منى لطيف.. أربعون شراعاً إلى الحياة المستديمة

منى لطيف..  أربعون شراعاً إلى الحياة المستديمة
منى لطيف.. أربعون شراعاً إلى الحياة المستديمة

كتب:وليد الخشاب

تركت منى لطيف غطاس هذا العالم بجسدها يوم الرابع والعشرين من ديسمبر 2021، وكأن جسدها الشغوف بالحياة متجددة الميلاد وبالمفارقات الشعرية قد أبى ألا يرحل عن هذه الدنيا إلا فى ليلة عيد الميلاد بالتقويم الجريجوري، عيد تجدد الحياة بلا نهاية سوى الحياة، وقد كتب بلحمه وغيابه معاً آخر مجازات منى لطيف، وكأنها تقول فى قصيدة ختامية: «أولد فى عالم الأبدية يوم الميلاد».أو: «أنا والمسيح رفيقا رحلة الشعر والحياة».

منى لطيف المصرية حتى النخاع هى أشهر الشاعرات المصريات الكنديات الكاتبات بالفرنسية على ضفاف النيل، وأقدمهن فى التمتع بتلك الشهرة، منذ عادت إلى مصر فى رحلة تصالح شعرى مع بلادها فى مطلع ثمانينات القرن العشرين لتطبع فى مصر بدار إلياس ديوانها الأول: «ترانيم الكروان»، وروايتها الشعرية الأولى: «نيقولا ابن النيل». ومنذ ذلك الحين تعود منى فى رحلة سنوية إلى مصر لم تنقطع عنها إلا قليلاً، تستمد طاقة الحياة من التواصل مع الناس والأرض.


أول كتبى المنشورة كان ترجمتى إلى العربية لديوان منى ترانيم الكروان»، وهى صاحبة العنوان بالعربية. فقد أردت أن أترجمه «أناشيد الكروان»، لكن منى صممت أن يحمل العنوان تلك الروح الدينية بمعناها الصوفي، ففضلت تعبير «الترانيم» ذا الصبغة الروحية المسيحية. ذكرى الترانيم كانت تعيدها إلى مدرسة الراهبات الفرنسية: «القلب المقدس» أو «السكركير»، حيث أمضت كل سنين طفولتها ومراهقتها.

وحيث كانت الترانيم هى الشكل الموسيقى الأهم فى محيطها السمعي.

كان هذا أول ديوان يصدر لمنى بالعربية، وتلته دواوين عديدة ترجمها أسامة نبيل ومى التلمساني. وصدرت لمنى رواية واحدة بالعربية.

رغم تعدد رواياتها المكتوبة بالفرنسية، وهى رواية «ميمى ولولو» من ترجمة مى التلمسانى ووليد الخشاب.


كنت فى الثامنة عشرة عندما التقيت منى بالقاهرة للمرة الأولى فى حياتي. نَظَمَ لها المركز الثقافى الفرنسى قراءة شعرية تعرض بشكل درامى مسرحى مقاطع من كتابيها الأولين «كروان» و «نيقولا» فى عرض شارك فيه مدير المركز آنذاك: الممثل المحترف والمثقف البارز بيير كونت، والإذاعى المخضرم جاك العيسى، والفنانة والإذاعية عصمت رأفت (شجرة الدر فى مسرحية «سيدتى الجميلة»).

والصوت الشاب آنذاك وليد الخشاب. ومنذ تلك اللحظة، وعلى مدار ما يقارب الأربعين عاماً، ومنى شعراً وشخصاً جزء من عالمى الأدبى والأسري.وفى حياتى وحياة أسرتي، منذ انتقلنا إلى كندا، كانت منى شاهداً على ربع قرن من النضج والحياة بين جزيرتين يفصل بينهما محيط: مصر وكندا، الأرض والسماء، الثبات والمغامرة.


الغربة والمنفى
ربما يتبادر إلى الذهن أول ما يتبادر أن التيمة الرئيسية عند منى هى غناء الغربة أو المنفى وتأمل الاغتراب فيهما.

وتشير عنوانين دواوينها ورواياتها الأولى صراحة إلى الغربة باستخدام المصطلح الذى يعنى «المنفى» بالفرنسية والإنجليزية، مثلما فى ديوانها المترجم إلى العربية -وإن لم يُقَدَر للترجمة أن تُنْشَر-: «أربعون شراعاً للمنفى (أو نحو الغربة)» وفى روايتها الشعرية: «حكاية المنفى المزدوجة». فى «أربعون شراعاً» تأملات فى ذكريات الطفولة والشباب بمصر وتحمل للراحة «الجليدية» التى تمنحها الغربة فى كندا: تحقق على المستوى العملى ومستوى المعيشة، وانقطاع عن الأهل والأرض الأصلية/الأصيلة، أرض النيل.

ولذلك ربما كانت «الغربة» هى المعنية فى ذلك الديوان، وإن كانت المفردة الفرنسية المستخدمة تحمل عن قصد معنى ملتبساً يشير إلى المنفى. والالتباس يشمل بنية النص نفسه، إذ هو ديوان شعرى لكن محمل بالسرد وبالسيرة الذاتية. 


أما فى «حكاية المنفى» فالغربة هى المنفى بكل وضوح فى تلك الرواية المكتوبة نثرا لكن بلغة تحمل كثيراً من جماليات البيان الشعرى وشيئاً من الواقعية السحرية، أو بمعنى أدق: شيئاً من السحر المختلط بواقع الحكاية. تحكى الرواية لقاءًا بين امرأة تعيش غربة ومنفى على أرض مولدها كندا، ورجل هرب من الأناضول بتركيا لاجئاً إلى مونتريال بكندا. هى سيدة ترجع أصولها إلى جذور شعوب سكان كندا الأصليين، وقد حملت حتى فى اسمها غربتها، تدعى مادلين -اسم غربى أوروبي- بينما كانت فى أزمنة سحيقة تدعى مانيتاكاوا.

وهو لا اسم له، وإن كان الناس يسمونه فى صحراء الأناضول «فولة المجنون». ولأن المرأة من الشعوب الأصلية تستدعى صورة الربة الأم السائدة فى ثقافات تلك الشعوب، فهى تقوم بالدور نفسه فى الزمن الحديث وتستضيف ذلك اللاجئ الذى دخل كندا بلا أوراق «شرعية».

 

تتضافر هنا رمزية الأم الحامية، مانحة الدفء والغذاء، مع رمزية «صحبة الأرض» الأصلية التى تمنح الشرعية الحقة للاجئ باستضافته، رغماً عن إجراءات وقوانين السلطات «المستعمرة» البيضاء القادمة حديثاً -منذ بضعة قرون فقط- إلى كندا.


سياسة الأسماء دائما ما تلعب دوراً حيوياً فى أعمال منى.

فى تلك الرواية، كما فى غيرها، للمرأة/الأم/العاشقة دور محورى واسم أسطوري، يعزز من سطوته غياب الاسم «الحقيقى عن البطل/الحبيب/الابن المجازى الذى يسمى «فولة»، وإن حمل أيضاً من أراضى الشرق اسم نموذج العاشق الأصيل: «المجنون» الذى يذكرنا بمجنون ليلى، والذى يحيلنا بذلك إلى علاقة مثيرة. فتعريف هويته هو كونه مضافاً نحوياً ومنجذباً عاطفياً إلى النموذج الأصيل للمعشوقة ليلى/مادلين.وسياسة الأسماء تلك تتجلى بوضوح أكبر لأبناء الثقافات العربية فى رواية أخرى لمنى: «أصوات الليل والنهار» (فى أصلها الفرنسي: «أصوات النهار والليل»)، وهى رواية شديدة المجازية والشعرية، مكتوبة بحس يلامس تخوم الملحمية، بطلتها الأسطورية العابرة للأزمنة والقارات تكافح لتعيش وتمنح الحب والأمان لمن حولها، فتدعمهم وتنصحهم ولو بالمثال الذى تقدمه بحياتها، فتستحق اسمها فى الرواية وهو «ست الكل» مكتوباً هكذا بالفرنسية، بالحروف اللاتينية.


امتزاج الثقافات وبناء الحوار
تمتزج الثقافات فى دواوين منى ورواياتها، ويمتزج الواقعى بالأسطورى والعام بالذاتي. فروايتها الأولى «نيقولا ابن النيل» هى سيرة ذاتية مكتوبة شعراً فى قالب السرد، تحكى عن قصة جدها وأبيها، وتعرض تاريخ عائلتها ذات الأصول الشامية التى توطنت مصر فى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، والتى بنت لنفسها مكانا فى المجتمع المصرى بفضل مصنع أبيها الذى كان يمارس الأعمال بحس الشاعر، ويدعم عماله بحس النقابى لا بموقف رجل الأعمال.


لكن تعدد الثقافات ومواقف الأنا ومنابر الحكى عند منى ليس فقط مرهونا بموضوعة الغربة والمنفى، بل هو أساس بنائى فى أعمالها.

لذلك يغلب على دواوينها ورواياتها الحس الدرامي، الذى تغذيه المقابلات (الليل/النهار؛ الشعوب الأصلية/الوافد الأوروبي؛ أرض النيل الخصبة/أرض الجليد، إلخ.) وكذلك يبرز تعدد الأصوات فى أعمالها، أو تعدد بؤر الحكى التى تتبع هذه الشخصية أو تلك،

ولذلك تبدو بنية أعمالها السردية حوارية بمعنى أنها تجسيد لحوار بين بشر مختلفين وبين ثقافات متباينة يجمعها العشق والبشرية، حوار مثلا بين الساكنة الأصلية واللاجئ المهاجر، أو حوار بين الليل والنهار، أو بين أرض الميلاد وأرض المهجر، أو بين الماضى الحقيقى أو الأسطوري، والحاضر النثرى المشوب بالحنين.


ومع غلبة الحس الشعرى على روايات منى، فإنها كتبت عملاً فريداً أعتبره من أجمل أعمالها السردية: حكى بسيط، بلغة مباشرة، شديدة التركيز والمباشرة والواقعية فى المجموعة القصصية،أو المتتالية القصصية «ِشهور العسل». تختلف تلك المجموعة لغوياً.

وفى «نبرتها» عن معظم روايات منى لانغماسها فى الواقعية، والتى نظلمها لو خلطنا بينها وبين النثرية. فهى مجموعة قصصية مكتوبة نثراً، لكنها ذات قيمة إنشائية عالية، وإحكام فى البناء، تعرض دقائق حياة المهاجرين المصريين ذوى الأصول الشامية إلى كندا، مركزة على التفاصيل، واليومي، والحميمية فى تلك الطبقة الوسطى التى حملت إلى كندا عاداتها وحياتها المصرية. وتكشف بمنظورها عن تصورات تخالف الكليشيهات المعتادة عن المهاجرين إلى الغرب، فبعضهم لم يتحقق مهنيا أو اجتماعيا بالقدر الذى يتمناه، وبعضهم مشغول بالحياة داخل جماعة/طائفة محدودة دون الانفتاح على المجتمع الأوسع، وبعضهم غارق فى دوائر المغامرات العاطفية خارج الزواج، والكل أسير النميمة والاغتياب فى عالم ذلك الكتاب.


التقيت منى للمرة الأخيرة قبل رحيلها، منذ شهرين، فى غرفتها بالمستشفى، فكانت على العهد بها ممتلئة بالحيوية وبالحكايات.

ولأنها كانت دوماً لأولادى بمثابة الخالة الكبرى فقد أوصتنى بهم وصية تكتسب الآن مكانة أسطورية.

لم تذكر شيئاً عن أعمالها ولا عن الأدب والثقافة، ربما لأنها تركت لنا مئات الحكايات مما نشرت، وآلافاً مما لم تنشر. وربما لأنها كانت تعرف أن صوتها سوف يظل حيا يرن فى أذن محبيها، ويتردد صداه فى كتابات عنها، بلا حاجة لأن نقول ذلك بالكلمات.كانت كالعهد بها حكيمة وداعمة، وسيدة «شيك» فى كل الأحوال من طيش وتأن، من غضب وفرح، من حلم وتصرف واقعي.
وتظل منى- بشخصها وكتابتها- قريبة إلى القلب والذهن، إلى بدايات البدايات وأقصى مدى للانهاية..

 

اقرأ ايضا | في ذكرى وفاته .. محطات في حياة أمير الشعراء أحمد شوقي