الإبداعية، التي جمع فيها خبراته الأدبية، مستعينا بخبراته العملية كرجل شرطة سابقا، محاولا الوصول إلى حلول جذرية لمشاكل اجتماعية تؤرق الإنسانية، ويعاني منها كل طبقات المجتمع، متسلحا بدرايته الكبيرة بالبناء السردي للرواية، من خلال الأحداث المتتالية والمتصاعدة، في سلاسة بعد أن بنى جسرا متماسك مع القارئ، في اتجاه واحد ليصل إلى النهاية راضيا بالسير في الاتجاه الإجباري الذي فرضه علينا المؤلف بأسلوبه الراقي، وتصاعد أحداثه للوصول إلى الذروة.. ثم النهاية.

ويحاول الزيات من خلال الأحداث معالجة فكرته في عمله الإبداعي، من خلال عرض لظواهر اجتماعية يعانى منها كافة طبقات المجتمع، وهى الجريمة التي ترتكب في حق أفراده من قبل المجرمين الذين لا يلاقون العقاب الذي يلائم ويتناسب مع عظيم جرمهم، طامحا إلى نمط حياة جديدة، متسلحا بالآمال والأحلام لتحقيقها، من خلال إستراتيجية إبداعية تعتمد على مجموعة أساسية كأعمدة للعمل الروائي، من خلال رصد لمجموعة من الجرائم التي لا يعاقب عليها القانون بالعقوبة المناسبة لجسامة الجرم المرتكب، حددها في مجموعة من القوائم، بدأها بسرد العلاقة العاطفية الجارفة التي تتصاعد بين صفاء المحامية وضابط الشرطة جاسر، التي بدأت ملامحها تتضح من خلال عمل إنساني من الضابط جاسر لـ«رواية» التي دفعتها الظروف دفعا إلى طريق الرزيلة حتى تستطيع دفع إيجار مسكنها، وتوفير نفقات معيشتها هي وأبنائها، وكانت الخطوة الأولى لها في طريق الرزيلة، ليمزق محضر ضبطها على مسئوليته، معرضا نفسه للمسائلة أمام رؤساءه في العمل، من خلال العصفورة بالقسم الذي ينقل كل كبيرة وصغيرة لمأمور القسم، ويطلب جاسر من المحامية صفاء وظيفة لرواية بمستشفي والدها الدكتور الشهير، وتستجيب له، لتحكى لها رواية ما حدث من الضابط جاسر، لينبض قلبها بإنسانيته، وتبدأ كلمات الإعجاب المتبادل بين جاسر وصفاء، خاضعين للقدر الذي ربط بين قلبيهما...
وننطلق من عنوان الرواية «واجب النفاذ» والتي تدور في إطار اجتماعي مغلفة بالصبغة البوليسية، التي استلزمتها الحبكة الدرامية للرواية، وعنوان الرواية يقودنا إلى حتمية إيجاد حلول لمعضلة اجتماعية تؤرق المواطنين ونقطة سوداء في ثوب المجتمع، ودلالة العنوان تشير إلى استنفاذ كافة درجات الحكم، ولا بد من المواجهة بكل السبل المتاحة، فمواجهة هذه الظاهرة التي تعالجها الرواية «واجبة التنفيذ» فورا..


نبدأ من حيث الحدث بعد أن قام ثلاثة من المجرمين بالاعتداء على صفاء المحامية بنت الدكتور الشهير، والتي تم كتب كتابها على ضابط الشرطة جاسر ابن اللواء صاحب المركز المرموق، ووالدته دكتورة النساء الشهيرة، التي لم تبالغ في سعر الكشف في عيادتها، حيث قام المجرمون بإصابة صفاء إصابة بالغة في البطن وجرح نافذ في الوجه من الأذن حتى الفم، وكان زوجها جاسر في نوبتجية مرور وجاءته الإخبارية بوقوع حادث ولم يتخيل أنها صفاء، وأصيب بصدمة عندما رآها هي، ونقلها على الفور لمستشفي والدها الذي استدعى أكبر أطباء التجميل والجراحة لإنقاذ ابنته، ولم يستوعب جاسر ما وقع لزوجته، والتي صاغها المؤلف ببراعة، بمجموعة من المشاعر الجياشة التي نادرا ما نجدها بهذا الوصف في علاقة بين حبيبين، فصفاء كانت رمز للأنوثة الكاملة والحرية في اتخاذ القرار، والحيوية والنشاط وخدمة المجتمع والقلب الكبير الذي يسع الجميع، وجعل من جاسر الرمز المثالي لرجل الشرطة الملتزم بالقوانين التزاما كاملا التي سنتها الدولة، ليمهد لنا الدخول إلى المشكلة الاجتماعية التي تؤرق المجتمع، والتي أصابت زوجته بتشويه وجهها وتعريض حياتها للخطر، عندما كان يلقى القبض على اثنين من المجرمين وحاول البعض أن يتركهم لحال سبيلهم «تكاثر الناس حول جاسر وھم یتوسلون إليه أن یتركھما وأن المسامح كریم، وجاسر متقدم في طريقه لا یلتفت إلیھم، كان ولازال یؤمن أن هؤلاء ھم المجرمون الحقیقیون الذین یھدرون حقوق الناس بسخافتھم ومیلھم المنحرف لمسامحة المعتدین.. 

لا بد أن تقوم الجامعات ومراكز البحث بدراسات معمقة على ھؤلاء المرضى الذي یسعون لطلب السماح لمرتكبي الجرائم، والعجیب أنھم یتوسلون بالله وبالنبي عليه أفضل الصلاة والسلام، تباً لھذه الثقافة البائسة – قالھا «جاسر في سره».
ويبدأ طارق الزيات الحكاية من المواطن البسيط في الشارع، الذي يعتبره ضلع مهم في وجود الظاهرة الاجتماعية التي يعالجها المؤلف، بتوسله لرجال القانون أن يتركوا المجرمون لحال سبيلهم..

وبعد الحادث الذي وقع لصفاء زوجة جاسر يعرض لنا المؤلف المشكلة التي يعانى منها المجتمع على لسان نادر المحامى صديق صفاء في مكتب المحاماة، الذي كان يحبها بجنون من طرف واحد، وذهب إلى المستشفي مع صديقتهم بالمكتب وصاحبة صفاء بمكتب المحاماه «نور»، والذي سألها عن حالة صفاء التي انهمرت عيونها بالدموع، بعد ما رأت ما حدث لها قائلا: «لم يكن نادر بحاجة إلى أن تشرح له نور حالة صفاء، فقد خبرته دموعها عن حقيقة حالتها، دخل وجلس في سيارته وظل صامتاً قرابة الساعة لا يعرف ماذا يفعل، كان أصعب ما يشعر به قلة الحيلة، الفتاة التي أحبها، لا بل عشقها في صمت طوال السنوات الماضية راقدة لا حول لها ولا قوة.. أحط خلق الله قادرين للأسف على تدمير أجمل المخلوقات، قادرين على تحطيم مستقبل واعد، قادرين على قتل الأحلام في ظل نظام قانوني يحتاج إلى أن يجتث من جذوره، نظام يفرط في حماية المجرمين، نظام لا يعبأ بالضحايا بقدر ما يعبأ بالنظريات والمبادئ والسوابق.. أي نظام هذا؟

ثم يتابع المؤلف في حوار بين نادر وجاسر حول هذه الجرائم التي تمثل ظاهرة منبوذة في المجتمع وصفاء كانت آخر ضحاياها ويجب مواجهتها بكل قوة: « نزل نادر من السيارة وعاد إلى المستشفي وطلب مقابلة جاسر فخرج له جاسر من غرفة صفاء، وقال له: خير يا أستاذ نادر؟
قال له نادر وهو منفعل.. ماذا ستفعل؟
في أي موضوع؟    
المجرمون الذين تعدوا على صفاء.. أقصد الأستاذة صفاء.
أحيلوا إلى محاكمة عاجلة..
محكمة.. هل السجن عقاب كافي جزاء ما فعلوه؟
لا بالطبع.. ولكنه القانون.
القانون عاجز..
وهل هناك أي حل آخر؟
لا أعرف.. أنت رجل أمن.. لماذا لم يقتلوهم وهم يقبضون عليهم؟
أنت تريد قتلة لا رجال أمن.. اهدأ يا أستاذ نادر، الأمر صعب علينا كلنا.. ولكن لو أخذ كل منا حقه بذراعه لتحولنا إلى غابة..
نحن في غابة إن كنت لا تدرى..
ربت جاسر على كتف نادر وقال له:    
نحن نتعامل بحياد وفي إطار القانون حتى تصل الجريمة إلينا، وتطرق يدها الثقيلة على أبوابنا، فتربكنا وتشوش أفكارنا، وتجعلنا نكفر بكل ما نؤمن به، ولكننا رجال قانون أولا وأخير ..
ثم ينتقل بنا المؤلف إلى شرح أوسع للقضية التي يعالجها براويته «واجب النفاذ» على لسان جاسر الذي دخل إلى مكتبه وطلب ملف جرائم الاعتداء على النفس: «قلب جاسر الملف وبدأ يقرأ .. بتاريخ كذا اختطف طفل البالغ ست سنوات، وهتك عرضه.. بتاريخ... تشاجر معه... وطعنه بمطواة أصابت معدته وأردته قتيلا.. ووجهت له تهمة ضرب أفضى إلى موت... بتاريخ.. دست السم لابن شقيقها البالغ من العمر ثمان سنوات بسبب الغيرة من أمه.. وغيرها من القضايا..

أغلق جاسر الملف.. ودق بقبضته وقال.. هذه غابة .. ما كل هذا الشر، ما هذه الجرأة، ماذا يمكن أن يردع الناس، أحكام بالسجن والإعدام وتتكرر الجرائم كل يوم وزهق الأرواح كل يوم ولا يتعظ احد، لا يوجد مجتمع خال من الجريمة، ولكن لا يمكن أن يتعايش مجتمع مع هذا الكم البشع من الجرائم، لا بد أن هناك شيئا خطأ، لا بد أن توجد وسيلة للردع أكثر فاعلية..
السرعة.. نعم السرعة .. فالعدل البطئ ظلم، والتشدد في الإجراءات مع ثبوت التهم بشكل يقيني هو ظلم بين للمجني عليه، تحقيق المشروعية على حساب العدل خلق عدالة منهكة مستنفذة الطاقة...»
ثم ينتقل بنا الدكتور طارق الزيات إلى حوار آخر أكثر عمقا وأكثر خبرة ومعلومات في الحوار بين جاسر ضابط الشرطة وصديقه وكيل النائب العام «مختار»، الذي يبحث عن سبب المشكلة الاجتماعية بانتشار الجريمة على النفس بكل أشكالها دون رادع أو عقاب يلائم حجم الجرم المرتكب، فهذا حوار بين قاض وضابط شرطة، عنصرا التنفيذ والتحقيق في الجرائم التي ترتكب في حق المواطن الآمن في وطنه، والذي يعتدي عليه من غير ذنب اقترفه سوى أن هناك مجرم حر طليق لا يراعى أن كل من يعيشون بجواره من حقهم العيش في آمان، ولا يبالى بقوانين الدولة البالية التي لا تتناسب عقوبتها مع جسامة الجرم المرتكب: « ... ثم هل تضمن أن يحكم القضاء بذات السرعة.. بالطبع لا.. القضاء مقيد بالقانون..

صحيح ولكن القانون يمكن تعديله، وسد ثغراته، وخلق توازن بين المشروعة والعدالة والعدل، كيف تهدر دليل غير مشروع وأنت متاكد أن المتهم ارتكب الجريمة.. هذه هي دولة القانون والمشروعية ..
تعنى دولة العدالة وليس العدل..
تستطيع أن تقول هذا وإن كنت أرى الفروق ضئيلة.. 

لا طبعا .. بينما تسعى المشروعية لتحقيق العدالة للمجتمع بصفة عامة فإن النص الجنائي ينطوي على شقين، شق يتعلق بتحقيق الردع العام وينسجم مع أهداف المشروعية في تحقيق العدالة، وشق يتعلق بالردع الخاص وهو عقاب الجاني نفسه وردعه وما يترتب عليه من شعور المجني عليه ومحيطه بتحقق العدل..
لكن المشروعية هي مسار تحقيق العدل والعدالة.. 
لكن المجني عليه يريد العدل وغيره معني بالمشروعية والعدالة، وإذا لم يتحقق العدل بسبب إعلاء شأن المشروعية والعدالة فتيقن أن هذه المجموعة ستعيش فترة من الزمن بل ستجد حصانة شعبية.

وفي ظل هذه الحوارات الدائرة بين أبطال الرواية في حبكة درامية تتسم بالموضوعية، في حوار شيق استطاع الروائي الدكتور طارق الزيات أن يجذبنا بطريقته المثالية وأسلوبه السلس البسيط، وعباراته الرصينة أن يطوف بنا داخل أعماق طبقات المجتمع، ونعيش معه لحظات إنسانية قد تمر على الكثير منا، ولا نستطيع التعبير عنها، ليخرج علينا المؤلف بالحل الذي أجبر الجميع على الرضوخ له، والتعاطف مع أعماله التي تمثل جريمة، ولكن اتخذت شكل القصاص من المجرمين الذين أرَقوا المواطنين الآمنين، فقد خرجت مجموعة أطلقت على نفسها « واجب النفاذ» ترصد المجرمين في مختلف أنحاء الوطن، يرصدوا مرتكبيها، ويقوموا بالقبض عليه، ويقوموا بتنفيذ الحكم العادل عليه، من قتل يقتل، ومن أحرق يحرِق يُحرق، ومن ألقى ماء النار على وجه فتاه وقضى على مستقبلها، وحكم عليها بالموت كما أقر المؤلف في أكثر من موضع في سياق السرد، باعتبار أن الفتاة التي يشوه وجهها بماء النار فهي في حكم المقتولة..

وكان أول إجراء من جماعة «واجب النفاذ» الملثمة هو القصاص ممن اعتدوا على الأستاذة صفاء المحامية، فقد ترصدوا للمجرمين، وقاموا في خفه متناهية بذبحهم أمام أعين الجميع أثناء دخولهم إلى المحكمة، وأمام أعين رجال الحراسة من الشرطة، ثم أصدروا بيانا أن جماعة واجب النفاذ إذ تؤكد أنها ستنال من كل من تسول له نفسه الاعتداء على مواطن آمن في بيته ووطنه، فهم من يقتصون منه، ولن يثنيهم عن فعلهم هذا وأداء واجبهم تجاه المواطن، إلا بتعديل القوانين التي لا تليق بجسامة الجرائم التي ترتكب في حق المواطنين، وحادث بعد حادث تنال مجموعة «واجب النفاذ» من المجرمين، حتى خفت صوت الجريمة، وقلت معدلاتها بشكل لافت للنظر، الأمر الذي وضع أجهزة الشرطة في حرج، واضطرتها إلى إصدار بيان في سياق السرد بالرواية حيث يقول المؤلف« كانت فرق البحث تعمل في كل اتجاه، وتزايد التفاعل الشعبي وأصبح الخطر داهما، الغريب أن جرائم التعدي على النفس قد تناقصت بشكل ملحوظ، بل إن حالات التعدي كانت تقابل بكلمة واحدة، سنرسل اسمك إلى واجب النفاذ، أصبح هناك شعورا أن الدولة تخسر ملعبها التقليدي في حماية المواطنين لصالح مجموعة وصفت بالخارجة على القانون..

وأصدرت وزارة الداخلية بيانا تتعهد فيه بتقديم الحماية التامة للمواطنين، وأنها تتعامل بمنتهى الجدية مع بلاغات المواطنين .....
ولم تكن هذه البيانات الرسمية تلقى صدى فقد كان الأمر الذي حشد دعما كبيرا لـ«واجب النفاذ» هو السرعة والقصاص الفوري وبذات الطريقة كما أن النتائج على الأرض كانت من وجهة نظر الناس إيجابية، وكان المذهل أن تصدر واجب النفاذ بيانا واحدا .. كانت إشارة واحدة لجريمة التحرش كفيلة بردع المنحلين، الذين ينهشوا عرض المجتمع دون رادع فيما قبل مجموعة واجب النفاذ.. 

وتزداد الأمور تعقيدا بعد قتل الأمين شحاتة، بعد دفاعه عن سيدة أثناء تواجده في الطريق العام بعد انتهاء وقت عمله الرسمي، والذي سرده لنا المؤلف في حوار جاسر واللواء عبد الغفار حول قرار النيابة بضرب أفضى لموت..
«كيف يا فندم من قتل الرجل بدم بارد ينتهي بضرب أفضى إلى موت.. سبع سنوات، هل هذا عقاب من أزهق روح كل ذنبها أن صاحبها لديه نخوة لقد كان خارج الخدمة كان يمكن أن يدير ظهره ولكنه رفض..
وهل نستمر على هذا المنوال ..
نعم حتى يتغير القانون..
هل تعرف عبد الغفار بيك بدأت أشعر أن مجموعة واجب النفاذ محقه..
نحن واجبنا أن ننفذ القانون، وهناك مجلس النواب عليه أن يؤدي دوره 
إذا لن نرى تعديلا واحدا في حياتنا..

وفي المقابل تصدر واجب النفاذ بيانا تؤكد فيه: «أن التعدي على رجال الشرطة وقتلهم بدم بارد وما ينتج عن وصف الجريمة بضرب أفضى إلى موت يفقد المواطن الثقة ويوحي برخص الدماء ولذا لزم تحقيق العدل للضحية الذي قضى نحبه وهو يدافع عن مواطنة انتهك حقها في الأمن، أن مجموعة واجب النفاذ تتمنى لو كفت عن نشاطها ولكنها لن تكف حتى تتغير القوانين خاصة في جرائم القتل والإيذاء البدني والتشويه.. وأن تشويه الوجه هو جريمة أعظم من جريمة القتل ويجب أن يعاقب عليها بالإعدام..»
وهنا كان قمة المأساة التي يعانى منها المجتمع، فمقتل رمز الأمن والآمان المتمثل في الأمين شحاتة، والتي يعلل بها على أن أجهزة الأمن في دفاعها عن نفسه عاجزة عن تحقيق القصاص التي حققته واجب النفاذ من قتلة الأمين شحاتة..
وهنا دق جرس الإنذار والذي جعل من رجال الشرطة التمني للانضمام إلى مجموعة واجب النفاذ للقصاص من داء المجتمع المتمثل في المجرمين الذين فقدوا هوية المواطنة، ونزعوا الإنسانية من قلوبهم.

ويترك لنا المؤلف الباب مفتوح عن كشف هوية أعضاء مجموعة واجب النفاذ، حتى إسدال الستار في النهاية.. ليكشف لنا المؤلف عن هويتهم، التي كشفت لنا أن كل فرد في المجتمع قد يكون عضوا في واجب النفاذ طالما لم يحقق له القانون القصاص المناسب، الأمر الذي تمناه رجال القانون أنفسهم، في صرخة مدوية للقائمين على التشريع في الدولة، أن العقوبة لا أن تكون بقدر جسامة الجرم المرتكب، فتشويه وجه صفاء وموتها كان دافع لكل المحيطين بها في تحقيق القصاص العادل، وتنفيذ دولة العدل، فنادر ونور وراوية حتى الساعي بمكتب المحاماة أنضم للمجموعة كرد فعل قاسي على ما حدث من جرم في حق من كانت تساعده خفيه دون علم أحد، وكان دوما تناديه باسم الدلع.

وعرج بنا الدكتور طارق الزيات للكشف عن هوية أعضاء المجموعة بطريقة تثير بداخل القارئ أحاسيس متضاربة عن الموقف الذي سيتخذه جاسر بعد زواجه من نور ويكتشف الحرق في يديها نتيجة إصابتها في إحدى عمليات القصاص، التي قامت بها المجموعة عقب تشويه أحد المجرمين لوجه فتاه ، ليركن جاسر في النهاية إلى دولة العدل ، لا إلى دولة القانون..

ومن خلال الإبحار في دروب واجب النفاذ، تظهر لنا مدى عناية المؤلف وشغفه بوصف المكان وجغرافية البشر أكثر من العناية الفكرية عموما والنفسية لأبطال روايته، على الرغم من عدم تقصيره في سرد الحالة النفسية والاجتماعية، فالوصف النفسي والفكري أعمق بمراحل, ودليل عميق على تفكير المؤلف، كما أن البيئة الأدبية التي عشنا فيها مع الروائي طارق الزيات أظهرت لنا تفاصيل النص من خلال نقد بنيوي صرف يظهر في البيئة الفنية، والتي بناها المؤلف من لغة سلسلة واضحة وأسلوب متميز ، كما أهتم بالبيئة العاطفية من خلال الغوص في دهاليز نفسيه لشخوص أبطال الرواية التي بناها الزيات وتوازنها مع البيئة الفكرية بنجاح دون أن ترجح كفة أحدها على الآخر،

 فالبيئة الفكرية في «واجب النفاذ» تبين لنا قوة عمق تفكير المؤلف وقوة رسالته من خلالها, والتي أظهرها الحوار الدائر بين شخوص الرواية, بعصف ذهبي من زوايا مختلفة للرواية التي تلاقي القبول في فكر المتلقي وتعايشه وكأنها تجادله أو تحاوره، فالبوصلة الفكرية تلاحمت مع البنية الأدبية لنص واجب النفاذ, والتي تظهر لنا مدى إخلاص الروائي  لرسالته ومعرفته التامة بتقنيات العمل الروائي بدقة, وبما يجب فعله للانتصار بفكرته, وقوة تأثيرها وقوة إقناعه للقارئ بما يقدمه من أفكار قيمة قوية, تقيم العمل كله كوحدة واحدة، فالقارئ لواجب النفاذ يلتحم مع النص ويتفاعل مع الأحداث صعودا وهبوطا، حتى النهاية دون ملل، لقوة الفكرة للرواية، وطريقة المعالجة، ورسم الشخوص بإتقان بتوليفة محكمة, من خلال الحبكة الروائية قد تكون معقدة الدهاليز, ولكن بسيطة في تناولها وعميقة في فكرتها، في تصاعد مستمر على النهاية والحل النسبي, الأمر الذي يشير بحرفية إلى ذكاء اللعبة الدرامية, والفنية الروائية الماكرة لرواية واجب النفاذ، التي تتناسب مع تكوين الشخوص ومسارهم السلوكي خلال أحداث الرواية المتلاحقة، حتى يصل بنا الدكتور طارق الزيات إلى النهاية ولب الفكرة وجدوى العمل الإبداعي التي أظهرت براعة المؤلف في إرضاء قارئه وعدم جعله يندم على ما قرأ, دون مواربة ولا محاباة لتكريس نهاية سعيدة قد تكون خدمت الفكرة بتوصيل الأمر إلى القائمين على سن القوانين في الدولة إلى النظر في الجرائم التي ترتكب في حق المواطنين لتشديد العقوبة لتناسب الجرم المرتكب، التي ظهرت لنا جلية من في واجب النفاذ، فقد أشارت البوصلة الفكرية بجدارة عقد المحبة والترابط بين الزيات والقارئ بإقناعه بوجهة نظره وجسامة الفكرة التي يتناولها في روايته.

اقرأ أيضا: في «ظل رجل».. لوحات من حياتك تحمل خيطا رفيعا بين الواقع والخيال